نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 1650 - 2006 / 8 / 22 - 06:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول فتجنشتين في نظريته عن ألعاب اللغة: والمقصود بهذه الألعاب أن لعبة اللغة مثلها مثل باقي الألعاب, كلعبة الشطرنج وألعاب الكرات والورق والألعاب الأولمبية. وكما أن لكل لعبة قواعد هي التي تحدد طريقة اللعب, وبالتالي لا يجوز مخالفتها, فكذلك للغة قواعد ولابد من مراعاتها, وعلى ذلك فإننا إذا خالفنا هذه القواعد فإن اللغة تفسد ولا يعود لها معنى و هذا ما يسميه فتجنشتين سوء استخدام اللغة.إن ألعاب اللغة هي صورة من صور الحياة و ما تتضمنها من أساليب كثيرة للكلام, حيث يتحدد معنى لكل رمز لغوي في هذه الحياة بالاستعمال الذي نلجأ إليه. كما أن كل استعمال إنما يتحدد ضمن لعبة لغوية معينة. وما أكثر الألعاب في حياتنا, فهناك إصدار الأوامر و إعطاؤها, وصف مظهر شيء ما أو ذكر مقاييسه, تكوين موضوع ما حسب الوصف (الرسم ), ذكر تقرير أو حادثة, ذكر احتمالات مختلفة عن حادثة معينة, تكوين الفرض واختباره, تقويم نتائج التجربة في قوائم وأشكال, تأليف قصة وقراءتها, تمثيل مسرحية, إنشاد الأناشيد, حل الألغاز, تأليف نكتة وإلقاؤها, حل مشكلة في الحساب التطبيقي, الترجمة من لغة إلى أخرى, السؤال, الشكر, التهنئة, الصلاة....., إن معنىأي كلمة أو عبارة إنما يتحدد بحسب اللعبة اللغوية التي ترد فيها هذه الألفاظ, ولا يجوز الحديث عن معنى لهذه الألفاظ إذا لم نأخذ بعين الاعتبار اللعبة اللغوية التي وردت فيها, كما أن طريقة الاستخدام إنما تتحدد بهذه اللعبة, يضاف إلى ذلك أن هذه الألعاب ليست ثابتة بحيث تعرف لمرة واحدة وإلى الأبد, بل إن هذه الألعاب تتغير وتفنى, وهناك ألعاب جديدة تستحدث وكأن لألعاب اللغة حياة كاملة حيث تولد وتتطور وتدخل في حيز النسيان, أما مرد ذلك فهو أن ألعاب اللغة صورة من صور الحياة, فهي في تطور وتبدل مستمرين, لنأخذ الألعاب المختلفة فإننا لن نعثر على عنصر مشترك يجمعها, فإذا انطلقنا من لعبتي الورق والزهر فإنه بإمكاننا أن نعثر على عنصر مشترك يجمع بينهما, ذلك أن الحظ يلعب دوراً أساسياً فيهما, لكن ماذا لو أدخلنا إلى هذه المقارنة لعبة الشطرنج...سنجد أن الشطرنج لا يعتمد على الحظ. لنأخذ سمة أخرى للألعاب وهي سمة الربح والخسارة, تشكل هذه السمة العنصر المشترك للألعاب الثلاث السابقة. لكن هناك ألعاب لا يدخل الربح والخسارة في حساباتها, وذلك عندما ننظر إلى طفل يلعب مع نفسه, إذ يقذف الكرة إلى الحائط ثم يعود قبلها. على هذا النحو نجد أننا كلما حاولنا إيجاد عنصر مشترك بين الألعاب فإنه سرعان ما يفلت منا هذا الأمر, هذا ما لاحظناه بالنسبة للألعاب اللغوية. إحدى طرق التفكير في الإبداع هي أن تتصوره مثل اللعب, لعبة إعادة تركيب الصور والتداعيات, والمشاعر, والعلامات الرمزية وعلاقاتها على نحو ما نرى في الموسيقى أو في الرياضيات أوفي الأساطير أوفي الفن التشكيلي.....ومناط الأمر هنا أن اللعب لا يتحدد باعتباره شيئاً غير هادف, وسبب ذلك أولاً أن اللعب بالرموز وبعلاقاتها ومعانيها على نحو ما نجد, على سبيل المثال في اللعب بالرموز الرياضية, إنما يفضي إلى اكتشاف أصيل, وإلى أفكار وتأكيدات يمكن إثبات صوابها تأسيساً على التواصل المشترك بين الذوات. وثانياً يمكن أن يكون اللعب جاداً للغاية فإن اللعب بالألفاظ والأصوات عند الأطفال وقت تعلمهم الكلام ليس مجرد لعب, وإنما هو تجريب وممارسة على استخدام نفس مادة الكلام.
