صلاح زنكنه
الحوار المتمدن-العدد: 7062 - 2021 / 10 / 30 - 22:58
المحور:
الادب والفن
ما من أحدٍ من المعنييـن بـالأدب والروايـة, لا يعـرف الروائي الروسي العمـلاق (فيدور دوستويفسـكي) ورواياته العظيمة التـي شـغلت القراء واغنـت الأدب العـالمي برمته, بعمقها وثرائها وحيويتها, مثـل الجريمـة والعقـاب والأخـوة كرامـازوف والأبلـه, وهو يغور عميقا في النفس البشرية بكل فضائلها ورذائلها وتموجاتها بين الخير والشر, حتى قال عنه عالم التحليل النفسي (فرويد) إن دستوفسكي هو أول من اشتغل في مجال النفس ببراعة وخبرة مدهشة.
محبـو دستوفسكي يعرفون بعض أوجه سيرته الذاتية, كونه كان مقـامرا مـن الطـراز الأول, ومصابـا بمرض الصرع, ومستدينا أبديـا للنقود, ومحكوم عليه بـالإعدام ضمن حركة الديسمـبريين, ونجـا من موت محقق بأعجوبة في اللحظات الأخـيرة بعفو قيصري.
لكن قلـة قليلـة يعرفون حبه وعشـقه وهيامـه بتلك المرأة الشابة التي عملـت كمختزلة لكتاباته ثم سكرتيرته الشخصية, وسـرعان مـا تحولت الى صديقة وفية ومخلصة, فهام بها حبا وعشقا, وصارت حياتـه دونها جحيما لا يطاق تلك هـي (آنـا غريغوريفنا) ذات العشـرين ربيعا, وعشرات الأثمار اليانعـة في قامتها الرشيقة, وعشرات النجوم المتوهجة في عينيها الرماديتين, وكـل الصبابـة فـي وجـهـها البيضوي المتـألق بابتسـامتها العذبة, فاعجب بها دستوفسـكي أيما اعجاب, وهو في الخامسـة والأربعين من عمره, حيث ماتت زوجته (ماريا ايسافيا) قبل عامين ونصـف, فبقـي وحيـداً كئيبـاً مستوحشاً, يلفه الحـزن والـهم والغم, وما أن اشرقت (آنـا) في حلكة حياته, حتى تغير كـل شيء فيه وراح يشعر بـالدفء الانثوي في صقيع روسيا, ودب فيه النشاط وهذه (آنا) الخلابـة تمنحـه دفقـاً مـن العاطفـة الجياشة وتوفـر لـه الألفـة والرفقة والطمأنينة, بما تمتلـك من قوة الشخصية, فضـلاً عن خفة الـروح, وحـلاوة اللسـان, وطراوة الانوثة, حتى بات يدللها ويناديها بـ (الحمامـة العزيـزة) تلك الحمامة التي ابتنت عشـها في عرش قلبه الفسيح.
وذات يوم سألها بخجل العشاق الكهول, إن كان من اللائق أن يتزوج وهو في هذا العمر؟ وهـل يختـار الزوجـة البارعـة, أم الزوجـة الحنون؟ فأجابت طبعـا الزوجـة البارعة, لكنه أردف قائلا لها .. كلا أنـا أريـد الزوجة الحنون, وكـان يعنيهـا هي تحديدا, وهي كانت تدرك ذلـك بحسها الأنثوي.
لقد أحب دستويفسكي أكثر مـن امرأة في حياته, لكنـه لـم يجـد المرأة الحقيقية إلا في شـخصية (آنا) المختزلة لكتاباته, والتـي اختزلت قلبه وعواطفه, فـاهتمت به وبصحتـه ومأكلـه وملبسـه ومنامـه وكل تفاصيل حياته بتفانٍ وإخلاص, وقد حار حيرة لذيذة بـهذه الرعاية الأنثوية الباذخة التـي افتقدهـا بعـد حنـان أمـه وزوجته, ليهبط عليه هذه الملاك بعذوبة وشفافية وحيوية الشـباب وحماسته.
والأهم من كل هـذا وذاك, هو أن هذه المرأة امنـت ايمانا مطلقا, بعبقرية وعظمـة هذا الروائي المدهـش, وبمـا يمتلكه من موهبة خارقة فـي السرد الرائع ووصف بواطـن وكوامن الشخوص, وما يتمتع به من حس مرهف وخيال خصـب وثقافة عالية ودرايـة عميقـة, ولهذا كله, حين طلب منها الزواج كان جوابها (أجل أوافق لأننـي أحبـك وسـأحبك طوال عمري) وهذا ما حدث فعـلا, فأصبحت حبيبة وصديقة وزوجة وأمـا ورفيقـة درب, وصار اسمها (آنا دوستويفسكيا) وفـي أول رسالة كتبها لها قال (أحبك بـلا حدود, وأؤمن بك بلا حدود, أنـت مسـتقبلي وأملـي وسـعادتي وهناءاتي)
وقد وجدت (آنا) في البدايـة صعوبـة بالغة في التكيـف مـع طبعـه ومزاجه, لكنها بمـرور الوقت استوعبت شخصية هذا الرجل المدهش, وقدرها ان تصبح زوجة كاتب عظيم, كونها كانت عدة نسـاء فـي امـرأة واحدة, ولها قلب من ذهب, حسب تعبیر دستوفسكي الـذي كـان يتصف بغيرة شديدة إزاء (آنا) الشابة المملوءة حيوية وحبـوراً, وكانت تعتقد بأن هذه الغـيرة, هي البرهان الساطع على حبـه الصادق لها, حتى اكتسبت ولعها الدقيق للتفاصيل والجزئيات من زوجها, إذ سرعان ما أحست بأن أية أمور تافهة في حياة الكـاتب, ممكن أن تكون ذات شـأن, لأن الأعمال الأدبية تنبثق من بين تلك الوقـائع اليوميـة ضئيلـة الأهمية وغير المهمة ظاهرياً.
