أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - زهور الإسفلت قصة قصيرة














المزيد.....

زهور الإسفلت قصة قصيرة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 7066 - 2021 / 11 / 3 - 09:16
المحور: الادب والفن
    


تدوي الصرخة منتصف كل ليلة ، تمزع الفضاء باهتياج وحشي غريب كأن مئة رجل ينزفون معا أوجاع آلاف السنين، تشق الفضاء، أهرول إلى نافذة الصالة. أخرج رأسي منها، أتلفت يمينا ويسارا لكن لا أرى أحدا غير كلاب تعوي تفر من الصوت وذيولها بين قوائمها إلى أسفل السيارات. ليلة بعد الأخرى تنداح الصيحة بعمق وألم وقوة حتى أقضت مضجعي وأغمتني فصرت أترقبها عند النافذة ربما أصل إلى شيء. لمحت الآن رجلا قادما من مدخل الشارع يمشي ببطء وكفاه مرفوعتان إلى السماء يضج بالصرخة الحارة، ثم اختفى ولم يظهر في اليومين اللاحقين. أطل الليلة من جديد لكنه بدا لي سريع الحركة وأقل حجما من ذاك الذي رأيته في المرة الأولى. تابعته ببصري. انعطف يمينا وتوارى، لكن صدى صرخته ظل معلقا في هواء شارعنا برهة. رقدت في حجرتي أحدق بالسقف وانثالت على أحزان قديمة غريبة من طفولتي، من شقاء والدي الصعيدي المغترب، وبؤسه، حتى أننا لم نكن نطالبه بشيء، وكنا نعيش على عطايا الأقارب وعطفهم وملابس أولادهم.
صباح اليوم التالي أخذت أستفسر في الشوارع المحيطة عن ذلك الذي يصرخ كل ليلة. سمعت حكايات منها أنه فلاح اغتصبوا أرضه، وأنه شاب كان عنده كشك سجائر أزالوه لتوسعة الشارع، ثم فوجيء بمحل تجاري كبير مكان الكشك، وأكد لي آخر أن الحديث يدور عن محام كان معروفا، اعتقلوه ثلاثة أعوام وخرج بعدها ذاهلا إذا فتحت معه أي موضوع حملق فيك سائلا : " طيب.. وأين القانون الذي درسناه؟"، ثم قال أحد الجيران إن الذي يطوف الشوارع ليلا عامل بسيط كان ابنه متفوقا، وحين تقدم للالتحاق بالعمل في السلك الدبلوماسي رفضوه لأنه:" غير لائق اجتماعيا" فأصابت أبوه لوثة وجن . سمعت حكايات كثيرة مختلفة حتى أيقنت أن هناك عشرات ممن يجوبون الشوارع صارخين، أو أن هناك شخصا واحدا بعشرات الوجوه والحكايات.
وقفت الليلة كعادتي عند النافذة أنفث دخان سيجارتي، أترقب صرخة الرجل وظهوره. تذكرت والدي في أيامه الأخيرة وهو عاجز عن التعرف الينا. لبثت واقفا حتى ارتج الهواء من الآهة العميقة، وظهر الرجل يتطوح بين ظلال الأشجار وأعمدة النور. هذه المرة كنت متأهبا بكامل ملابسي لأتعقبه ربما أستطيع أن أساعده. هبطت من شقتي بسرعة، ورأيته وأنا عند مدخل العمارة من ظهره. سرت خلفه من على مسافة. اخترق الشارع صارخا ثم انعطف إلى زقاق ضيق، وهناك تمهل وراح يتطلع إلى شرفات البيوت الناعسة ثم واصل سيره إلى ميدان تتوسطه صينية. توقف يلتقط أنفاسه كأنه ينزف عذابا، ثم دوت صيحته مستجيرا مسترحما، ومشى إلى أن بلغ بيتا مهدما يطوقه حائط منخفض. وثب من فوق الحائط إلى الناحية الأخرى. أسرعت ووثبت خلفه. رأيتني في خربة مهجورة تعلو فيها الأشواك وتتجول القطط وتتراكم القمامة في جنباتها. جلت بعيني يمينا وشمالا أفتش عن الرجل فلم أره. تعجبت، أين يمكن أن يختفى؟. تململت في وقفتي فارتطمت قدماي بجسم حديدي بارز عن الأرض. هبطت ببصري لأسفل فرأيت شبكة من قضبان صدئة مثل غطاء بالوعة. انحنيت وغرزت ركبتي في الأرض. رفعت الغطاء بيدي فبانت لي فتحة مستديرة تتسع لنزول شخص. أيعقل أنه يعيش في هذه الحفرة؟! قررت الهبوط إلى أسفل. بدأت أنزل وقدماي تتلمسان سلما ضيقا درجة بعد الأخرى. وما إن توقفت عند الدرجة الأخيرة حتى