|
المثقف راهنا
عباس منعثر
شاعر وكاتب مسرحي عراقي
(Abbas Amnathar)
الحوار المتمدن-العدد: 1646 - 2006 / 8 / 18 - 11:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في خضم التحول الأساسي الذي يتعرض له العراق تتباين مواقف المثقفين من الأعراف السائدة والسلطات المحلية والسلطة الحكومية.. بالإضافة إلى التباين الحاصل في الموقف من الأحداث الآنية الساخنة. فيها جميعا قبس من الحيرة الهملتية الشهيرة : ( الفعل والتأمل ). من أكثر المواقف جوهرية يكمن موقف المثقف من السلطة بوجوهها الرئيسية : الدينية، العرفية، الإدارية.
الموقف من السلطة الدينية
بسبب التأييد الشعبي ( لرجل الدين ) يكاد موقف الحذر أو الإعلان المتوجس هو المهيمن. فلا يمكن لشخص اعزل لا يملك إلا الحبر والورق أن يتورط في مواجهة غير متكافئة مع طغيان الحماسة الشعبية للدين بشكله السياسي. تنبري بعض الأقلام الليبرالية من آن إلى آخر للإعلان عن صوتها المضاد لتدخل الدين في السياسة أو لتجيير الدين لصالح هذه الجهة أو تلك. ورغم الجهد المبذول يكاد يكون تأثير هذه الأصوات هامشيا لطغيان الضجيج الكربلائي على الأصوات العقلانية في المجتمع.. تضاف إلى ذلك علة أخرى وهي تحول الريادة الدينية من الصوت المعارض المقموع والمكبوت إلى الصوت الرسمي القامع والكابت للأصوات الأخرى ( وفق نظرية الخصم والحكم ). و المثقف الذي يعلن وجهة نظره المضادة لهيمنة الوعي الديني مواجه بعقبات عدة : صوته في خضم الأصوات الأخرى غير مسموع، والوعي الاجتماعي غير قادر على تقبل اطروحاته، وهو دون سند يحميه أو يؤازره، ووسائل الإعلام لها أجندتها الخاصة إلا ما ندر، وأخيرا امتلاك الوعي المضاد للقوة وللقدرة على استخدامها متى يشاء.. كل ذلك ينقص المثقف الليبرالي.
الموقف من الأعراف
لو بقيت الأعراف على مستواها العرفي لكان بالامكان توجيه النقد والتعرية بشكل سلسل.. لكن العرف تحول إلى سلطة قوية تغلغلت في السياسة والدين والإدارة والصحافة إلى درجة تحولها إلى صانع حياة لا يمكن مهاجمته بسهولة. فتقلص قدرة الفرد على التحرك بحرية وتقبل الاختلاف والنظرة القاصرة للمرأة وتعميم أسلوب حياة معينة على أساليب الآخرين وإرغامهم على تقبلها والعمل بها كلها تحولت إلى قوانين صارمة لا يمكن تجاوزها. المثل الشائع هنا إجبار الفتيات، حتى المسيحيات والصابئيات على ارتداء الحجاب أو غطاء الوجه على اقل تقدير مما يرسخ قولبة الناس جميعا وفق الرؤيا الإسلامية ( والراديكالية منها بوجه الخصوص ). ثم تحول بعض الطقوس الخاصة جدا إلى طقوس عبادية يتم النظر إليها كمقدسات مضافة إلى كل هذا الكم الهائل إسلاميا من المقدسات.. العرف يفرض سطوته على الدولة وعلى المؤسسات وتتبنى الدولة ولو جزئيا أو محليا هذه الأعراف. ومن كل النقد القوي والمستمر لهذه الظاهرة أو تلك لا يتغير واقعيا من الأمر شيء، بل يزداد العرف توغلا والفكر التنويري انعزالا.
