أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أسعد الخفاجي - ومضات العقل من البصرة وقرطبة تتألق في سماء أوربا المظلمة - مدرسة الحداثة















المزيد.....



ومضات العقل من البصرة وقرطبة تتألق في سماء أوربا المظلمة - مدرسة الحداثة


أسعد الخفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 1648 - 2006 / 8 / 20 - 11:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


نشوء فكر الحداثة
فريدرش هيجل: تتمثل عظمة العصر الحديث في إعترافه بأن الحرية ميزة أساسية للفكر الإنساني.
يورغن هابرماس:عصر الحداثة هو العصر الذي يختل فيه التوازن بين الماضي والمستقبل ، العصر الذي يحيا بدلالة المستقبل ، وينفتح على الجديد الآتي. العصر الذي لم يعد يستمد قيمه ومعاييره من العصور الماضية ، إنما يستخلصها من أعماق ذاته".
عُرفَ مفهومُ الحداثة (مودرنيزم) في الثقافة الأوربية المعاصرة ، كمدرسة ثقافية شاملة ، تعكس التمردَ في سلوك الفرد والمجتمع والمنظمات ، ضد الثوابت التقليدية الجامدة في الفكر والفن والسياسة والمجتمع. وينظر المعاصرون إلى الحداثة على أنها منهج كوني شائع ، إقترن بالتطورات العالمية النوعية الحاصلة للحضارة الإنسانية ، منذ القرن الثامن عشر. ويمكن أن تُؤرخَ الحداثةُ بالتنوير ، على صعيد المنهج العقلي ، وبالثورة الفرنسية على الصعيدين السياسي والإجتماعي الأوربي ، وبالثورة الصناعية العلمية – التكنلوجية على الصعيد الإقتصادي. من جانب آخر ، نرى أن الحداثة الفنية جاءت متأخرة نوعاً ما ، فلم تظهر قبل القرن العشرين ، إذ شهدت الثقافةُ الفنيةُ أول مرة ، ما يعرف بالحداثة الكلاسيكية في الفن. ويُعد المفكر الفرنسي الكبير شاتوبريان أول من إستخدم مصطلح الحداثة في كتاباته. تبعه بعد عشر سنوات الشاعر الفرنسي بودلير ، عندما إستخدم لفظة الحداثة في كتاباته كمفهوم. ودخلت الحداثة إلى الثقافة الألمانية في أواخر القرن التاسع عشر ، عندما إستخدمها الكاتب أويجين فولف في مقالة فنية. ولسنا هنا بصدد الإستخدام اليومي لصفة الحداثة ، أي بمعنى الطراز العصري أو المودة أو الستايل.
في الواقع ، يمتد مفهوم الحداثة إلى الوراء في عمق الزمن ، فيبلغ العصور الوسطى ، حيث نجده معبراً عن إرهاصات عقلانية في الفكر والفلسفة. كان الإنسان الواعي في خلال العصور الوسطى قابعاً تحت غطاء الكبرياء والتعصب الأثني والثوابت الدينية. لكن في القرن الثاني عشر ، أطلق الفيلسوف الأندلسي محمد إبن رشد ، وهو أحد المنتمين إلى فلسفة أرسطو ، أول دعوة حداثية مكرسة لإبراز دور العقل الإنساني في دراسة الكون والمجتمع. وسنأتي على تفصيل ذلك فيما بعد. ثم أتت اللحظة التي ظهرت فيها على مسرح الحضارة الأوربية ، أعمال إنسانية عظيمة لمفكرين متميزين مثل: ليوناردو ، توماس مور ، أراسموس ، جوتنبرج ، ماجلان ، تايتيان ، روفائيل ، ميخائيل أنجيلو ، ماخيافيللي. فكانت تلك بداية التحول إلى العالم الحديث.
وهكذا نجد الحداثة قد نشأت في أوربا ، كحركة فلسفية شاملة ، مستفيدة من مبدأ إبن رشد ، القائل بضرورة تفعيل العقل الإنساني للتوصل إلى المعرفة. على أنه ليس من المتفق عليه تماماً أن فلسفة إبن رشد ، كانت حاسمة في إسهامها بتكوين المنهج الحداثي في أوربا ، إذ يعتقد المعترضون على ذلك أن العقلانية الحديثة ، ليست تراكماً آلياً لفكر إبن رشد ، أو عقلانية أرسطو ، لما وصلته (تلك العقلانية) من مستويات في النضج والتكامل ، ما عجزت عنه فلسفة أرسطو و إبن رشد ، التي لم تتخط برأيهم المرحلة "التأملية" في الحداثة. فالحداثة الأوربية ، حسب معارضي فكرة التأثير الأرسطو - رشدي ، عقلانية إنسانوية ، قائمة على قاعدة علمية فلسفية متينة ، تسندها علوم الفيزياء (نيوتن وغاليليو ولايبنتس وغيرهم) ، والبيولوجي (داروين) ، والإقتصاد والسياسة (سميث/ريكاردو ، ماركس/أنجلز) ، والفلسفة والإجتماع (ديكارت وهيوم وهيجل وفويرباخ وغيرهم). لكنه يبدو أن الجميع متفقون على أن هناك قاسماً مشتركاً ، بين حداثة إبن رشد الأندلسية وحداثة أوربا اللاحقة. يتجسد ذلك في ولادة الإستقلالية والذاتية لدى الإنسان ، وفي حرية الفكر ، والجرأة على توجيه النقد إلى كل شئ ، دون وجل من المحددات الفوقية السلطوية أو الدينية.