لقد اعتادت (آنا) حتـى علـى مرض زوجها المزمن (الصرع) الذي ابتلـى بـه, وعـدت ذلـك المرض هو الثمـن الباهض العسـير علـى عبقريتـه الفريـدة أن تدفعـه, وهكذا اعتادت بعد ذلـك علـى ولعه الشديد بلعبة (الروليـت) لأن الفقر والعوز قد قدمت الحماسة الأولى للروليت في نفسـه, هـو الذي عاني الكثير من المصاعب الماليـة طـوال حياتـه, وكـان الدائنين له بالمرصاد, وحاصروه بطلباتهم ومسـتحقاتهم عليـه.
كان قدره أن يكون فقـيرا, وأن يكون فـي ذات الوقـت سـخيا ومسرفا حد اللعنـة والجنـون واللاابالية, وكان حلمه الكبير أن يكون في موقع يؤهله للكتابـة في جو هادئ مثـل تورجنيـف وتولستوي, لـهـذا كـان حبـه للمقامرة والحصول على المـال هاجسا يؤرقه حتى أدمن اللعبـة وصارت تدريجيا حاجة طبيعيـة ملحة, وغايـة فـي حـد ذاتـها, وبالنسبة له كانت حمى المقـامرة, وما يتخللها مـن عـذاب حلـو, جزءا من كيانه وإلهامه, وهـي عنده رغبة في تحدي القدر الذي لـم يستسلم له.
وبعـد كـل خسـارة ضخمة كان ينغمس في الكتابـة بشكل مدهش ورائع يثير الغرابـة, حتى أن زوجتـه (آنا) راحـت تزوده بالمال لكي يذهب ويلعـب لعبته المفضلـة, حيـث رهنـت مقتنياتها الخاصـة مـن خـاتم الزواج والقرطين والحلي, لكـي يحضر موائد القمار ويسـتمتع بوقته, ثم ساعدته شـيئا فشـيئا بالتخلص كليا من هـذه الـنزوة اللعينة.
أجل لقد عاملته واهتمت به كمـا لو كان طفلا مدللا, وفـي هـذه المعاملة وجد دستوفسكي الدليل على الحب العميق, وصار بمرور الأيام والسنين يعتمد عليها في أية ازمة أو محنة أو ضائقـة مالية, وحتى في أحلك الحالات كـانت تسـارع الـى ازاحـة الكآبـة والحزن عنه بضحكاتها ونكاتها وفرفشاتها.
ومثلما أحب زوجته (آنا) بعمـق وجنون, أحب بذلك القدر وطنـه روسيا, حيث كتب من جنيف الى صديقه مايكوف بعد غربة أربع سنوات في أوربا (أن تكون بـلا وطن هو العذاب الحقيقي وأنـا احتاج الى روسيا في كتابـــاتي وعملي)
وقد عد موت الروائي الكبير عام 1881 بعمر 60 سنة, خسارة فادحة لروسـيا وحدثـا للحداد القومي, حيث سـار فـي جنازته زهـاء 30 ألـف شخص, أما بالنسبة لآنا فقد كان مـوت دستوفسكي زوجـها العزيـز صدمة حقيقية لها, هـز كيانـها واطاح بقلبـها إذ قـالت (آه إنني سأجن, لقد فقـدت أعظـم رجل في الدنيا, كان بهجة وفخرا وسعادة حياتي كلها, أجـل كـان شمسي وإلهي)
وعدت حياتـها كامرأة قد انتهت الى الأبد وهي مازالت في الخامسة والثلاثين, ثم كرست نفسها وبقية حياتها على رعاية اسم دستوفسكي, وجعـل أعماله في متناول أيدي الجميـع, وعملـت علـى طبـع رواياتـه عشرات المرات, وافتتحت عـام 1883 مدرسـة باسـمه لأولاد الفقراء, وحولت البيـت الـذي عاشا فيه معا الى متحف فـي ذكراه, وافتتحت جناحا خاصا في متحف موسكو التاريخي باسمه ولأعماله, ماتت (آنا) الرائعة ذات قلب الذهب, في صيف 1917 تاركة خلفها تاريخا من الحب الذي لن يتكرر.
...
المصدر / كتاب (دوستويفسكي في حياة حميمة) أليكس كريستوفي
جريدة الصباح 15 / 11 / 2003
#صلاح_زنكنه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