بقلم/
إنطلقت منذ البارحة 10/5/03 ، بضاحية مشاكوس الكينية ، الجولة الجديدة السادسة من مفاوضات السلام السودانية بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان ، وهى الجولة التى تجمع غالب التقديرات على صفتها الحاسمة ، كونها معنية بتوصيل أطرافها لاتفاق تام ونهائى فى ما يتعلق بالمشاركة فى مؤسسة الرئاسة والجهازين التنفيذي والشريعي ، على صعيد قضية السلطة ، وعائدات البترول والنظام المالي والبنك المركزي والعملة ، على صعيد قضية الثروة. على أن ثمة قضايا أخرى مُعلقة يشكل إدراجها ضمن جدول الأعمال نقطة خلاف بين الجانبين ، أهمها النظام القانونى الذى تحكم بموجبه "العاصمة القومية". فالحكومة ترفض مناقشتها لأنها قد نوقشت ، و"مخطئ من يظن أن مسألة الدين والدولة قابلة للحوار مرة أخرى" ، حسب د. أبراهيم عمر ، الأمين العام لحزب المؤتمر الوطنى الحاكم (الأيام ، 3/5/03) ، و"أن أمرها قد حُسم من خلال الجولات السابقة" ، حسب د. أمين عمر ، عضو الوفـد الحكـومى (أخبار اليوم ، 7/5/03) ، بينما تصر الحركة على أنها "لم تحسم بعد" ، حسب السيد ياسر عرمان ، الناطق باسم الحركة (الشرق الأوسط ، 7/5/03).
وسواءً تمَّت أو لم تتم تسوية هذا الخلاف ، فإنه ينطوى ، منذ البداية ، على ثلاث مفارقات منهجيَّة تجعل المسافة بين الجانبين شاسعة ، بقدر ما هى شاسعة ، فى كلِّ الأحوال ، المسافة بين موقف الحكومة التفاوضى وبين جوهر القضية كما ينبغى لها أن تنطرح:
(أ) فمن الجهة الأولى ، وفى الوقت الذى يعتمد فيه نظام النخبة الاسلاموية خطاباً يقوم على إعلان "الاستماتة" فى ما يسميه "تطبيق الشريعة" ، باعتبارها قضية لا تقبل "المساومة" ، فإنه لا ينفكُّ يُبدى تراجعات كبيرة على قاعدة "فقه الضرورة" ، كلما اصطدم بعقبات الواقع ومنطقه العنيد. وربما لا يكون أول ذلك ولا آخره التسليم بالتعاملات "الربوية" فى ما يتصل بالديون الخارجية ، واستثمارات الشركات الأجنبية فى مجال البترول ، وغيرها. بل ، وسواء صحَّ أم لم يصِحُّ أن هذه القضية قد حُسمت خلال الجولات السابقة ، فإن القبول ، أصلاً ، بإدراجها ضمن المتفاوض عليه ، يعنى الاستعداد، ابتداءً ، لتحمُّل ما يفرضه منطق التفاوض نفسه من "تنازلات" متبادلة لأغراض إرساء دعائم "السلام" ، إلا إذا كان التفاوض يعنى إملاء شروط المنتصر على المهزوم لأغراض توقيع وثيقة "الاستسلام" ، وهو أمر غير وارد هنا بالطبع.