الحق أن الفلسفة الإسلامية ذات الملامح الحداثية في الأندلس ، كانت أيضاً هدفاً للعسف الديني الأوربي في ذلك الزمان. فقد أعلن البابا جريو جوري التاسع عام 1227 ، على سبيل المثال ، أن العالم "ملئ بالزيغ والضلال" ، وأن "الفضيلة أصبحت بعيدة المنال". ودعا إلى عدم التسامح مع الإصلاحيين والتنويريين ، وإلى "حماية العقيدة والتحقق دائماً من صحتها وسلامتها ، ومكافحة البدع والفتن والأفكار الهدامة ". ولم يكتف بذلك حيث أمر بتشكيل أول "محكمة تفتيش" ، لمكافحة الضلال ، ووضع اللعنة على جميع التنويريين (الضالين). وأصدر قانوناً يحرم على "غير رجال الدين أن يناقشوا في مسائل الدين!" وبلغ الأمر أن عملت الكنيسة الفرنسية الكاثوليكية ، قتلاً وتشريداً بحق آلاف المواطنين الذين لاينتمون إليها ، وإضطرت السلطة الإقطاعية إلى طرد هؤلاء الضحايا "الملحدين" من فرنسا. من ناحية أخرى ، يذكر بعض المؤرخين أن جذور الحداثة تمتد إلى بداية عصر النهضة ، حيث حصول بعض حالات الجدل بين العلمانيين وبين السلطة الدينية. وكما هو معلوم ، بدأ البعض من المفكرين ، في تلك الحقبة من الزمن ، مثل توماس مور في مؤلفه "يوتوبيا" الذي صدر عام 1516 ، بدأوا بقياس الأشياء مستخدمين معيار "الإنسان" ، بدلاً من "الإله". يتمتع الإنسان حسب الفكر النهضوي ، بثقة عالية بالذات في التعلم والإدراك ، والتعامل مع قوى الطبيعة ، ويمكنه إستغلال الكون ، إلى درجة التحكم بالمصائر الفردية ومستقبل العالم. بدأ التفكير الحداثي ، الذي نشأ مع ولادة النهضة ، وإنتهى في الحرب العالمية الثانية ، يتخذ نمطاً جديداً مع بداية عهد التنوير والثورة التكنلوجية في القرن الثامن عشر ، الذي شهد نضجاً كبيراً في إيمان الإنسان بالعقل ، كأعلى سلطة متحكمة في القيم والشؤون الإنسانية . بالعقل إستطاع الفكر الإنساني أن يتنور ، ويتحرر من القيود الفوقية ، التي كانت مفروضة عليه ، وينفتح على العالم. وهكذا فأن الحداثة الثقافية الأوربية بدأت في المدن الكبيرة ، مثل لندن وميلان وبرلين وسان بطرسبرج وباريس وأمستردام ، ومن ثم إنتشرت في أربعينيات القرن العشرين في مدن الولايات المتحدة الأميركية ، حيث أسست لبداية مرحلة مابعد الحداثة في خلال الستينيات. الحق أن الحدث الأكبر هنا كان ، نجاح الثورة الفرنسية ، التي دعت إلى التخلص من الحق الإلهي ، وإقامة مجتمع العدالة والمساواة والحقوق المدنية ، ونجاح الثورة الصناعية البرجوازية ضد نظام إنتاج الملكية المطلقة ، ونجاح الحركات التنويرية في كبح السلطات الدينية ، وإنتصار الفكر العقلاني على الفكر الديني المستبد ، وتمرد العامة على مجموعة اللاهوت المعادية للتقدم ، بمثابة الإعلان الحقيقي لبداية عهد الحداثة ، الذي دشنت فيه المجتمعات الأوربية الديمقراطية ، والنهضة العلمية – التكنلوجية الكبرى. العصر الذي إنتقل بموضوع الفلسفة ، من دراسة الصلة بين الإله والكون ، إلى دراسة الصلة بين الإنسان والطبيعة ، وبين الفكر (العقل) وقاعدته المادية.
ليست الحداثة إنتماء إلى عصر بذاته ، وإنما هي أسلوب يلجأ إليه الإنسان حينما يعبّر عن فكره. في الحقيقة لا تتوقف الحداثة عند حد معين ، ويمكن القول أن كل عصر له حداثته ، وأن الحداثة طابع يميز كل العصور. وللأسف تخلق الحداثة لها أعداء على الدوام ، ممن تتهدد مصالحهم ، بسبب رفض القديم البالي المتحجر ، والدعوة إلى الحديث والمتجدد. إنها الحداثة ما أوصل المجتمعات إلى التطور ، والإنسان إلى تحرير عقله وإرادته من قيود المتسلطين عليه. ويمكن القول أن مفهوم الحداثة ، كما شاع توصيفه خلال القرن العشرين ، قد تقادم ، ولم يعد يتلاءم ومتطلبات العصر الحالي ، الأمر الذي إستلزم إنبثاق مدرسة جديدة ، هي "مابعد الحداثة" ، التي أسست لها مدرسة فرانكفورت ، بقيادة أدورنو وهوركهايمر وماركوزة وهابرماس وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الألمان.
سمات الحداثة الأوربية
إيمانوئيل كانتْ: "حيثما تنتهي حدود العلم ، تبتدئ حدود الإيمان".
فريدرش نيتشه: "يهدد القارة الأوربية نوعان من المخدرات ، الكحول والديانة المسيحية".