الموقف من السلطات الإدارية
لم تعد صورة المثقف المنعزل، المتأمل الذي يعيش ليعبر عن رؤاه بعيدا عن صخب العالم وبالقلب منه في الوقت نفسه، كافية. ونتيجة للتجربة الطويلة المريرة التي مر بها المثقف العراقي مع النظام الديكتاتوري السابق أضحى المثقفون الجدد (الذين يعتبرون أنفسهم أكثر بياضا من مؤيدي النظام السابق) في تسابق مارثوني لتبوء المناصب الإدارية، وتصدر اللوائح الثقافية طمعا في الريادة أو سعيا وراء مكسب. وهكذا تجد الكثير من المثقفين يطرقون أبواب المسئولين الإداريين ويتنافسون (كالتنافس الذي رسخه حكم البعث) على المؤامرات الذكية والكلام الكثير المبعثر وعلى حساب الوقت. اخذ المثقف يقضي نصف وقته في هذا الصراع ونصف وقته الآخر لمتطلبات الحياة وركن إلى حين أهم عنصر من عناصر الخلق : التأمل والتاني وتخمير الإبداع حتى ينضج. لان المسعى أصبح مسعى حافزيا تمليه أغراض خارجية ولم يعد مغمسا (إلا في النادر) في حرارة الدافع الداخلي.
ثمة صف طويل من المثقفين يحملون حقائبهم يوميا إلى الصحف أو الفضائيات معلنين عن رؤيا جديدة مدغومة بالإحساس النبوئي وحب الظهور.. فكل التخزين الأخضر من تركة الوضع السابق قد يدفع المرء إلى تبني أطروحة لم تكن واضحة مع القمع : صورة أخرى من المثقف الغرامشي الفعال لا منعزل البرج العاجي السابق.
وهناك من جهة أخرى زاوية نظر معاكسة: الصخب الحياتي يستهلك طاقة المبدع ووقته، ويهدر تحركه بالزائل بينما يتطلب الإبداع ( كي يكون خالدا ) النضوج على النار الهادئة وكثيرا من التفرغ والتأمل بعيدا عن المؤامرات واللهاث ومحاولات شيوخ العشائر في الجلوس في منتصف المضيف. المبدع الحقيقي برأيهم يعي صيرورة الوجود يراقبها يحاول القبض على النسغ متشكلا في كلمة أو فكرة أو صورة متخففا من عبء الكائن الأرضي وانتهازاته.. ورغم انه قد يعيش على هامش الوضع ( مختارا ) إلا انه يرى الصورة في ما يمكن أن يبقى: لا هذا الكيان بكل متعه وحسياته ومتطلباته بل شيء آخر: هو الإبداع.
لذلك ترى صورتين من المثقف : المتحرك بصيغة الموظف أو التاجر والمتحرك بصيغة الصوفي، ينال الأول تصدرا وقتيا للوائح ( المهرجانات، الصحف، الفضائيات ) بينما لا ينال الثاني سوى جوهر حركة الأشياء منسربة في الوجود. وبين هذا التحرك وذاك يبقى للمستقبل كلمته فيمن يبقى ومن يذهب جفاء كالزبد.
#عباس_منعثر (هاشتاغ)
Abbas_Amnathar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرآة ثلاثية الابعاد
المزيد.....
-
مصر: جدل بسبب تصريحات قديمة لوزير الأوقاف عن فتاوى الشيخ الس
...
-
ماذا بقى من القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا بعد انسحابه
...
-
محكمة روسية تدين مواطناً هولندياً بتهمة الاعتداء على ضابط شر
...
-
كله إلا سارة.. نتنياهو ينتقد وسائل الإعلام دفاعًا عن زوجته:
...
-
يورونيوز نقلا عن مصادر حكومية أذرية: صاروخ أرض جو روسي وراء
...
-
إطلاق نار في مطار فينيكس خلال عيد الميلاد يسفر عن إصابة ثلاث
...
-
إعادة فتح القنصلية التركية في حلب بعد 12 عاماً من الإغلاق
-
بوتين: روسيا تسعى إلى إنهاء النزاع في أوكرانيا
-
ماذا تنتظر عمّان من الشرع و ترامب؟
-
-يديعوت أحرونوت-: إسرائيل تهاجم اليمن بـ 25 طائرة مقاتلة
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|