ويستخدم شيلدون جلاسكو ( الحائزعلى جائزة نوبل في الفيزياء) مفهوم اللعبة في شرح الثورة العلمية الحاصلة, بالمثل التالي :
نفرض أن آرثر أجنبي ذكي جداً من كوكب بعيد يصل الأرض ويراقب شخصين يلعبان الشطرنج, وبفضول يعطي آرثر نفسه مهمتين: أن يتعلم قوانين اللعبة , وأن يصبح إستاذاً عظيماً فيها . وعن طريق المراقبة الدقيقة للحركات يتمكن تدريجياً من إعادة بناء قواعد اللعبة: كيف يتقدم البيدق وكيف يستولي الوزير على الحصان وكيف يكون الملك مكشوفاً.... . ومع ذلك فإن معرفة القوانين لا يعني أن آرثر قد أصبح سيداً عظيماً في هذه اللعبة. كما يضيف جلاسكو : ( إن المهمتين على القدر نفسه من الأهمية , فالأولى لا غنى عنها والثانية أكثر (أساسية) وكلتاهما تمثل تحديات للذكاء البشري . وبمعنى ما فإن العلم حلً في النهاية شفرة عدد من ( قوانين الطبيعة ) الأساسية, ولكن هذا لا يعني أننا أصبحنا سادة عظاماً عليها. وبالمثل فإن رقص الجسيمات الأولية داخل أعماق النجوم , وأنغام جزيئات( د . ن . أ .) وهي تتلوى وتنبسط داخل أجسامنا قد كشف عنه إلى حد كبير, ولكن هذا لا يعني أننا أصبحت لنا القدرة على تصميم الحياة.
اللعب شكل واقعي من أشكال النشاط عند الطفل ويعتبر شغله الشاغل خلال السنوات الأولى من حياته وهو وسيلته للتعرف على ما يحيط به والتكيف معه, ولأهمية اللعب في حياة الطفل يؤكد المختصون بأنه من أهم مطالب النمو في مرحلة الطفولة. لقد أظهرت نتائج العديد من الدراسات أهمية استخدام الطفل لحواسه المختلفة كمفتاح للتطور والتعلم, واللعب أفضل وسط لذلك, وإذا حرم الطفل من اللعب قبل دخوله المدرسة كان عاجزاً عن متابعة التعلم والتحصيل الجيد, فاللعب في هذه المرحلة ومراحل الطفولة التالية أمر حيوي لا يمكن الاستغناء عنه في تطور الطفل, وليس نشاطاً ترويحياً لقضاء وقت الفراغ....إن اللعب نشاط يقوم به الفرد ويسهم في تحقيق نمو معين..ويعتبر اللعب من أهم وسائل الطفل في تفهمه للعالم حوله. في اللعب يتشكل الإنسان كذات لنشاط, و يبرز اللعب في التطور النفسي للطفل, وقبل كل شيء كوسيلة لامتلاك عالم الكبار, ففي اللعب وفي مستوى التطوَر النفسي الذي بلغه الطفل يحدث امتلاك العالم الموضوعي للكبار. و يتضمن جو اللعب الاستبدال والتبسيط ( استقبال الضيوف الوهميين) و بهذا الشكل يحاكي في اللعب الواقع, و هذا ما يسمح للطفل نفسه و لأول مرَة أن يصبح ذاتاً للنشاط. ويعتبر اللعب النشاط الرئيسي للطفل قبل دخوله المدرسة, تعتبر المتعة التي يشعر بها الطفل خلال عملية اللعب باعثاً للعب. تعتبر الألعاب التركيبية ( الإنشائية ) أكثر تعقيداً. و فيها يخلق الطفل شيئاً ما: يبني بيتاً, يخبز الفطائر. و يفهم الأطفال في الألعاب التركيبية غاية الأشياء و تفاعلاتها المتبادلة, و تنتمي الألعاب التركيبية و الوظيفية إلى مجموعة الألعاب التحكمية حيث يستوعب الطفل خلالها العالم المادي و يعيد خلقه بشكل سهل البلوغ بالنسبة له. و بالتدريج تقحم في الألعاب القواعد التي تضع حدوداً لسلوك الشركاء, وإن اللعب الجماعي ذو الدور المحوري يوسع من دائرة مخالطة الطفل و هو يتعود الخضوع للقواعد و المعطيات التي تطلب منه أثناء اللعب, و تربي هذه الألعاب الشعور بالروح الجماعية و المسؤولية و احترام زملاء اللعب و تعلم مراعاة القواعد, و الألعاب حسب القواعد, موجودة بشكل واسع في حياة التلاميذ و الراشدين في المسابقات الرياضية وفي حل الكلمات المتقاطعة و في الألعاب الأخرى التي تتطلب الجهد الذهني.
اللعب أهم آليات الحياة, وهو أهم من آلية التزاوج, وآلية أو برمجة الموت, و آلية اللذة و الألم, فآلية اللعب تستخدم في التنافس و الصراع و البحث و المشاركة و التكيف, ففي الصراع و التنافس يذهب الخاسر و يبقى الرابح و كذلك في التكيَف فان المتوافق مع الظروف و الأوضاع هو الذي يبقى . و بآلية اللعبة حافظت الحياة على استمرارها ونموها و انتشارها و تطورها.