لقد ظهرت الحداثة ، تلك الرؤيا الدينامية التجديدية ، الداعية إلى تبني المتغيرات ، الرافضة للسكون والثوابت ، لتميز بعض النشاطات والفعاليات الثقافية والفلسفية والفنية ، وتطبعها على مر العصور وفي كل مكان من العالم ، بطابعها النوعي. فهناك الحداثة الكلاسيكية في فكر أرسطو ، والحداثة التي تميزت بها أفكار إبن رشد في خلال العصر القروسطي ، وحداثة النهضة المتمثلة بفلسفة بيكون ، وحداثة التنوير التي جاء بها هيجل ، ومن بعده أتباع فلسفته من الهيجليين الشباب (فويرباخ وماركس) ، ثم تيار الحداثة الجديدة الذي تميزت به فلسفة نيتشه ، وأخيراً الفلسفة الأحدث: مابعد الحداثة ، التي أسست لها مدرسة فرانكفورت (جرينبرج وهوركهايمر وأدورنو وهابرماس وماركوزة). عليه نرى أن مسيرة التجديد في فكر الحداثة لم تتوقف يوماً ، ما دام الإنسان الذي يلجأ إلى عقله دون سواه ، يقرر مصيره بنفسه ، ويذلل ما تعترضه من مصاعب طبيعية وإجتماعية. لقد أصبحت مدرسة الحداثة حالة ثقافية مستديمة ، يمكن رصدها في فلسفة كل زمان ومكان. فأبو نؤاس مثلاً كان رائد تجديد وحداثة ، وقد ساهم في جعل الشعر ذا علاقة جدلية بالحياة اليومية ، بعيداً عن أطر وتقاليد القديم الموروث. كذلك كان بشار وإبن الرومي وأبو تمام مجددين في أعمالهم الفنية. وشيكسبير ، كما لايخفى على أحد ، تميز بأسلوب حداثي ، في نهجه الروائي الشعري ، شأنه شأن الأديب الروسي دويستوفسكي ، الذي ميزت الحداثة تصميمه لشخوص رواياته ضمن معايير عصره.
الواقع أن أوربا شهدت نوعين من الحداثة: الأول ويقترب من معنى التقدم الإقتصادي والعصرية الإجتماعية ، نتيجة إندلاع الثورة البرجوازية الصناعية ، وحدوث التقدم العلمي التكنولوجي المرموق. والثاني كمفهوم فلسفي أستيتيكي. والحداثة ليست إلا تبنياً شديداً لضرورات المرحلة التأريخية ، والإنحياز إلى خيار الإنسان التقدمي ، ونبذ الثوابت المتحجرة التي باتت تؤخر مسيرة التطورالإجتماعي ، وتحبط إزدهار الفرد وإنتعاش ثقافته. ويمكن القول عموماً أن الحداثة تتميز بالحركة والتغيير والتحدي ، على عكس الفكر التقليدي (اللاحداثي) ، المثقل بالثوابت الساكنة ، ذات المفعول التخديري ، والتي توحي لدى الإنسان بالسكينة الكاذبة والإطمئنان السلبي المزيف. وإذا أمعنا النظر في جوهر الحداثة نجد إحكاماً لسيطرة العقل ، ورجحان الرؤية الموضوعية للتقدم الإنساني ، حيث تفعيل الرابطة التفاعلية الديالكتيكية بين المتغير والثابت ، النسبي والمطلق ، الشك واليقين ، الأرضي والمقدس ، الزائل والخالد ، الفيزيائي والميتافيزيائي.
تبدو لنا بوضوح بداية فرض الحداثة لمنظورها المتميز ومعاييرها النوعية ، على الثقافة الأوربية ، عندما وُلد تصور "الفردية الإنسانية" ، وهيمن على جميع معالم الثقافة والفنون ، مخترقاً سائر أساليب الحياة والتفكير ، ليس بعيداً عن الخطاب السياسي القائم على النظرية الديمقراطية. ومن أهم أسرار نجاح ذلك الخطاب ، وأسره لقلوب الملايين في أوربا والعالم ، نزوعه إلى منهج الشك النقدي العقلاني. من جانب مختلف كان التنوير مجرد حركة ثقافية ، متأثرة بمنجزات الثورة العلمية – التكنلوجية التي قامت في خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ، حيث ظهر علماء مثل غاليلو ونيوتن ولايبنتس ، وظفوا العقل لتناول الطبيعة بالدرس والتحليل. وكان نتيجة ذلك أن تكشفت للناس حقائق وإكتشافات علمية رائعة. نعلم إن مفهوم التقدم نشأ أولا في علوم الفيزياء ، قبل أن ينتقل إلى مجال الثقافة. ومن أكبر الحقائق التي كانت تخفى عن الناس ، من قبل السلطة الدينية ، دوران كوكب الأرض حول الشمس. وتدريجياً إستطاع الفكر العقلاني أن يتغلب على الفكر الديني ، حينما توصل مفكرو التنوير في القرن الثامن عشر إلى الحقيقة المعرفية القائلة أن كل شئ (التقاليد ، العادات ، التأريخ ، وحتى الفن) ممكن إدراكه بالعقل. ومما يجدر ذكره أن المفكرين ذهبوا أبعد من ذاك ، حيث بينوا أن العلاقات السياسية والإقتصادية والإجتماعية نفسها قابلة للتغيير والتطوير ، بإستخدام العقل والمكتشفات العلمية الجديدة ، الأمر الذي أدى وفق منهج الحداثة إلى تحرر الفرد من السيطرة الدينية والتسلط السياسي البيروقراطي ، طالما تحررت أفكار الناس من الأكاذيب والخرافات. ونبع إيمان بديل لدى الفرد زاده ثقة بأن الحقيقة سوف تحرره من العبودية. وهيمنت الحرية في القارة الأوربية ، حتى غدت العمود الفقري للمجتمع المدني الجديد. وبينما إكتفى مفكرو عهد التنوير بتناول الفكر الديني التقليدي ، لغرض إصلاحه وترميمه ، وجعله أكثر "عقلانية" في نظر المجتمع ، هاجمه مفكرو الحداثة ، كونه قد حول الإنسان إلى تابع مسلوب الإرادة والطموح . ومعروف أن الحداثيين عدّوا الدين الريح التي تطفئ وهج الحياة.
