|
طفرة الخروج ... التجاوز و التجديد في قصيدة النثر المعاصرة
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 1650 - 2006 / 8 / 22 - 06:31
المحور:
الادب والفن
تجسد قصيدة النثر الأداء الإبداعي في خروجه المستمر من مقولات النوع و الذات و اللغة المقبولة ذات البعد الخطابي الواحد في عملية الاتصال المعقدة ، و التي تطرح إشكالياتها في الساحة الثقافية حتى اللحظة الراهنة ، دون قبول كامل للشكل التحويلي للدلالة أثناء القراءة ، ومن ثم حل الفواصل بين الأداء النصي و أداء القارئ ، و لكن قصيدة النثر العربية المعاصرة قدمت أكبر تحد لنموذج القراءة القديم ، لأنها لم تختزل في خطاب و لم تنسب نسبة كاملة إلى تيار الحداثة و ما بعدها ، فهي منتجة لما يستبق أي طبيعة يمكن أن ترد إليها و للتحول من تلك السمات التي ميزتها في نص بعينه أو جيل إلى ما يتجاوزها إلى غيرها . لقد أفادت قصيدة النثر من تحرر الكتابة الأوتوماتيكية اللاواعية عند بريتون و غيره ، لتجسد الاستبدال و التكثيف في عوالم الحلم ، و من ثم فقد وضعت القصد موضع الشك ، ثم تجاوزت اللاوعي ضمن إطار الذات في اتجاه أسبقية التداعيات النصية المميزة للرسالة الشعرية دون غيرها ، فارتفعت عن آليات اللغة الاتصالية التي تختزل الإنسان و العالم في مدلولات محدودة ، لقد خرج النص عن مركزية الصوت الشعري و صار الوعي المتعالي منتهكا وفق كريستيفا و بارت من داخل بحثه عن خصوصية شعرية . و قد صار توتر الاسم و علاقة النص بالصوت موضوعا لكثير من قصائد رفعت سلام في ( إلى النهار الماضي ) و ( هواء قديم ) لمحمد سليمان و غيرهما . و قد نلاحظ أن الخروج من الشعرية الذي بدأ بانتهاك الوعي التعالي يستبدل إطاره الفلسفي و ينتج كتابة لعبية ملتبسة بالوجود الواقعي / السيري بوصفه إكمالا للنص و الأسطورة على حد سواء ، و انتشار الأطياف التي تجمع بين الوجود و الغياب معا ، ثم التأويل الأنثربولوجي للإنسان خارج نطاق خطاباته الأولى ، و الإعلاء من تفتيت المركز و الكشف عن ألعابه المحتملة في تجسدات الأشياء الصغيرة خارج سطوة المنظور و النزعة الإنسانية برمتها ، فلهذه الأشياء طاقة تكوينية خاصة تؤثر في قراءة المشهد و تعيد إنتاجه ضمن تفاعلها المتجدد بالعناصر التراثية و الإنسانية دون مركز ، و الكشف المتجدد عن نوازع التدمير الغريزية عند فرويد أو الديونيسيوسية لدى نيتشة ثم الاستبدال اللامتناهي عند دريدا في الكتابة الأولى ، و الشك في الآخر المخبر عنه في النص ، و في مركزية الوعي الراصد الذي صار قارئا في بعض النصوص لا منتجا مثل نصوص ذاكرة الوعل لفريد أبو سعدة ، و القارئ / المبدع وفق هذا التصور يجمع بين الأسطورة و الواقع و ما فوق الواقع و النصوص الثقافية المجهولة و المعلومة خارج أي سياق معرفي ، و لكنه سياق تأويلي متغير يناظر إشارات هيدجر و جادامر و بول ريكور ، و عند هذه النقطة من الممارسات النصية المتجاوزة للمدلول و الواقع و المنطق الإنساني المركزي في التفكير تتحول قصيدة النثر من الحداثة و الحداثة العليا إلى ما بعد الحداثة و ما بعدها ضمن صيرورة الخروج و التجاوز التي بدأت منها . و بهذا الصدد أتفق مع الدتورة ماري كلاجيز Mary klages في أن ما بعد الحداثة لا تأسف من أفكار التجزؤ و تفكيك المركز ؛ ذات أو نص ، خلافا للحداثة Modernity التي تقرن انعدام التوافق الذاتي بالأسى (1) . هكذا يكون التناقض و الانتشار الخارج عن المدلول الأول مقبولا و يؤسس لقارئ منتج جديد ، أو مؤول لا يبحث بالدرجة الأولى عن ما يدور في مخيلة المؤلف ، بل يشارك فيما يسميه هارولد بلوم بالقراءة الضالة المبدعة ضمن صيرورة الدال . و قد لاحظت ثلاث ممارسات ذات أهمية كبيرة في رصد صيرورة الخروج في قصيدة النثر العربية و المصرية ، هي الغياب ، و اللعب ، و امتزاج الثقافات عند ثلاثة شعراء ؛ هم محمد سليمان و علاء عبد الهادي و محمد فريد أبو سعدة . أولا : الغياب في سرد الآخر : تبدو لذة الغياب واضحة عند محمد سليمان في