هناك علاقة بين القدرات على التعامل مع الخيارات لبنية ما وعمر هذه البنية ، فالبنية التي عمرها طويل تملك قدرات معالجة خيارات متطورة وفعالة استطاعت بواسطتها تحقيق هذا العمر الطويل , فالقدرات الواسعة والمتطورة في التعامل مع الخيارات ( التي هي أساس التفكير والتحكم ) هي التي سمحت للبنية بإطالة عمرها وبقائها, وبنية الحياة هي مثال على ذلك فبنية الحياة وعمرها أكثر من ثلاثة بلايين ونصف سنة ، وهي واسعة ومنتشرة بشكل مذهل على الأرض فعلى عمق 10 كم في البحار وعلى عمق عدة كيلومترات داخل التربة ، وعلى ارتفاع 100 كم في الجو وجدت كائنات حية ، وعدد أنواع الكائنات الحية بمئات الملايين , صحيح أن بنية الحياة ليس لها إدراك ووعي وهي تعمل من خلال بنياتها الجزئية ( الكائنات الحية وبنيات هذه الكائنات من خلايا وجينات وبروتينات .......) ، وبنية الحياة توصلت إلى بناء البنيات الفكرية وبناء عالم الفكر بعد أن طورت البنيات الحية وتكونت البنيات الفكرية ثم الفكرية اللغوية لديها, ثم تكونت البنيات الفكرية اللغويةالموجودة خارج العقول , والآن تكونت البنيات الفكرية الإلكترونية التي تستطيع أن تنمو وتتطور في العقول الإلكترونية .
إن حل أي مشكلة أو أحجية هو لعبة فكرية. و كثير من الأحاجي و المسائل تراوغ و تقاوم الحل مثل حل المعادلة من الدرجة الثالثة, و حل مشكلة الجاذبية و الكهرباء و إيجاد نظرية نيوتن و معادلات ماكسويل.... . , و إن التوصل إلى المعارف المعقدة عالية الدقة هو قمة الألعاب الفكرية. ففي لعبة الكرات الكونية التي أبدعها اينشتاين, تلعب المادة وقرينتها الطاقة دور الكرات والمغانط, فتغير من شكل الفضاء المحيط بها أثناء تحركها
اللعبة في أساسها تجربة الكثير من الخيارات و التوقف عند إحداها لأنها تكون مناسبة للوضع. إن لكافة الألعاب خصائص و آليات متشابهة, إن لم تكن واحدة, فكل لعبة تتكون من عدد من اللاعبين وهناك هدف للعبة و هناك رابحون و خاسرون و هناك قواعد و أسس أو قوانين تحدد كل لعبة, و لكل لعبة قواعدها وعناصرها الخاصة بها, و كل لعبة تعتمد على التأثير المتبادل بين اللاعبين وعناصراللعبة, فكل لاعب يؤثر على بقية اللاعبين و العناصر, و هم بالتالي يؤثرون به.
لكل إنسان ألعابه الأساسية التي تستغرق أكثرسني حياته.إننا نسعى دوماً لكي نلعب ألعابنا و لكن بنية المجتمع تقاوم اللعب غير المناسب لها. فهي تدفعنا لكي نلعب ألعابها, فبنية المجتمع تدفعنا لكي نلعب ما يناسبها و لعب ألعابها و صراعاتها, التي تحقق استمرارها و نموها. إن لكل لعبة هدف , وهو في أغلب الأحيان الربح و التفوق و كسب الصراع و يمكن أن يكون إيجاد الجديد أو الأفضل أو إيجاد اللذيذ أو الجميل أو تصحيح الأخطاء أو حل المشاكل و الأحاجي و الألغاز أو المساعدة في تحقيق النمو أو التوازن و التكيف, أو تحقيق الإدهاش و التعجب أو تحقيق التحكم والسيطرة أو القيادة و الإدارة. إن الفنان يلعب بالخيارات المتاحة له سواء كانت ألحانا أو ألواناً......الخ فيشكل شكلاً و يكَون بنيات جديدة تحقق تأثيرات حسية يسعى إليها و يطلبها الآخرون, فهناك الفنانون المبدعون المجددون, و هناك الفنانون الذين يقلدون و هم صنَاع و منتجون و ليس معنى ذلك أنهم أقل قيمة من المبدعين و المجددين فبالنسبة للآخرين ( المتلقون أو المتذوقون ) ليس هناك فرق فالمهم هو ما يحدث السعادة و اللذة و الجمال. فهناك الكثير من الناس الذين يرغبون بالقديم المكرر و لا يستسيغون الجديد و هناك أيضا من يرغبون بالجديد و يملون القديم بسرعة.
إن تحديد مفهوم اللعبة ليشمل كافة أنواع الألعاب لدى الإنسان و الأطفال و الحيوانات يحتم علينا تمييزها عن مفهوم الصراع و الربح و الخسارة.
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