أعتقد بعض مفكري القرن الثامن عشر بأن التنوير سوف يشحذ همم الكثيرين من الناس لمعرفة الحقيقة. فبالعقل والحقيقة سوف يتحرر الإنسان من ظلم رجال الدين ، وعسف السلطة البيروقراطية. وفي عام 1763 إقترح جان جاك روسو إقامة مجتمع جديد ، يسوده العدل والحرية والمساواة بين جميع الناس. وقد تحققت هذه الدعوة بإقامة أول عالم جديد ، في ضوء "إعلان الإستقلال" في الولايات المتحدة الأميريكية ، حيث وردت عبارات مثل: "كل الناس خُلقوا متساوين" ، وأكدت تلك الأفكار على سعادة الإنسان الدنيوية ، في الوقت الذي كان الدين فيه يدعو فقط إلى السعادة "الأخروية". وفي عام 1789 حاول الفرنسيون من خلال ثورتهم الشهيرة أن يقيموا مجتمعاً جديداً ينعم بالعدل والحرية والمساواة. لكن تلك الثورة فشلت للأسف ، في تحقيق أهدافها السامية. وفي عام 1917 قامت الثورة البلشفية في روسيا ، التي برهنت الأحداث فيما بعد ، على أنها هي الأخرى ، كانت محاولة طوباوية فاشلة. لقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى حالة من الإحباط في صفوف الحداثيين ، بينما نسفت الحرب العالمية الثانية كل معالم الحداثة وقضت على روحها. فألمانيا التي كانت موطناً للحداثة ، أضحت في ظل النازية مكاناً لتصفية المفكرين والنشطاء التقدميين ، وقتل الناس من غير العنصر الآري ، كالروس والبولونيين والفرنسيين والشيوعيين واليهود والغجر ، وغيرهم من معارضي الحرب. وتنحو الفلسفة الحديثة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة , لأن تكون تياراً تقنياً ، أكثر منها تياراً حداثياً صرفاً ، فهي تركز على نظريات المنطق والمعرفة ، وتشمل آلياتها تحليل إشكاليات الأخلاق والعقلانية.
من هم رواد الحداثة
شارل بودلير: "الحداثة هي نقطة التقاطع ما بين الأبدي وبين المؤقت".
يُذكر أن رواد الحداثة المعروفين ، في المجال العلمي هم كوبرنيكوس وجاليليو ولايبنتس ونيوتن وفرويد وداروين وغيرهم. أما رواد الحداثة الفلسفية فهم بيكون وديكارت وهيوم وهيجل وفويرباخ وماركس وأنجلز ونيتشه وغيرهم. أما المساهمون في التطور الفني الأستيتيكي الحداثي فهم رامبو وبودلير وبلزاك ومانيه وجويس وغيرهم. فمن هؤلاء العباقرة الذين رفدوا مدرسة الحداثة ، بوافر من إبداعاتهم الفكرية ، نقرأ أسماء لامعة مثل: المفكر الإنجليزي فرانسيس بيكون ، مؤسس المادية الجديدة والعلم التجريبي ، وواضع أسس الاستقراء العلمي ، الذي يعتقد بسيطرة الإنسان على الطبيعة ، والفيلسوف والكاتب الفرنسي جان جاك روسو ، رلئد الخطاب التنويري الفرنسي ، التي غذى به مبادئ الثورة الفرنسية ، والفيلسوف رينيه ديكارت مؤسس المذهب العقلاني في المعرفة ، الذي إستند إلى مبدأ الشك العقلي ، الذي يقود إلى تحرير العقل من الثوابت ومن السلطة الدينية ، وينتهي بالإنسان إلى الحقيقة عن طريق الفرض والتحليل والتركيب. ومن رواد الحداثة أيضاً ، الفيلسوف باروخ سبينوزا ، الذي رأى أن الفلسفة تمكن الإنسان من السيطرة على الطبيعة ، دحض هو الآخر إدعاء أن كتاب "التوراة" ، منزّل عن طريق الوحي الإلهي. وإعتقد سبينوزا (وكان إبن عائلة يهودية) ، أن التوراة ماهو إلا مجموعة من الكتابات ، وضعها أناس مثلنا ، وهي تتلاءم مع المستوى الأخلاقي للعصر الذي وضعت فيه.