ديوان ( أعشاب صالحة للمضغ ) من خلال التشكيك في الذات الإنسانية الفاعلة ، تلك التي تملك ذاكرة للحضور السيري دون حضور ، إنه الغياب الذي يملك الإغواء بالتدمير ، و استباق الوجود في بديله الشبحي المغاير ، الذي يؤدي السرد باسم الذات الأولى المقتولة في فاعلية الشبح البديلة ، و المتحولة في ظلالها الممتدة في النص، و الواقع و المادة الكونية / الماء : " في الصباحات / حين تقوم البحور إلى غاية / سوف يصحو ... / يرمي إلى شاطئ جثثا / و ظلاما له ملمس الوحل / ثم يغوص / يظل يغوص / يفتش بين السماوات و الموج عن شبح " (2) . لقد استبق الصوت الحضور بغياب الصوت من الجثث ، فتلاشى الحضور من داخل حركة الغياب و طاقته التأثيرية ، و من ثم تولد الشبح من طاقة الغياب المجردة من فاعلية الفاعل ، من تناقضات التكوين البشري حين يواجه أطيافة في الآخر / البحر ، ففي ذاكرة البحر المخيلة يكمن البطل ( إحاب ) فيما فوق البحر في طاقته المغيبة لوجوده الظاهر : " ربما مثل آخاب يبحث عن سيد / سابح في الوقار / له الريح و البحر / و الصمت و النور / حوتا يسد شبابيكه / لن يصيد / .. يسمع عزفا على الماء يبكيه / يستله من مدار / و يحشوه / سوف يطارد / يصطاد ظلا " (3) . إحاب يمثل دورا جديدا في سياق الغياب الشبحي للصوت ، يتحول فيه الحسد الملازم للطوطم ، إلى أداء للصيد دون غاية سوي البحث عن سيادة الشبح / الغياب ، ففاعلية إحاب الجديدة مجردة من القوة ، تنفك ذاتيا من الغياب الكامن في تكوينه ، في الإصابات القديمة بجسده الذي يغيب هنا ليستبدل حسد التجسد المطلق لموبي ديك / الحوت الأبيض في رواية ملفل ، أما البحر فقد غاب في النص و التراث المؤول مثلما غاب النص في البحر ؛ فأفقد الفاعل فاعليته ، و لكن بقي السرد كتفاعل للطاقات الطيفية الأدائية . ثانيا : اللعب و الانتشار الدلالي : يكشف علاء عبد الهادي في ديوان ( معجم الغين ) عن لعب اللغة و لعب العالم معا في تكوينات حرفية / فوق تصويرية ، تستبدل العلامة بطاقة الدال / المختلف و الخارج دوما عن حده الصوتي ، أو الميتافيزيقي ، فمعجم الغين مرح للغين ، و لعب بالسرديات الصغيرة في حركتها التفاعلية المدهشة ، إننا أمام مواجهة مع الكون في انعدام وضوحه الأول ، خارج التأصيل لحقيقته المتوارثة ، و قد كتب بودريار حول هذا الملمح المعاصر في الفكر و ميزه بخروج الأشياء من خطاب الحقيقة ، و من حدود إدراكها المعرفية في اتجاه طلب للتشبيه و مواجهة جديدة يختلط فيها الواقع بتخييله في آن . و طبقا لبودريار، فدائما ما تشير الحقائق إلى عدم ، و خسارة كامنة في المعاني الظاهرة (4) . من هنا كان الاختفاء في معجم الغين أقرب إلى اللعب الخفي لوجود الأشياء الآخر ، في نص الغابر يقول : " الباب يدق / فمن سيفتح ساعته للفراغ / في وهن الهواء / ستسلم الحجرة حيطانها لضيوف يتركون عليها ظلالا حميمة " (5) . الظل تأويل لاختفاء الوجود الكامن في الوجود الواقعي نفسه ، فالظل / الأثر يلعب في فضاء الحيطان الفارغة من منظورها المجرد من الإدراك بوصفه معرفة ، و لكنه رصد التشبيه كوجود متحول خارج مدلوله الإنساني . و قد يبدو الاختفاء تأجيلا للوجود برمته رغم أنه أتى كتأويل له في النص السابق ، ففي نص الغارة يقول : " الليل يخاف / لذا الليل أسود / يستتر خلف الأشياء دون مسمى / و حين يسميها النور / يموت " (6) . كيف يطلب الاختفاء اختفاءه ؟ الليل يخاف و هو مصدر للخوف عند من يطلبون حقائق النهار . هل كان استبدالا لنهار يطلب اكتشافا آخر للاسم ؟ أم أن الليل اختفاء خلف الاختفاء الكامن في الظاهر، و هو الأشياء حين تفقد مدلولها، و تشبه الليل الذي يحاكي الاختفاء ؟ ما الموت ؟ هل هو المعرفة ؟ الاسم ؟ المدلول ؟ إن الوجود هنا لعب بالاختفاء المضاعف لليل و الأشياء ، يقاوم حدود النور بالموت كأداء مؤقت في لعبة الاختفاء التي يصير فيها منظور الفاعل خلفية مهملة تطلب تفاعلا حرا للتجسد خارج الحدود . و قد تلتحم الأشياء الصغيرة في معجم الغين بلعب الكتابة الأولى عند دريدا Derrida ، فتختلط دلالاتها بالآثار الأخرى المؤجلة لمدلولها التكويني ، فيصير الأثر هو البديل عن المركز رغم أنه يسمى باسمه ، فالمكنسة تؤسس لما يناهض المكنسة من داخلها ؛ و هو عضو الذكور ، و سجادة الصلاة تنتقل في بساط أسطوري طائر . يقول : " الزعنفة تئن في الطبق منذ يوم / الموقد يخشى النار / المكنسة تخاتل الهواء / سجادة الصلاة تفر / الثلاجة تصب البياض على الحاضرين " (7) . إن سرد الأشياء الصغيرة يحتل فضاء المنظور احتلالا مؤقتا؛ ليكشف أنه مجرد موقع أو فراغ مستبدل بالبياض الهاذي ،أو طاقة الهواء ، أو صراخ الزعنفة الحامل لتاريخ العبث . ثالثا : امتزاج الثقافات : يجمع فريد أبو سعدة في ( ذاكرة الوعل ) تصورات ثقافية ، و نصية متباينة خارج نطاقها الخطابي الأول ، بحيث يصير المقتطف مؤولا لخطابه لا تابعا له ، و عند هذه النقطة من التداخل بين المركزي و الهامشي ، و المحلي و العالمي يصير النص قراءة مفتوحة لبنيته الانشطارية الحوارية في آن ، فهي انشطارية / ما بعد حداثية ؛ لأنها تحتفي بالجمع بين الطرز المختلفة في تجزؤها و لعبها ؛ و حوارية بمعنى يتجاوز ما بعد الحداثة من داخلها . و يطلق عليه إيهاب حسن beyond postmodernism و يميزها بالتداخل المذكور آنفا . و تبدو الثقافات المختلفة هنا متحررة من الوعي في حركتها فوق المعرفية في اتجاه تفاعل مفتوح ، و لننظر إلى هذه الفقرة من الديوان التي تجمع بين الميدوزا الإغريقية التي تحول ما يقع عليه بصرها إلى حجر و نص ثقافي مجهول و النزوع النيتشوي لجمال التدمير الديونيزي، و انفجار الصمت كبديل للموت في تكوين ثقافي واحد : " في مخطوط قديم وصف جواب آفاق عينا سقطت من السماء و ظلت تتحرك ، فكل ما وقعت عليه صار حجرا ثم تحولت هي بعد ذلك إلى حجر كريم " (8) . لقد أتى السرد كفاعلية لغياب العين في حالة التحجر المناهضة للطاقة التدميرية الفائقة . الهوامش : راجع / Mary klages - postmodernism on: http://www.colorado.edu/English/ENGL2012Klages/pomo.html راجع / محمد سليمان / أعشاب صالحة للمضغ / الهيئة العامة للكتاب 1997 ص 83 و 84 . راجع / السابق ص 84 و 85 . راجع / Jean baudrillard - radical thought on: http://www.uta.edu/english/apt/collab/baudweb.html 5 - راجع / علاء عبد الهادي / معجم الغين / هيئة الكتاب / 2002 ص 8 6- راجع / السابق / ص 87 7 - راجع / السابق / 89 و 90 . 8 - راجع / فريد أبو سعدة / ذاكرة الوعل / هيئة الكتاب 1997 ص 95 .
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية النموذج .. قراءة في كسبان حتة ل .. فؤاد قنديل
-
الاستباق و التحول - التفاعل المعاصر بين التراث الثقافي و الع
...
-
أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي
-
مقاومة الهامش في ديوان المدخل إلى علم الإهانة ل ..مهدي بندق
-
العقل يتجاوز إطاره
-
ارتباك الواقع في مجموعة هشاشة عقول ل نبيل عبد الحميد
-
جماليات الاندماج الكوني.. قراءة في الغزلان تطير ل محمد المخز
...
-
هارولد بنتر .. و الاستعادة المقدسة لتموز
-
فرح التفكيك .. قراءة في ديوان لك صفة الينابيع ل .. علاء عبد
...
-
التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه
-
الأدب يفجر أسئلة العمل و العمل الافتراضي
-
عبد الرحمن منيف ... الوجه الجمالي للشخصية العربية
-
ما بعد الحداثة... و جماليات التناقض..قراءة في الأشياء الفريد
...
-
مطاردة الفراغ... قراءة في ما بعد الحداثة و ما بعدها و الملام
...
-
الفكر النسائي من قضايا الهوية إلى تجاوز الواقع
-
تحولات المألوف .... قراءة في رقصات مرحة ل محمد حافظ رجب
-
صدمات سياسية ...قراءة في عرض مجاني للجميع لأحمد الشيخ
-
قضايا النشر و اليسار في الحوار المتمدن
-
موسيقى السرد .... قراءة في البغدادية لسعيد الكفراوي
-
تجليات التداخل و التجاور- قراءة في نثار المحو لجمال الغيطاني
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|