|
كرخيتي لآليء النور
رعد مطشر
الحوار المتمدن-العدد: 1651 - 2006 / 8 / 23 - 07:28
المحور:
الادب والفن
أرّخ لها: رعد مطشر الى روح الجليل جليل القيسي جرائد طائرة إلى كركوك:
ذات مساءٍ، سمعتُ المدينةُ بالخبر، خبر الحكاية، وإنتشر كالبرق بين أفواه العجائز حول مواقد الشتاء المرتجفة من صليل الرعد، وتثاؤب الصحو مع سقوط المطر بكثافة شديدة، وقبل الفجرِ صار الخبرُ مُشاعاً، فالتهمت المدينة تأريخ جرائدها الطائرة التهاماً، واندلقت أحشاؤها مع اندلاق المطر إلى البيوت والمجاري والأزقّة الموغلة في بردِ الشتاء، وفي الرؤوس العالقةِ بحّبات الجنون، طالقات الجناح للحكاية كي تطير وتكبر، وهكذا.. ظلّت البيوت تروي وتحوّر حتّى ضاع أصل الحكاية، وصار كلُّ واحدٍ يروي حكايته هو لينسبها إلى أحداث ذلك المساءِ البعيد، حين أنتشر الخبر كالبرق في أفواه المدينة..... و مازالت المدينة تأكل جرائدها الطائرة، كلّ مساءٍ، مع صليل الرعد والمطر النازل برؤوس الراحلين. أما عند الظهر، يصلُ مؤرّخ المدينة إلى (قبوهِ) فيهجع طير العمر المهزوم إلى الأبد على جسمِهِ الموشوم بإبرة المدينة وتأريخها، فتحيا على ضلعه كل الأسماء القديمة للمدينة مذ كانت مركزاً لعبادة إله الرعد والأمطار في مسلّة( النصر) التي أقامها ملكٌ بابلي غير معروف والذي دوّن فيها فتحه لكركوك بهذه الكلمات: -[ دخلت كيرخو آرابخا وقبّلت أقدام الإله أدد وأعدت تنظيم البلاد].. وحتّى هذه اللحظة التي يفتح فيها المؤرخ كتاب المدينة ويوضح: - كركوك؛ واحدة من أقدم المُدن العراقية في المنطقة الشمالية، تمتدُّ جذورها إلى عهد الحضارة السومرية، عصر فجر السلالات (2600 ق. م).. والسومريون والأكديون هم أول من سكن المنطقة وتبعهم البابليون والميتانيون والآشوريون والكلدانيون، ولقد ورد أقدم ذكرٍ للمدينة في الألواح ( السومرية) المسمارية التي عُثر عليها عام(1922) مصادفة قلعة كركوك باسم (آرافا) ويبدو إنّ أصل الاسم هو (أربخا) ثُمَّ حُرّف إلى (آرافا) وقيل إن الاسم مأخوذٌ من الكلمة الآرامية(ربخا) والتي تعني الحبل الذي فيه عُرَىً يُشدُّ الخروف، وذكرتها المصادر الآشورية كمركز لعبادة الإله (أدد) إله الرعد والأمطار كما ورد في مسلّة النصر!! حين فتح الملك البابلي... كيرخو، وقبّل أقدام الإله، موغلاً في تأريخ المدينة الذي يرتقي إلى منتصف الألف الثانية قبّل الميلاد. غارت عينا المؤرّخ وهو يروي لنا تأريخ المدينة المستباح قديماً، وكيف بنيت المدينة الجديدة على أنقاض مدينةٍ تآكلت تحت تسمياتها الكثيرة وعرائش الجثث الآتية من متحف الموتى وهم يروون تواريخ الخدائع والحبائل التي إستهدفت تشويه ملامح المدينة القديمة ( كيرخو) التي تعني القلعة، أو(آرابخا) التي ذُكرت في عهد الملك البابلي العظيم حمورابي، أو في زمـن الملك الآشوري( ناصر بال الثاني) الـّذي بنى قلـعة كركـوك قبـل عــام ( 850ق. م)، أو بعد سقوط نينوى عام( 612 ق. م) حين تعرضت لغزو الاسكندر المقدوني، أو حتّى بعد وفاته حين سيطر عليها( سلوخس) أحد قادة الاسكندر، فبنى عليها سوراً وسُمّيت لذلك( بكرخ سلوخ) أي حصن سلوخ , أو في تعدّد أسمائها ؛ كوركورا- كرخيتي- كركيتي- آرافا- عرفة... أو... عند هذا يسكت مؤرخ المدينة الحيّ، تاركاً خلف ظهرِهِ، ياقوت الحموي ومعجم بلدانِهِ، وابن الأثير وكامله؛ مشيراً إلى موقع المدينة (في الـوقت الحاضر) على جانب الــوادي الأدهــم( خاصة صو)، مذكّراً بدور نفطها، بنعمتِهِ ونقمتِهِ على المدينة، بإتساع عمرانها وأبنيتها التراثية وجسورها، وإنفراد نظافتها وبياضها الذي يمسك بك لتحبّها، تحب جوامعها، كنائسها، أسواقها واختلاف ألسنتها، تسحر سمعك أصوات مقاماتها، شِعرها، موسيقاها، سحر بنائها منذ أن تدخلها حتّى تصل إلى صوبها الكبير المطرّز بقلعتها وسوق قيصريتها العجيب. يسكت المؤرخُ قبل أن ينتهي تأريخ المدينة التي.. لا نهاية لها.