لقد أكد ديفيد هيوم في فلسفته على العقل الإنساني السليم. وعارض الميتافيزياء التقليدية ، واصفاً إياها منبعاً للأوهام ، لأنها إذا إعتمدها الإنسان تمنعه من بلوغ غاياته. أضاف هيوم تجريبية جون لوك إلى مثالية جورج بركلي ، مستخرجاً فلسفته الوضعية المتميزة بعامل الشك ، وإستطاع إستخدام قاعدة الشك في فحص المعرفة المبنية على الميتافيزياء ، مبدياً إصراره على التخلي عن مبدأ التجريبية العلمية فيماعدا الرياضيات ، وأنكر وجود أية معرفة مطلقة. حلل المعرفة ووضع المفاهيم الأساسية للسببية ، فقال أن المسببات النهائية للأشياء غير معروفة ، والمادة تبقى شيئاً غير حقيقي ، مالم تخضع إلى التجارب الداخلية والخارجية ومن قبل جميع الأطراف. ورؤية هيوم حول الأفكار تتلخص في كونها صوراً باهتة ناتجة عن الإنطباعات. فليس من سبيل إلى إكتساب معرفة تجريبية للحقائق ، مالم تأت تلك التجارب من خلال الإنطباع والخبرة ، إذ لايمكن إدراك أية حقيقة من خلال التأمل المجرد ، ويظل نقيضها على الدوام محتملاًً. كما رفض هيوم بشدة المعجزات كونها تتناقض والخبرة ، ولاتقدم أي برهان على وجود الإله. بالإضافة إلى ذلك إشتهر هيوم بدعوته للتسامح مع الأديان الأخرى ، ومع الرافضين للفكر الديني للعلمانيين والملحدين.
يمكن إعتبار الفيلسوف إيمانوئيل كانت أول حداثي حقيقي ، لأنه هو الذي دعا إلى ممارسة فحص نقدي لقدرة الإنسان المعرفية ، كي يعاد تقييم الفلسفة النظرية والأخلاق والفلسفة الطبيعية إيجابياً. وتبع كانت خطى هيوم في عدم الأخذ بالمعرفة العامة الضرورية (الأحكام) ، حيث رأى إن المعرفة لا تنتج عن الخبرة فقط ، وإنما من الإستدلال الحسي الذي يعقبه الإدراك المعرفي. ميز كانت بين الأحكام التحليلية (العاجزة عن توفير المعرفة الجديدة) ، وبين الأحكام التركيبية (التي توفر تلك المعرفة). وقد أطلق على الأحكام التركيبية المتضمنة معارف جديدة مفهوم الأحكام التجريبية (آبستريوري). وإستثنى علوم الرياضيات القائمة على الإستدلال النظري (آبريوري) من دائرة الشك. أكد على القدرة الذاتية للإرادة (مقياس الحرية) ، الخاضعة للعقل. وكتب أن الإنسان يكون حراً إذا أخضع إرادته إلى عقله. عليه يمكن تشخيص جوهر الحداثة حسب تصور كانت ، في نقد الأسلوب النقدي نفسه ، لا لغرض إضعافه وإنما لتمكينه من أي يكون أهلاً للمناورة والبقاء. لقد إستخدم كانت المنطق لوضع حدود المنطق.
شخص فريدريش هيجل الأهمية الكبرى للثورة الفرنسية ، يجعلها الإنسان ، لأول مرة ، حراً ، بعد أن حطم أصفاد السلطة السياسية الإقطاعية ، وقضى على نفوذ الفكر الديني المتحجر. وتنبأ هيجل بأن الدولة العصرية الدستورية المحكومة بقوانين حديثة ، وحدها قادرة على توفير الحرية للناس. ومن أعظم الإنجازات الفلسفية على الإطلاق ، رؤية هيجل الديالكتيكية الكونية الشاملة ، في العلاقة بين الظواهر الطبيعية والإجتماعية. وقد إشتق هيجل إسم نظريته الديالكتيكية ، من الأسلوب الجدلي الذي إعتمدته الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. وتلخص بأنها الحركة الناشئة عن تراكم التناقضات المتعاقبة تأريخياً. وبهذا تميز الفكر الهيجلي الجدلي عن الفكر التنويري الكانتي ، الذي إقتصر على مفهوم العقلانية غير المرتبطة بالزمن. وخلافاً لكانت رأى هيجل أن العقل والحقيقة والبدهية هي أمور لا تتحقق إلا من خلال عمليات تأريخية (زمنية) ، أي عبر العملية الديالكتيكية: أي بتقديم الفرضية ثم الفرضية المضادة ثم التركيب. وحسب تصورات هيجل المعرفية فإن كل شئ له نقيضه. ويمكن التوصل إلى الحقيقة من خلال إتحاد القول ونقيضه في المرحلة العليا ، أي التركيب ، حينذاك تختفي التناقضات. وحسب منطق هيجل فإن الفلسفة بدأت بحالة "الكينونة" ، وهي حالة لها نقيضها الذي هو "العدم". وبالتحليل الدقيق وجد هيجل أن الكينونة والعدم هما نفس الشئ. ومن تركيب الكينونة والعدم تنشأ "الصيرورة" ، التي هي محض تحول مستمر ما بين الكينونة والعدم. تُعد هذه الديالكتيكية محركاً دينامياً للمنظومة التي إشتق هيجل منها كل الحقائق ، بما فيها الحقائق الذهنية.