هب علي بقوة هواء مشبع برطوبة ثقيلة، وقبل أن تعتاد عيناي على العتمة هاجمتني حلقات من هاموش صغير، دفعتها بيدي وأنا أحدق في ما حولي. كنت في قبو مرتفع السقف يسبح في زرقة كابية، وعلى مد الشوف تمايلت غير بعيد خفقات شموع بمداخل ورش نجارة وحدادة، وظلال أكواخ، وأشباح رجال ونساء تروح وتجيء مع ضربات مطارق وآلات العمل. لبثت مبهوتا لا أصدق أن تحت الأرض حياة كهذه، إلى أن راحت تتضح من غمرة الظلال طوابير من البشر تتقدم ، تتجاور، وتتفرق، وتتسع، تقترب مني وتتطلع إلي بوجوه هامدة في ثبات مرعب. أيعقل أن يعيش تحت الإسفلت شعب بأكمله لانعرف أننا ندوس عليه كل يوم ؟ من بين الجموع برز طفل صغير على جبهته طفح جلدي وبيده شيء مثل لقمة خبز أو قطعة لحم، وقف أمامي وفتح في عينيه بنظرة غريبة مشبعة بدفء وظلام وجذور عميقة. هالني ما حولي وقررت أن أعود إلى السطح. رفعت قدمي لأعلى درجة بعد أخرى وأنا لا أحيد ببصري عن أكتاف ورؤوس الطوابير الغارقة في العتمة الزرقاء. وصلت صعودي حتى شعرت من فوق بحركة هواء السطح النقي. جريت في الخربة إلى الحائط المنخفض ووثبت فوقه إلى الجهة الأخرى، ورحت أتخطف الهواء ملهوفا بفم مفتوح. كان الشارع ساعتها خاليا من الحركة موحشا، ترامت فيه العمارات في الصمت والظلال. لبثت دقيقة في مكاني لأستفيق من القلق والحيرة والخوف. أخيرا استجمعت قوتي وبدأت أتحرك للأمام لأرجع إلى بيتي، لكني ما إن خطوت أولى خطواتي حتى راح إسفلت الشارع يتشقق تحت قدمي، ومن حولي، وكلما نقلت قدمي خطوة تشرخ الإسفلت أمامي وبرزت من فجواته قبضات ملوحة وأفواه تصرخ وأنصاف وجوه وعيون منفعلة. ركضت مفزوعا. عدوت كالمجنون حتى لم تعد ساقاي قادرتين على التفلت من الأيادي والحناجر والأظافر التي تناوشتني بعنف فانهرت على طرف رصيف معتمدا بظهري على عمود نور. شعرت بدوار وبالكاد كنت أرى ما حولي، وعم صمت مرعب حولي، وتجمدت وجوه الشعب الذي خرج من تحت الإسفلت، ولم تصدر عن أي منهم ارتجافة صغيرة، فقط راحوا يواصلون النظر إلي بثبات يترقبون شيئا مابأمل، أو يأس، ولم أكن أعلم ما الذي يترقبونه، ولم أدرك إن كانوا يناشدونني البقاء معهم، أم أن يظلوا معي على سطح الأرض؟. وما لبثت السماء أن أمطرت، أمطرت بصمت وبرفق، كأنها تهمس للأرض ، وتفتحت قطرات المياه الشفافة زهورا بيضاء على الإسفلت الأسود، واستحكم ونحن في ذهول صمت عجيب، وتعلقت أبصارنا بسلاسل من النور امتدت، وراحت تتجاوزنا، وتتراكم في تلال، ثم تنهض تعاود سيرها، وقد فاحت في الأرض أنفاس الطفولة الأولى.

***
أحمد الخميسي. قاص وصحفي مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نوبل بين محفوظ وأيتماتوف
- اللغة والحب هذه الأيام
- نساء من العطر والبارود
- الديانة بين البطاقة والعلاقة
- الخيال والحرية والفلسطينيون الستة
- المرأة والأغاني والحب
- ثـيـودوراكــيـــس.. الـفـنـان والـمـوقـف
- من الأمريكان لطالبان .. يا قلبي لا تحزن
- حنا مينا .. الكفاح والفرح الإنساني
- الأم .. إكـــرام
- هيروشيما .. بيدوقراطية أمريكأ
- تذكرة الكاتب .. وآخرين أيضا
- بيير بوردو .. آليات التلاعب بالعقول
- أشــرف زكــي .. دفـــاعـــا عـــن الـــفــن
- ثورة يوليو بهجة التاريخ
- أليفة رفعت .. تحطيم الأقلام
- في ذكرى غسان كنفاني
- وفاة جيهان السادات
- واشنطن بين الدب والتنين
- جوائز العلومي والبحوثي .. لغادة وبوسي !


المزيد.....




- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - زهور الإسفلت قصة قصيرة