(ب) أما من الجهة الثانية ، وعلى حين ينهض هذا الخطاب الحكومى على أسلوبيَّة عاطفيَّة وإثاريَّة بحتة: "لن نتنازل عن الشريعة إلا إذا متنا جميعاً" ، أو كما جرى التعبير عن ذلك من مستويات مختلفة وفى أكثر من مناسبة ، فإن الحركة من جانبها ظلت تبدى حرصاً ملحوظاً على توطين خطابها فى أسلوبيَّة السياسة العملية المباشرة ، وحججها التى تنحو إلى القطع والافحام ، بل وإلى إرباك الخصم وإحراجه أمام الشعب وأمام الأصدقاء والوسطاء: "العاصمة القومية ستكون عاصمة لكل السودانيين .. فهى ليست جزءا من الشمال أو الجنوب ، وإذا لم يتفق السودانيون على عاصمة موحدة لن يتفقوا على بلد موحد .. ونحن لا نسعى لعاصمة خالية من الاخلاق كما يتصور البعض ، ولكننا نسعى لعاصمة مثل القاهرة والرباط مليئة بالمآذن والقباب والكنائس وكريم المعتقدات. يجب ان تعود الخرطوم كما كانت في عهد السيدين علي الميرغني وعبد الرحمن المهدي ، فهل يشك أحد في إسلامهما؟!" (الناطق الرسمى ، المصدر نفسه).
(ج) وأما من الجهة الثالثة ، ففى الوقت الذى تتوجه فيه الحركة إلى المفاوضات مسنودة بثقل لا يستهان به من الرأى العام الجنوبى ، وربما الرأى العام فى كثير مما يصطلح عليه "بالمناطق المهمَّشة" ، كجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق ودارفور وغيرها ، والذى نشطت فى بلورته وكسبه ، خلال الفترة الماضية ، عبر العديد من المؤتمرات واللقاءات والترتيبات السياسية ، داخل البلاد وخارجها ، فإن الحكومة تذهب إلى هذه المفاوضات وليس ثمة من يستطيع المكابرة بشأن بؤس رصيدها من السند ، حتى وسط المستعربين المسلمين الذين رفضت إشراك قواهم السياسية المعارضة لها فى المفاوضات ، والذين لا تكاد تكلُّ أو تملُّ ، مع ذلك ، من ترديد الزعم بتعبيرها عن أشواقهم الدينية وإرادتهم السياسية. وقد يكفى أن نشير ، فى هذا الصَّدد ، إلى أنه لا يزال بينها وبين شقها الآخر ، المؤتمر الشعبى بقيادة د. حسن الترابى ، ما صنع الحدَّاد ، حتى ساعة دخولها قاعة المفاوضات ، دع عنك الذى بينها وبين أكبر طائفتين إسلاميتين ، الأنصار والختمية.
حكم العاصمة القومية بمقتضى "الشريعة الاسلامية" ليس مجرَّد شعار تنافح عنه النخبة الاسلاموية الحاكمة على مائدة المفاوضات فى مشاكوس ، أو محض مشروع "مستقبلى" تدَّخره لما بعد توقيع اتفاق السلام النهائى ، بل لقد خَبرَه سكان العاصمة القومية جيداً ، المسلمون قبل سواهم ، حين أقدمت السلطة ، بالاستناد إلى أجهزة القمع وحدها ، على إنفاذ "تصوُّرها" هى له ، من خلال تشريعها وتطبيقها "لقانون النظام العام لسنة 1996م" ، فلم يتكشف إلا عن سوط عذاب مشرع ، باسم الاسلام ، فوق رءوس البشر.
لقد طال هذا القانون حتى الاحتفاليات الأسرية الخاصة ، بل حتى كلمات الأغانى التى تتردَّد فيها ، حتى ولو كانت من الفولكلور الشعبى المتوارث! وتكفى أعجل نظرة لنصوصه للكشف عن المدى الذى يبلغه فى التغوُّل على حريات المواطنين الشخصية ، وحقوق الأسر ، وحرمات المنازل ، وخصوصية الجوار ، وعمل المرأة .. الخ ، وبمعايير مغرقة فى الغموض والاطلاق تركت لتقدير رجال الشرطة ، كما تكفى أيضاً للكشف عن أن الهدف الحقيقى من ورائه هو ، فقط ، توسيع "حق" الدولة فى ضبط "سلوك" المواطنين على مقاس "حاجتها" هى للإبقاء على "إحساسهم العام" بها فى كل لحظة، حتى داخل أسرهم ، وفى نطاق مساكنهم الخاصة ، وعلائقهم بأهلهم وجيرانهم ، حيث الجميع متهمون بالفسوق والتحلل الأخلاقى إلى أن يثبت العكس (!)