ويشير لودفيج فويرباخ في فلسفته المادية الأنثروبولوجية ، إلى ضرورة جعل الإنسان المحسوس الإجتماعي الظني ، منطلقاً لكل الفلسفات. عدّ فويرباخ الإنسان مقياساً واقعياً لجميع الأشياء ، بما فيها الحقيقة. عمل فويرباخ على إلغاء جميع التناقضات الموجودة في الواقع: "حيث تُؤنسن الآلهة ، وتتحول وهماً إلى واقع يجري تقديسه". وفيما يتعلق بكيان الإله ، رأى فويرباخ أن ضمير اللانهائي لا يعدو أن يكون ضميراً للانهائية الضمير. عليه فإن ضمير الإله ، ماهو إلا الضمير الشخصي للإنسان. عليه فمعرفة الإله ماهي إلا معرفة الإنسان لِذاته. إن الإله هو الإعتراف الصريح للإنسان ، بأسرار الحب والخوف المخزونة في داخله ، وإنعكاسها إلى الخارج. إن الإله ما هو إلا محض تعبير عن الذكاء البشري ، والإرادة البشرية ، والكمال والعدالة والحب. وتمكن خيال الإنسان عبر التأريخ من إيجاد كيان حقيقي يجسّد القوى والغرائز والرغبات ، وسمى هذا الكيان "الإله" ، الذي أريد له أن يجسّد كل هذه الأشياء بشكل متكامل. إن الدين هو سلوك الإنسان تجاه ذاته ، بحيث يبدو أنه يتعامل مع كيان آخر مستقل عنه. ففي الدين يفصل الإنسان كيانه النهائي الفردي ، عن كيانه اللانهائي كنوع ، يُزيّن الأخير بنفائس الصفات المميزة ، ثم يبدأ بعبادته. إن التمييز الخاطئ بين الصفات البشرية والصفات الإلهية (أي فوق البشرية) ، يؤدي إلى أن الفرد (الأنا الأول) سيشعر بأنه ذو قيمة دونية ، ومفعم بالخطايا ، بينما يُبجّل نصفه الثاني (الأنا الآخر) كإله (كيان النوع البشري). ينتج عن ذلك معاناة الإنسان من حدوث إنفصام شخصي ، وإغتراب ، وبؤس. يقول فويرباخ: " إن الإنسان هو الذي إبتدع فكرة الإله ليكون على شاكلته". وقد آن الأوان لكي يستعيد العقل البشري حسيته ، لغرض إيجاد الوحدة الموضوعية بين الجسد والعقل. كما يتعين على الفلسفة معرفة ما هو حاصل ، تناول الأشياء والوجود كما هي ، وذلك هو أسمى قانون وأعظم وظيفة للفلسفة.
ورأى كارل ماركس وفريدرك أنجلز ، وهما إضافة إلى فويرباخ من مجموعة الهيجليين الشباب ، أن التأريخ لا دور له في الوجود ، بل هو الإنسان الذي يفعل كل شئ ، وعليه أن يسيطر على الطبيعة ليدافع عن نوعه. كتب الفيلسوف الألماني يوهان فشته مرة عن المسألة الأساسية في الفلسفة : "كل فلسفة لابد أن تنتمي إلى واحدة من مجموعتين: المادية والمثالية". ويعتقد المثاليون بأولوية الفكرة (أو الإله مثلاً) ، بينما يخالفهم في ذلك الماديون مظهرين أولوية المادة. وقد رأى أنجلز مجموعة ثالثة ، هي مجموعة اللاأدريين (آجنوستك) ، الذين لايعرفون أية أولوية هي الصحيحة ، وينتمي إلى هذه المجموعة حسب أنجلز كل من هيوم وكانت. ويُعد ماركس وأنجلز من مجموعة الماديين ، مؤكدين أن الضمير الإنساني هو نتاج مادة الدماغ ، فيه يولد وفيه ينتهي. ولايعتقدون بحياة أخرى بعد الموت. وينتمون بذلك إلى منهج فويرباخ المادي ، ناكرين ميكانيكيته. كما ويتبنون منهج هيجل الديالكتيكي ، تاركين مثاليته. عليه وضع ماركس وأنجلز طريقة المادية الديالكتيكية في التعامل مع نظرية المعرفة بعيداً عن أي تصور ميتافيزيائي أو مثالي.
أما فريدرش نيتشه ، الذي إشتهر بإنتقاده الحاد لجميع الأطراف ، وهو الذي صرح قائلاً "أن الإله قد مات" ، فقد كتب: "لو عدنا إلى العصور التي إزدهر خلالها الدين ، لوجدنا وعياً منتشراً ليس له أثر في العصر الراهن. ولم يكن للإنسان وعي كاف بالطبيعة وقوانينها السببية. وعندما كان يجدف لتحريك زورقه ، مثلاً ، لم يكن المجداف ، بل قوى خفية هي التي تحرك الزورق ، أما الإنسان ومجدافه فهما مجرد شعائر تُمارس. والأمراض التي تفتك بالبشر ، وحتى الموت ليست ظواهر طبيعية وإنما سحر يحدث للإنسان. فلم يمرض أو يمت أحد لأسباب طبيعية ، وإنما هي القوى الخارقة المهيمنة على الطبيعة ، التي سماها اليونانيون آلهة ، هي التي تتسبب في ذلك. ينظر المؤمن إلى الطبيعة كلها كمنظومة معقدة تولدها تصرفات كيانات واعية ذات إرادة. أما نحن معشر البشر في العصر الحديث فلانتفق مع هذه التصورات إطلاقاً. لقد أُوصدت الأبواب أمام تلك التصورات وإلى الأبد ، وسوف يكون للتربية من الآن فصاعداً دور متزايد ، مع التطور الطبي ، حيث يضمحل الإيمان بالإله ، وقدرته على التداوي وعلى خلق المعجزات.
ومضات حداثية إسلامية
إبن رشد: "إن الله يريد الخير ، أما الشر فهو من صنع الإنسان وحده".