مابين كيرخو والقيصرية.. كان الزمن محضُ بناء:
إرتاح من الأمس الذي ظلّ يطارده، رغم أنَّ الساعة ما زالت تعاكسُهُ، تدقُّ في جيبه، فينتبه الحرّاس الغافون في شرفات القلعة إلى ذلك الرنين الجسدي في الجانب الأيسر للجسر وذلك الأنين الغافي في عيونهم وأقدامهم، الطافي على الأرض الملأى بالحجارة المتساقطة من منازل الأمس... يرقبون الرنين والأنين على الجسر، يركضون في أروقة الخراب والسبايا المتناثرة في المقابر والأضرحة والمقامات والممّرات في القلعة العتيقة؛ القلعة، بمعالمها الأثرية، وتاريخها الممتّد إلى (2600 ق. م)، وسكّانها الأوائل، السومريون، ومن أعقبهم، في القلعة ( القلعة القديمة) الواقعة في الصوب الكبير من المدينة الحالية شرقي نهر ( خاصة جاي)، يصعدون، يرتفعون فوق إرتفاعها البالغ 18متراً من مستوى الأرض، ثم ينحدرون نحو الأسفل، وأخيراً يدورون على شبه استدارتها، يبحثون عن بواباتها المختفية تحت جنح التأريخ، هنا بوابةُ غربية شُيّدت في العام 1822، قريبة من الجسر، وبوابة ثانية تطلُّ على الجسر الحجري من الجهة الغربية أيضا، والثالثة تنفتح- فيما مضى- على سوق بائعي الحلوى، أمّا رابع البوابات فينفتح على سوق (سبع بنات).. ويجدون بوابةً خامسة- ينساها البعض- من جهة الشرق. ولا يخرجون إلاّ من البوابة الوحيدة المتبقيّة في الجهة الغربية من القلعة، وتطل على نهر الخاصة، يغوصون في عمرها الممتد إلى (150)عاماً، يمروّن تحت أقواسها المدبّبة والنصف دائرية، عابرين قبوها شبه البيضوي.. ثمَّ يعودون ليستريحوا بين شجيرات التين الثلاث وهي تغفو تحت ضل القلعة، مردّدةً أغنية كركوك القديمة: (ليتني كنتُ حجراً في أساس القلعة). يرجع المؤرّخ من إنثياله الممزوج بالخيال، ربّما كان واقعاً يستعرض تاريخ القلعة، يُصفها، يرسم معالم آثارها، يستطرد في ذاكرتها: - للقلعةِ أربع بوابات رئيسية (كما قلنا)، وفيها ثلاثة أحياء قديمة؛ حمّام، أغاليق، وحيّ الميدان. وفيها مبنى السبع بنات بطوابقه الخمسة. إضافةً إلى بيوتها الأثرية؛ ذات المواصفات النادرة والفريدة، فهناك، أمامكم (دار طيفور) المتكّونة من ثلاثة دور متداخلة، الأولى ذات أعمدة مرمرية دقيقة، ولها نوافذ مؤطرة بالزخارف والمرمر، والثانية تتكون من مجاز وسرداب وكشك صغير، أما الدار الثالثة فهي ( بيت العروس) كان السمرُ والسهر فيها، وفي (طارمتها) الصغيرة وغرفتها المستطيلة. - وإذا ما تركنا البيوت التراثية ( بيت المرمر، وصديّق علاّف، وعلى آغا) ومتناسين اختفاء بواباتها الأربع ( البوابة الحجرية/ باب الطوب/ سبع بنات/ باب الحلوجية) سنرى: الجامع الكبير، جامع النبي دانيال، كنيسة أمّ الأحزان، القبّة الزرقاء، جامع عريان، وقيصرية كركوك العباسية. وسأمرّ على أجسادها وتواريخها معكم، نشمُّ رائحة اليوكالبتوس والزعرور والنبق الغافي تحت سور العتمة، نروي أطلالها، نرفعها من تحت يدّ الجلاّدين المتعاقبين على غزو المدينة- القلعة- نثبّت تشريد ساكنيها، نسرق حفنةًً من ترابها، نبحث عن ألواحها التي ظهرت في القلعة عام1922، ونستغفر من أخطائنا فيها، وعليها: هل ظلمناكِ أيّتُها المدينةُ الخرافة ونحن نروي أخطاءك المستعادة؟ على شكل شرح جامد الروح؛ فدعينا نمرُّ على آثارك هكذا: - فالجامع الكبير: يعرف- أحياناً- بجامع مرجانة، ويتألّف من أربعة أروقة ترتكز على دعامات مضلعة تتصل الواحدة بالأخرى بمنافد معقودة على شكل أقواس نصف دائرية. وأحياناً يسمّى هذا الجامع بجامع الأم ماريا، أو (مريم آنا) ويعود تأريخه إلى القرن الثالث عشر (الميلادي). وبنائه مستطيل مساحته(1500) متر مربع تقع في أحد أركانه منارة مدبّبة من الطابوق... أما.. - جامع النبي دانيال: والجامع معروف بمئذنته التي يعود تأريخها إلى أواخر العصر المغولي ويتميّز بالعقادات والأقواس التي تقوم على قاعدة مثمنّة، بجانب المنارة المبنيّة من الطابوق القاشاني، وتبلغ مساحة الجامع (400) متر مربع وفيه قبور، غير مؤكدّة، للأنبياء ( دانيال- وعزرا- وحنين) ونرى إن الجامع يحتوي على مشهدين متجاورين ومصلّى يطلُّ على فناءٍ مكشوف.. و.. - كاتدرائية أمّ الأحزان: أو كنيسة أمُّ الأحزان، وقد بنيت على أنقاض كاتدرائية قديمة. وهي مشيّدة بالحجر والجصّ حيث تقوم سقوفها وأروقتها على أقواس وأعمدة مرمرية، وهي آية فنية في بنائها الذي يعود إلى العام 1812م. ونذهب إلى.... - القبة الزرقاء: تقع وسط القلعة وهي مثمنة الشكل من الخارج ومربعة من الداخل، وتتميز كبقية آثار القلعة، بطرازها المعماري المبني من الطابوق والنورة والجصّ. يبلغ قطرها خمسة أمتار، وارتفاعها عشرة أمتار.. وطراز بنائها يشبه الطراز المعماري للمساجد التي أقيمت في محطات استراحة القوافل في المعهد السلجوقي, وبنائها المثمّن الشكل تتخلّله الزخارف الآجرية النباتية، وهي مطّعمة بالقاشاني الملون، ومزيّنة بشريط من الكتابة في أعلى البناء- من الخارج- ومن هذا الشريط نعرف أنَّ تأريخ استخدامها في عام (762هـ) أيّ أن تأريخها يعود إلى 700سنة تقريباً ومساحة القبّة (820)متر مربع وارتفاعها هو(17)متر. - جامع عريان: ويقع وسط القلعة (أيضاً) ويتميز بقبّته الكبيرة، القائمة على أربعة أضلاع متساوية، ترتكز عليها ثمانية أضلاع تعلوها ستة عشرَ ضلعاً، تشكل قاعدة القبّة التي يبلغ ارتفاعها خمسة عشر متراً, ويعود تأريخ إنشائه إلى سنة(1142هـ) وها نحن نصل إلى... - سوق القيصرية: وهو سوق عجيب، وشاهدٌ من شواهد المدينة الكبيرة، وتأتي غرابة هذا السوق من أرتباطة بالزمن والتقسيمات الفلكية له: إذ أن عدد ( المحال) هي 360 محّلاً ( دُكّاناً)، يمثّل عدد أيام السنة، وبين هذه المحلاّت أربعة وعشرون ممرّاً تمثّل عدد ساعات اليوم. وللسوق سبعة أبواب تمثّل عدد أيام الأسبوع، وتقع فوق المحلات شقق سكنية، عددها أثنتا عشرة شقة تشير وترمز إلى عدد أشهر السنة، ويعود تأريخ بنائها إلى (العام 1800م) وموقعها في الجانب الشرقي في أسفل القلعة. والسوق يتميّز بطرازه المعماري الجميل وبأقبيته وأقواسه ومقرنصاته وزخارفه. تعلو سطحه قبب مسطّحة، في منتصف كل منها فتحة سقفية لأغراض الإضاءة والتهوية. والسوق من مراكز المدينة المهمّة تجارياً، كان فيما سبق، سوقا للبزّازين والعطّارين والنسّاجين والخفّافين والخيّاطين وصبّاغي الأقمشة و الغزول. ينزل المؤّرخ من قلعتِهِ يقف بين جسرين، يحصر النظر بينهما إلى القلعة، خلف نهر الخاصة، يرى ارتفاعها، ويتذكّر الغزوات والأقوام التي مرّت عليها بالأمس القريب.. البعيد، من هنا، وهنا كان السومريون، ثم الأكديون، الميتانيون، البابليون، الآشوريون، الفرس، والدولة العثمانية التي بنت دور القلعة التراثية.. يعدّ دور القلعة الباقية، ويرسم أحياءها؛ الميدان شمالاً، القلعة في الوسط، وحيّ الحمّام جنوباً يتذكّر أبراج القلعة( الاثنين والسبعين)، ومداخلها.. وينسى بأنّ كركوك اكبر مركز للبترول، ينسى ذلك، لأنَّ المدينة الآن، ليست لَهُ!!
#رعد_مطشر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|