|
صيف عراقي لشتاء الاعزل
علي شبيب ورد
الحوار المتمدن-العدد: 1650 - 2006 / 8 / 22 - 06:46
المحور:
الادب والفن
بجنوب مصاب بصيف رئوي حاد ، أذيب تضاريس الثلج لأبدد هالات البرد عن جلالة الشتاء . وأنكش رعونة القَرَسِ بهجير الظهيرات ، وأطرد رطانة القشعريرة بخبل هبوب السموم . لعلّي بذلك كله ، أفتح سدود العزلة ، ليندلق نهر الأعزل منساباً رادعاً ضفتيه بأمواج الشعر الراقصة ألقاً بنشوة الإنعتاق من أصفاد شتاءات النفي ومواسم الخرس وغياهب الإقصاء . ولعلّي بشباك المودة ، وربما بسنّارات الإغاضة ، أنتف زغب الخجل ، أو بعض قتامات الانزواء ، عن حقول عامرة بالخصب ، عبقها جديرٌ بالشهيق ، وبريقها أحق بالانتباه ، وثمارها آيلة للقطف . وعلى قدر ما أتحلّى به من جنون التّلَذّذِ بشهوة الاكتشاف بين ركامات البوح المهولة ، وفي غمرة هوسي في التنقيب تحت أطلال الهذيان المعرفي ، وبعد تجوال مضنٍ ، لوّحَ لي الشعر مبحراً يمخر عباب العتمة ، بمرادي الاجتهاد وهي تجلد مشاحيف الانصراف صوب آفاق المطلق ، توقاً لما هو حلمي وأخّاذٍ ومدهش . تأملت كثيراً قبل أن أدع الحاسوب يفضح انبهاري باشتغال الشاعر ( الأعزل ) وهو يشج برؤاه ، رأس الكارثة التي حلت به منذ فراره من حروب بلاده التي أذكاها الفرّانُ وهرب إلى حفرة ، أنهت طغيانه . وتأخرت كثيرا قبل أن أدحرج أول حرف على بياض الصفحة ، لأن مخيّلتي الموقرة وبعد لأيٍ ملحوظ صفعتها بمفردة ( جنوب ) والذي أتصور بسخونته المرعبة وبأفرانه الجحيمية التي تشوي جسدي الآن ، سأتمكن من تفتيت جبروت ( شتاء الأعزل ) للشاعر شعلان شريف ، والصادر في كتاب غجر 1 ، ضمن سلسلة شعرية تصدر عن مجلة غجر – هولندا - 2005 يبتدئ الكتاب بـ ( النهار ) وينتهي بـ ( الليل وهوامشه ) فارشاً تجربة منفاه القسري بدءاً ببغداد وانتهاءً بهولندا . يسأل عن معنى النهار الذي يتربص للإطاحة بأحلامه وتوقه لعيشٍ بلا وجع . غير أنه يرى النهار ( آلةً ) تمعن في التأثير على حيوات الشاعر : آلةٌ .. تملأ القوارير بذكريات العشاق وأحلامهم . آلةٌ .. تجمع صرخات الغرقى وتدفنها في الضباب . آلةٌ .. ترسم في الهواء خارطةً للغائبين ، لشحوبهم .. لصمتهم .. لأجسادهم التي تكتظّ بجثث العصافير ... وداخل أقفاص الأسر في رفحاء يتعالى ( الرنين .. لتزيين الذكرى ) حيث عالماً من الألم نتيجة الاحتباس المثير للقنوط المفضي للحنق على سوء المعاملة التي تعرض لها هناك هو ومن معه من الأسرى ، والتي فضحها كتاب لصديقنا الشاعر طارق حربي . في دهاليز الحيف تلك تخترق الذكريات جدران الزمكان ، لتسيل أو تنثال أو تتمطى طفولته وصبابته وفتوته التي سلخته أمانيها عن ذويه لترمي به في أتون دكتاتورية رفحاء . فبل عدة جدران استعدَّ للرحيل : تخلّص أولاً من عينيه ، رمى يديه خلف السياج ، وبصعوبة بالغة ، استلّ شرايينه واحداً واحدا ، وتركها تنبض على الرّف ، ثم فكّر : لابدّ أنّ اللصوص سيكملون المهمة ! . أن سياقاً كهذا يشير إلى أنه شاعر يكتب متنا شعريا ذا منظومة بث ٍ تعمل بكفاءة لاستدراج القراءة على الغور بعيداً في بنياتها ذوات البعد العمودي مرجعيا ، وهذا ما يمنحها سحر الإغراء لقراءتها بتأنٍّ وتفرّس شديدين ، بوصفها نتاج مخيلة ذات فطنة في تمثل مرجعياتها الحياتية والمعرفية ، لينأى المتن بعيدا عن البوح ذي البعد الأفقي مرجعيا والذي يوقعه في السطحية . وفي ( نسياني الأبيض .. تعاويذي السوداء ) وعبر كوة الذكرى راحت تتسلل بانوراما حياته الفائته ، وربما ينسلّ هو إليها ، ليثمل خاشعاً لحيثياتها المهيمنة على عارضات ذاكرته أينما حل : ولن أصل إلى الدمية النائمة قرب طفولتي ، لن أتلمّس بهاء الجنة المحاورة لأحلامي .. دائماً هناك ما يتساقط على سطح المنزل ، هناك ما يذبل في كف القابلة ، هناك ما ينحني لفتنة القتيل . وفي ( انعتاق الأخطاء من سلطة اليد ) يستثمر ثيمة الشك الفلسفية لفتح ملفٍ سريٍّ عن أخطائه المتناسلة على سيناريو حياته ، وذلك عبر مشهد متخيل تنفتح صوره على بعضها في سردية تمددت على متوالية سطور تنتهي بأسئلة : ....ألتفت إلى المنعطف القادم ، حيث تنتظرني حواسي نائمةً في صندوق بأقفال بيضاء ، أفتحه لأجد كلّ ما سقط سهواً أسفل الطريق : كذبة الجسد ، أنثى ، نظرات مبللة كأنها ثلج يحوك مؤامرة ( ثلجٌ يرمّم بالأخطاء أنوثة المعنى ) ... كيف أغلق ثقوب هشاشتي ؟ نائمُ في الغواية ( أو غوايةٌ نائمة ) ، أيّتها اللغة أيّ فحولة ترتجينها في هذه المساحة العزلاء ؟ ما جدوى البياض ؟ وفي محاولته للإشتغال مع الأسطورة في ( صحراء آدم ) يحاكي شخصية آدم في تحولاته الاستكشافية لمعرفة كنه وجوده منذ خطيئة قظم تفاحة المعرفة وطرده من جنة السعادة ، إلى صحراء العذاب الأبدي ، وتيه اللهاث اليومي المقيت : أنا الذي جعل المرآة تنزف ، وعلّق الفأس في عنق غيمة نائمة ، فمن يرشدني إلى الطوفان / الطوفان لأغرق ، أو إلى الساقية / الساقية لأغفو ؟ من يحمل الجرّة إلى آدمَ ، قبل أن يغلق صحراءه ، وينام ... ؟ ( الغيابة العظمى ) نص يجوس منحاً وجوديا في تقصّيه لكنه ميتافيزيقيا الوجود ، وذلك من خلال تصور متخيّل ليوم الفناء الآدمي ، وافتراض حوار تساؤلي واخز مع << عنقود أسراره >> القاطن في الأقاصي : الآن أيقنت أنك أنت أعدائي ، قلت لعلّكَ الأعلى .. فتسلّقت صوتي ، وكانت المآذن تغرق في حشرجاتها ، قلت لعلك الأسفل .. فرأيت في جمجمتي نفقاً يعوي ، وعظامي شوارع في الصحراء ، ليس الأعلى والأسفل سوى أوثانٍ تنهش لحم الفراغ ! ل شيء فوقي سوى جثة تفتش عن غراب ، ( هل يكفي هذا لتصبح الأرض مساحةً لضجيجنا ؟ ) ويعمد في متون ( الوافد : مصائد ومخارج ) و ( 3 لوحات ) و ( الليل وهوامشه ) إلى الإفادة من الطاقات التعبيرية للقصيدة ذات المقاطع القصيرة ، في سيميائيتها اللغوية الموجزة والمحملة بالتشفيرات التأويليه والدلالية والرمزية والتخمينية والحضارية والداعمة لمعاني القصيدة . فتراه حينا يعتني برسم الصورة : ينزلق من عري إلى آخر ، ممسكاً بلهاثهِ خشية السقوط ، مأخوذاً بإيقاعات الهدم . أو يلجأ إلى التدوير الشعري : أسوار .. تفصلني عن الصحراء ، التي تفصلني عن المدن ، التي تفصلني عن البحر ، الذي يفصلني عن ... أو يدعم المقطع بهامش ، وهي محاولة لإعادة كتابته ، لفتح قنوات جديدة لولوج المعنى . هامش4 : مطمئناً أخرج إليك أيها الليل ، فقد تركت جسدي نائماً ، ألقيت عليه أغطيةً ثقيلة وأوصيته أن يحتفظ لي ببعض الأحلام . بعد هذا الإيغال العجول في المتون ، نستنتج ، أن لا رادع للشعر حين ينثال من المخيلة . ولا رادَّ له في ترحاله عبر اللا مأهول ، ولا وصايا أو محددات أو مصدات لكيفيات مثوله أمام التلقي ، هو جريانٌ حثيث ومتواصل ينضح من منابع شتى ، في جدلية انبثاقٍ دائمة الحراك . بيد أن الشعر الجاد والأبدي الحضور ، من يتمتع بمنظومة اتصال عالية الكفاءة في البث المعرفي ، والتي تمكنه من الصمود أمام نزوعية وتمترس منظومة التلقي في كل حين ، ويبدو أن فكرة موت المؤلف البنيوية ، فيها شيء من الإنصاف لماهية الإبداع ، وذلك لانصراف هذه الفكرة التام إلى النص دون سواه ، للتعرف على آليات حسن إنتاجه وحسب ، دون الانشغال باعتبارات أخرى لا علاقة لها بالعمل الإبداعي ، وحسبي وفقت في وقوفي على كتاب الشاعر الأعزل ، الذي لم ألتقِ به أبدا إلاّ من خلال كتابه الشعري هذا ، والمرسل لي عن طريق الصديق عدنان الفضلي ، والذي نَمَّ عن مخيلة مجبولة على تقصي تضاريس الشعر الأكثر وعورة ومغامرة ، وهو أعزل فعلاً ، إلاّ من مرجعيات ثقافية خصبة ، مكّنته من دحض متاريس الذائقة الخام والكسلى الباحثة بطبيعتها عن السهل اللا ممتنع .
#علي_شبيب_ورد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هم يذبحون الأمكنة
-
ذاكرة الخطى
-
أيها الماغوط .. هل أخذت الملف ؟
-
تعال يا مغترب
-
مكائد الأمكنة - كولاج تأويل
-
ناطحات الخراب
-
دكتاتورية المعدان
-
أسئلة الشعر المخيفة
-
نحت الشعر في سماوات الحجر
-
محرّضات ثراء النص الشعري
-
لي أيضا عربة
-
أيّها العاشق السومري .. من ألقى بك في الجب ؟؟؟؟
-
محاولة في إيقاظ طفولة الشاعر ناجي رحيم
-
شـارع الحـبـوبـي
-
خرق الظلمة بألوان الفرح والحب
-
بيت الترباس
-
الفاصولياء من صدام الى الجعفري والله أكبر
-
أمـنـيـة
-
( 2 -2 ) إستثمار مرجعيات المكان الأسطوري في إثراء الفضاء الش
...
-
2-1 -استثمار مرجعيات المكان الأسطورية في إثراء الفضاء الشعري
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|