محمد عبده: "إن الإسلام هو إعلان حرية واستقلال العقل والإرادة".
شبلي شميل: "الحقيقة تكمن في المادة".
مصطفى ملكيان: "نحن، شئنا أم أبينا، أناس معاصرون، وأهل حداثة، سواء قلنا ان الحداثة صفة لأفراد البشر، أم هي صفة المجتمعات الإنسانية".
وتكمن جذور إرهاصات الحداثة للثقافة الإسلامية ، في الصراع الأزلي بين الأنظمة البيروقراطية المستبدة ، المهتدية بثوابت الإسلام الآرثوذكسي (السلفية) ، وبين المفكرين المعارضين لتلك الأنظمة. وطالما إنتهي ذلكم الصراع غير المتكافئ بالمعارضين إلى القتل أو السجن أو التشريد . وكانت الفترة التي نشأت فيها محاكم التفتيش الأوربية ، تعجّ بالآراء الإصلاحية التي نشأت ، بعد إحتكاك العالم المسيحي بتيارات التنوير والحداثة الإسلامية البدائية ، مما أدى إلى إنتقال أفكار المعتزلة في البصرة ، وإبن رشد في الأندلس إلى أوروبا . يتحدث أدونيس عن وجود تيارين في الحداثة الإسلامية: الأول سياسي فكري ، والثاني فني. أما الأول فنجده في الحركات المناهضة للسلطة ، كما في حركة الخوارج وثورة الزنج وإنتفاضة القرامطة ، وتصورات المعتزلة ، والعقلانيين ، والإلحاديين ، والمتصوفة. أما التيار الفني فنلمسه في الجهد الإنساني ، الذي تُمارس فيه عملية خلق العالم الجديد ، والسعي إلى إبطال القديم وتجاوزه ، والتحول نحو الإبداع. والحداثة حسب الكاتب صالح جواد الطعمة "ليست أحادية اللغة ، وليست أحادية الأصل ، وليست مرتبطة بمرحلة زمنية واحدة ، بل متعددة اللغات ، ومتعددة الأصول ، ونتاج مراحل زمنية متداخلة". ويصفها المفكر المصري اليساري محمود أمين العالم كاتباً: "رغم إختلاف الناقدين على تعريفها ، يمكن القول أن الحداثة هي مبدأ التجديد والتطور الحاصل في الولقع الإجتماعي".
نشأ فكر المعتزلة ، وهم أهم مجموعة من المفكرين الإسلاميين الحداثيين ، الذين ميزوا أنفسهم عن الفكر الديني السائد ، في القرن الثامن في مدينة البصرة ، وتحدوا السلطتين الأموية والعباسية الشموليتين ، طيلة القرنين التاسع والعاشر. وصفهم محمد عمارة بأنهم "فرسان العقلانية في الحضارة الإسلامية ، لأنهم عدّوا العقل وكيل الله لدى الإنسان فوّض إليه قيادة نشاطاته". نهج المعتزلةُ نهجاً عقلانياً في فلسفتهم الدينية ، وعُرفوا بتصورهم أن الكتاب مخلوق ، وليس أزلياً ، كما إدعى آرثوذكس المسلمين. وإن الخير والشر موجودان موضوعياً خارج القرآن الكريم ، وقبل كتابته ، وإن الله يريد قطعاً الخير ويكره الشر ، الذي هو من صنع الإنسان وحده ، الذي مكنه الله من صنع قراراته بنفسه على الدوام. بعبارة أخرى ، فإن الإنسان مسؤول عن تصرفاته. وقد إختلف المعتزلة عن الإسلاميين من أهل السنة والآرثوذكس ، في ترجيحهم العقل ، في أمور دينهم ودنياهم على حد سواء. من أبرز قادة المعتزلة الحسن البصري ، الذي تصدى للعقيدة الأموية الجبرية ، والتي حددت كثيراً من قدرات الفرد على إتخاذ قراراته بنفسه. لقد رفض البصري الحتمية القَدَرية التي تسلب الإنسان إختياره فيما يفعل. ومن قادة المعتزلة أيضاً واصل بن عطاء ، الذي رد على الفكر الجبري للمرجع الديني الآرثوذكسي إبن حنبل القائل: "إن من غلب بالسيف حتى صار خليفة ، وسمي أمير المؤمنين ، فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه إماماً عليه ، براً كان أو فاجراً". ويوضح حسين مروه كيف أن المعتزلة ، إستشرفوا حقيقة وجود القوانين الموضوعية المتحكمة بجميع الظواهر في الطبيعة. وعُدّ عهد الخليفة العباسي المأمون ، عصراً ذهبياً للمعتزلة. بينما زُجّ بالكثير من أعلامهم في عهد المتوكل في السجون ، وكُفّرت آراؤهم ، وإنحسر تأثيرهم الفكري ، الأمر الذي أدى إلى تراجع دور الفكر العقلاني ، في الحياة الفكرية الإسلامية ، وأُجهضت عملية التطور النسبي وإنطفأت ومضات الحداثة ، وساد الظلام في العالم الإسلامي من جديد ، ليستمر حتى يومنا هذا.