ورغم تحفظنا ، الذى سبق أن طرحناه فى أكثر من مناسبة ، على منهج الاحتجاج ، فى أمر كهذا ، بحقوق غير المسلمين أو أهل الثقافات الأخرى ، لقناعتنا بأنه منهجٌ كاسِدٌ بائرٌ لا يحِلُّ الأزمة بقدر ما ينضاف إليها ، وأن على المستعربين المسلمين الذين لا يجدون إسلاماً فى هذا النوع من القوانين أن يُحْسنوا تصدِّيهم لها من داخل اثقافة الاسلامية ذاتها ، إلا أن الكارثة تتجلى ، بالفعل ، كأبشع ما تكون إذا وضعنا فى اعتبارنا واقع التنوع والتعدد الثقافى فى أقاليم السودان المختلفة ، حتى بين القوميات والقبائل والمجموعات السكانية التى تدين بالاسلام ، ناهيك عن غير المسلمين ، وأن العاصمة القومية ، النطاق الجغرافى لسريان هذا القانون ، قد شهدت خلال الأعوام الأخيرة ، ولا تزال تشهد ، حركة نزوح كثيف إليها من هذه الأقاليم التى يغالب مواطنوها الفقر وتردى الظروف المعيشية ، حيث أن 83% من سكان الريف فقراء غذائياً ، أى تقل دخولهم عن خط الفقر الغذائى ، وأن 45% منهم يعيشون فى "فقر مدقع" ، مما يتسق تماماً مع دعاوى التنمية غير المتوازنة وتهميش الريف والتحيُّز لصالح الحضر ، حسب التقرير الاستراتيجى السودانى لعام 1998م ، الصادر مركز الدراسات الاستراتيجية بالخرطوم. وبافتراض أن المُشرِّع لا يمكن ألا يكون مدركاً لواقع التنوع والتعدد الثقافى هذا ، فإن الشئ الوحيد الذى يمكن استنتاجه هنا هو أنه ينظر إلى "العاصمة القومية" كبلد "آخر" (!) فيصبح المنطق الذى يتأسس عليه القانون الواجب التطبيق فيها ، ومدى إلزاميته بالنسبة لأهل السودان "الآخرين" الذين تجبرهم ظروف الفقر على النزوح إليها بهذه الكثافة ، هو نفسه المنطق الذى يفرض عليهم الخضوع لقانون الدولة "الأجنبية" عند حلولهم "ضيوفاً" عليها! وقد عبر السيد مدير شرطة النظام العام بالخرطوم عن فهم دقيق لمنطق هذا القانون بقوله ، تعليقاً على مدخلنا النقدى هذا حين طرحناه فى بعض ورش العمل: "على من لا يرغب فى الخضوع لهذا القانون ألا يجىء إلى العاصمة" (مساهمة فى ورشة عمل حول "قانون النظام العام ومدى مساسه بالحقوق والحريات" ، مركز التدريب القانونى بالخرطوم ، فبراير 2000م).
مشاكوس تعكس ، بالقطع ، أكثر من أزمة النخبة الاسلاموية الحاكمة تجاه النظام القانونى لعاصمة البلاد ، أزمة الجماعة المستعربة المسلمة كلها فى السودان ، حيث تجابه قضية علاقاتها المأزومة مع مساكنيها من غير المسلمين ، بينما هى نفسها لم تحسِم ، بعدُ، صراعات الاقسام المختلفة داخلها ، برؤاها وتصوُّراتها شديدة التبايُن والتعارض ، حول سؤال "الدين والدولة" بخاصة ، بكل ما يترتب على هذا القصور من تهديد لصورة هذه الجماعة ، فى عيون المساكنين "الأغيار" ، بالتصدُّع المريع ، والاسهام التاريخى لثقافتها ، فى بنية التعدد السودانى ، بالانهيار الشامل.