|
عن العبث والحرية
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7024 - 2021 / 9 / 19 - 12:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٨٤ - عن العبث والحرية
في الفصل الثاني من الجزء الثاني من رواية "الغريب" يحكي لنا ميرسو قصة توضح العبث بصورة أكثر وضوحا من ميرسو وجريمته "العادية". وذلك في شكل خبر قرأه «ميرسو» في قصاصة ورقية قطعت من جريدة من الجرائد وجدها في زنزانته : «وجدت بين الفراش وألواح السرير قصاصة قديمة من ورق الجرائد، صفراء شفافة، تكاد تلتصق بالقماش، كانت تروي حادثة تنقصها البداية، لكن لابد أن تشيكوسلوفاكيا كانت مسرحاً لها، رحل رجل من بلدته في تشيكوسلوفاكيا طلباً للثروة، وبعد خمسة وعشرين عاماً عاد، بعد تجميعه ثروة لا بأس بها ومعه زوجته وطفله، وكانت أمه وأخته تديران فندقاً في البلدة التي ولد فيها، ولكي يفاجئهما، ترك زوجته وابنه في مكان آخر، وجاء لأمه لكنها لم تتعرف عليه عندما دخل، فخطرت له على سبيل المزاح، فكرة استئجار غرفة في الفندق والكشف عن هويته في اليوم التالي، أظهر لأمه وأخته نقوده، وفي المساء قتلتاه بضربات مطرقة، طمعاً في ماله، وألقيتا بجثته في الترعة، وفي الصباح جاءت زوجته وكشفت عن غير قصد عن شخصية المسافر، فشنقت الأم نفسها، وألقت الأخت بنفسها في البئر». وهذا هو ملخص مسرحية «سوء تفاهم» التي كتبها كامو عام 1943، حيث أراد كامو أن ينقل إلى خشبة المسرح رؤياه لعالم يمزقه كل ما يتنافى والطبيعة البشرية : قتل الأم لابنها، وقتل الأخت لأخيها، لم يكن هذا الحلم وليد المصادفة، ذلك أنه المعنى الحقيقي للمأساة القديمة، التي عمل كامو على إحيائها، ومن المؤكد أن «سوء تفاهم» مسرحية قاتمة كتبها كامو في بلد محاصر ومحتل - نقصد فرنسا وليس الجزائر التي لا ذكر لها في أعماله كما سبق القول-، ويحاول من خلالها معالجة موضوع "الصدفة" أو "القدر"، في قالب عصري. وفي رسالة من رسائله كتب: «إن شقاء البشر يتولد عن عدم اتخاذهم لغة بسيطة، لو أن بطل سوء تفاهم قال: «أنا ابنك» لكان الحوار ممكناً، ولما كانت المأساة، مادامت قمة كل مأساة تكمن في صميم فكرة البطل، ففي الواقع المأساة دائماً سوء تفاهم بالمعنى الحقيقي للكلمة، أو بعبارة أكثر شمولاً نوعا من الصمم ". وهنا تكمن مشكلة كامو الأساسية، تقديسه لأسطورة "الطبيعة البشرية"، هذه الأم تستطيع أن تقتل إنسانا من أجل ثروته، ولكنها تنتحر إذا علمت أن هذا الإنسان هو إبنها، رغم أنها لم تتعرف عليه ولم تره منذ عشرات السنين. العبثية هنا ليس قتل الأم لإبنها والأخت لأخيها، وليس في عملية القتل ذاتها، وإنما في الدوافع التي تؤدي إلى إرتكاب الجريمة. وربما هذا ما أراده كامو حين جعل ميرسو يقتل عربيا بسبب الشمس، غير أن ذلك في نظرنا لا يمكن أن يسلب هذا العمل من المعنى، فكل عمل إنساني ينضح بالمعنى مهما بدا مجانيا وعبثيا من الخارج، فليس هناك تصرفات غير واعية كما تدعي ألأساطير والخرافات الفرويدية. حتى لو أفترضنا أن مقولة العبث تعبر عن كل ما "لامعنى له"، فإنه من الواضح أنه هناك القليل من المواقف والتصرفات التي يمكن نعتها بالعبثية. سارتر يرى أن مفهوم "الحرية" كمفهوم وجودي يمكن تلوينه بلون العبث، لأن الحرية هي إختيار ملزم، وليس هناك إمكانية عدم الإختيار فنحن محكوم علينا بالحرية ومجبرون على الحرية، وحتى في حالة إختيار العبودية والخضوع أو الإستسلام فإن ذلك يكون بإختيارنا. أما الوجود الإنساني فلا يمكن أن يوصف بالعبثية، فالواقع الإنساني له معنى في جميع الحالات والمواقف، دائما الإنسان يتجاوز نفسه في صورة مشروعه. بينما الموت له طابع عبثي، لأنه ليس ما يضفي المعنى للحياة، بل بالعكس هو الذي ينزع عنها كل معنى. العبثية في حقيقة الأمر هي مسلمة تحليلية - postulat analytique تقلص وتختزل الزمن في لحظات متتابعة، متجاهلا بطريقة مفتعلة التعالي والتجاوز وبالتالي التجاهل عمدا لمعنى السلوك البشري، وفي هذا الخصوص يعتبر إدوارد سعيد من الذين ألقوا ضوءا ساطعا على هذه الرواية من الوجهة الإجتماعية والسياسية، رغم تغاضيه عن الجانب الفني والجمالي للعمل. يشير الناقد الأدبي إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية إلى أنه على الرغم من أن الغريب يُفسر غالبًا على أنه نوع من الاستعارة المجردة للحالة الإنسانية، إلا أن الرواية متجذرة بعمق في سياقها التاريخي، أي الجزائر الاستعمارية. يؤكد سعيد، على سبيل المثال، أن الشخصيات العربية لا يتم تسميتها مطلقًا وتشكل خلفية سلبية لحياة الشخصيات الأوروبية التي لها أسماء وهويات، تمامًا كما هو الحال في النظام الاستعماري، حيث يحتل العرب موقعًا ثانويًا وهامشيا. يتذكر إدوارد سعيد أيضًا أن كامو دافع عن الجزائر الفرنسية طوال حياته وأن هذا الموقف السياسي ينعكس في رواياته، بشكل أو بآخر، حيث تميل نصوصه إلى تبرير الهيمنة الاستعمارية الفرنسية أو إضفاء الطابع الشاعري عليها.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلاقة بين العبث واللامبالاة
-
نسبية العبث النظري
-
براءة القاتل
-
محاكمة القاتل
-
نفس المواطن السيء الحظ
-
الجريمة والعبث
-
رواية الغريب
-
كامو الغريب المنتمي
-
شكوى مواطن سيء الحظ
-
سعادة سيزيف
-
ألبير كامو
-
حبوب منع الملل
-
كيفية الحياة في عالم يحتضر
-
الحياة، حادثة مميتة
-
الشاهد
-
مسقط الرأس
-
بيكيت ونفي العدم
-
الزنزانة رقم ٢٢
-
ثلاثية بيكيت
-
ويتقشر الليل
المزيد.....
-
قرية زراعية عمرها 300 سنة.. لِمَ يعود إليها سكانها بعد هجرها
...
-
فيديو حصري من زاوية جديدة يوثق لحظة تصادم الطائرتين في واشنط
...
-
حزب -القوات اللبنانية- يطالب الحكومة بالتوضيح بعد مسيّرة -حز
...
-
قنبلة داعش الموقوتة تهدد بالفوضى في الشرق الأوسط - التلغراف
...
-
أبو عبيدة يعلن أسماء الرهائن الإسرائيليين المتوقع الإفراج عن
...
-
اتفاق الهدنة: إسرائيل وحماس تتبادلان قوائم المقرر إطلاق سراح
...
-
بعد تمرير خطة اللجوء.. هل انكسر -الجدار الناري- عن اليمين ال
...
-
أيقونة معمارية شاهدة على التاريخ.. العزبة القيصرية -إيزمائيل
...
-
بالفيديو والصور.. موجة ثلوج غير مسبوقة تشهدها بعض المدن الجز
...
-
الرئيس الجورجي: دول غربية ضغطت علينا للوقوف ضد روسيا في نزاع
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|