وفي أوج الظلام المسيحي في القرون الوسطى ، إنطلقت أول شرارة فلسفية أنار بها إبن رشد درب الحداثة في أوربا ، من مدينة قرطبة الأندلسية. وإنتشرت أفكاره العقلانية العلمانية في سائر أنحاء أوربا ، مما دفع بالكنيسة في فرنسا آنذاك إلى إصدار إدانتين لإبن رشد وأفكاره التي "أنكرت حدوث الكون". ترك إبن رشد للإنسانية أكثر من خمسين مؤلفاً كبيراً ، ساهمت دون شك ، في تطوير عملية عقلنة الفكر الفلسفي والمنطقي لأرسطو. قدم إبن رشد الفلسفة على الدين ، وحض الفلاسفة على التأويل دون التفسير : أي إستخراج المعنى الباطن ، الذي ينطوي عليه ظاهر النص الشرعي. ودعا إلى حصر المعرفة الحقيقية بالفلاسفة ، لأنهم برأيه وحدهم الذين بإمكانهم إدراك ذلك المعنى الباطن. أما المعنى الظاهر فهو لرجال الدين وأصحاب التفسير ، إضافة إلى جمهور العامة ، الذين يكتفون عادة بالنقل دون العقل ، بالتفسير دون التأويل. من جانب آخر رأى إبن رشد إمكانية معرفة كل شيء. وقد ردّ في كتابه "تهافت التهافت" بشدة ، على الأفكار الدينية الآرثوذكسية الواردة في كتاب الغزالي ، "تهافت الفلاسفة" ، التي هاجم فيها بشدة فلسفة أرسطو العقلانية. وحسب إبن رشد فإن الإنسان لا يحصل على سعادته إلا عندما يمارس المنطق ، الذي يضمن له تحويل البيانات المتجمعة في دماغه إلى معلومات معرفية تقوده إلى الحقيقة. إن كل الأشياء والظواهر ، بحسب فكر إبن رشد ، مرتبطة بالضرورة بمبدأ السببية. الأشياء والظواهر تشكل منظومة مرتبة يتربع على عرشها الفكر الإلهي ، الذي يلم بأسرار الكون. وضح إبن رشد بجلاء أزلية الكون ، الذي لم يُخلق من قبل إله ، وأن عمر الإله مثل عمر الكون ، وأن الإله لم يسبق الطبيعة في الوجود. إلى ذلك إدعى إبن رشد في فلسفته ، أن المادة هي الشرط العام للوجود ، وأن الحركة ، التي ترتبط على الدوام بالمادة ، هي الأخرى أزلية ، شأنها في ذلك شأن الكون. غير أن إبن رشد ، ونتيجة تبنيه ذلك الفكر العقلاني الحداثي ، تعرض من قبل السلطة الإسلامية آنذاك ، إلى حملة ظالمة من التكفير والتسقيط الديني.
ومن الجدير بالذكر أن الفكر الإسلامي المعاصر عرف مفكرين تبنوا مدرسة الحداثة ، مثل: جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبدة ، ومحمد أراكون. سلامة موسى ، الداعي إلى المساواة والعدل الاجتماعي والعلمانية ، والديمقراطية وحرية الفكر والرأي والتعبير ، ومحمود أمين العالم ، المفكر اليساري المصري الذي عانى الأمرين من عسف السلطة الناصرية ، والدكتور علي الوردي ، عالم الأنثروبولوجي العراقي المعروف بمنهجه الخلدوني ، وحسين مروة ، المفكر الملتزم بالمنهج الديالكتيكي ، ونصر حامد أبو زيد ، الأستاذ الأزهري الحداثي ، الذي كفّره النظام المصري ونفاه ، بالإتفاق مع الأزهر ، بسبب دعوته إلى التأويل في تناول علوم القرآن ، والدكتور صادق جلال العظم ، المفكر العلماني الذي إشتهر بنقده الفكر الديني. وفي إيران إشتهر المفكران الحداثيان مصطفى ملكيان وعبد الكريم سروش ، اللذان أسسا لفلسفة الفقه والإجتهاد الفقهي ، ولايخلو فكرهما من دعوة إلى الحداثة.



#أسعد_الخفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل ينجح المالكي في تنفيذ خطته الأمنية منفرداً؟
- الإصلاح الجامعي في العراق الجديد
- لودفيج فويرباخ فيلسوف المادية الأنثروبولوجية والتنوير الألما ...
- تجريبية الخطاب الأميركي في العراق
- يَساريةُ البيتزا واليسارُ البَدَوي
- هل أضحى اللبراليون العرب متأمركين؟
- وحدة اليسار المقسوم على عشرة! حوار مع نادية محمود
- تحفظ الأنظمة العربية من إدانة الإرهاب
- الهوية الوطنية كونترا الإنتماء القومي
- يوميات عائد الى الوطن: الجهل يقتل أهل الفلوجة
- حكايات في عيد الميلاد
- الثوابت والمتغيرات في فكرنا السياسي
- واقعة عاشوراء الدروس والعبر
- نهاية الثقافة الانعزالية
- العولمة الإسلامية والتغيير الأمريكي
- مستقبل الديمقراطية مرهون بدستور عقلاني
- دمعة على الشهيد أبي جناس
- الطاقة النووية سيف ذو حدين بين بشاعة الاستخدام العسكري وحتمي ...
- الضالان- في غابة شيكاغو لمحمود سعيد متن روائي واقعي مفعم بال ...
- وجهة نظر لإغناء جدل قائم - عجز الخطاب الطائفي عن إطفاء الحرا ...


المزيد.....




- من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا ...
- ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا ...
- قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم ...
- مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل ...
- وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب ...
- واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب ...
- مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال ...
- -استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله- ...
- -التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن ...
- مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أسعد الخفاجي - ومضات العقل من البصرة وقرطبة تتألق في سماء أوربا المظلمة - مدرسة الحداثة