أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي سليمان - مأزق الثقافة العربية















المزيد.....


مأزق الثقافة العربية


محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا


الحوار المتمدن-العدد: 7016 - 2021 / 9 / 11 - 15:58
المحور: الادب والفن
    


لكن وإن كان مستوى الثقافة العربية ضعيفاً، فإنها على كل حال تغذي جمهورها بمستواه الذهني ـالمنحط جداً، وكل ذلك لأسباب متعددة: ضعف الماضي الحديث من عدة قرون، الأنظمة الديكتاتورية، عدم مأسسة الثقافة والمعرفة بصفة جدية، قلة الإطلال على العالم الخارجي إلا بالإكبار بدون معرفة، انعدام طبقة من الميسورين الشغوفين بالأثر الثقافي، جهل الحكام أنفسهم، ووراء ذلك ألف سبب _ هشام جعيط.

إذا تجاوزنا المقولة الماركسية بأن في كل أمة معاصرة أمتين، وفي كل ثقافة وطنية ثقافتين وطنيتين، هناك ثقافة الطبقة المضطهَدة وثقافة الطبقة المضطهِدة، فإن هناك أيضاً في كل أمة ثقافتين أخريين، هناك ثقافة الأصالة (التراث، القديم، التقليد، الماضي، النقل) وثقافة الحداثة (المعاصرة، الجديد، الحاضر، العقل والعلم)، ورغم أن مهدي عامل يعتبر أن أزمة المجتمعات العربية هي بسبب أزمة البورجوازيات العربية وليس بسبب أزمة الحضارة العربية، فإن التشوه الطبقي الذي نتج عن التدخل الاستعماري في تدمير البنية الاجتماعية بحيث منع تطورها إلى بنية حديثة، وكذلك عمل على تدمير الطبقة البورجوازية الوطنية لصالح طبقة بورجوازية كولونيالية تابعة، وقد عمدت تلك البورجوازية الكولونيالية إلى تبني ثقافة الأصالة من أجل تأبيد سيطرتها السياسية، وعبر هذه الثقافة، وبالتبعية للاستعمار كانت تعيد إنتاج بنية التخلف. وهكذا طغت أزمة الثقافة _ ثقافة تقليدية (يقف خلفها طبقات ما قبل الرأسمالية وخاصة القوى الإسلامية، على أزمة الطبقات _ طبقة عمالية ضد طبقة بورجوازية. ويمكن القول إن كل أمة من الأمم تواجه هذه الإشكالية، إشكالية الأصالة والحداثة، في مرحلة من مراحل تطورها الاجتماعي، إنهما لحظتان زمنيتان: لحظة القديم الذي يتفكك ويصارع عبر ثقافته التقليدية من أجل استمرار وجوده، ولحظة الجديد الذي يولد ويصارع عبر ثقافته الحديثة من أجل تثبيت وجوده. وكما هو معروف لقد كانت إشكالية النهضة العربية الحديثة هذا الصراع بين الثقافتين التقليدية والحداثية بحيث أصبح العالم العربي يعيش على ثقافة الآخرين الحديثة (ثقافة عصر التنوير الأوروبي) دون أن تهضمها معدته، كما لم تهضم معدته أيضاً ثقافة تراث الأجداد بحيث يوظفها لتنسجم مع العصر الحديث، وبالتالي لم ينتج ثقافة وطنية (اجتماعية)، وأصبح مثل غراب كليلة ودمنة _ إنسان حديث يعيش في الزمن الماضي.
من المعروف تاريخياً أن ثقافة كل قوة اجتماعية تعمل على مواجهة ثقافة القوى الاجتماعية الأخرى، وخاصة في مرحلة تثبيت تلك القوى الاجتماعية هيمنتها في المجتمع (ثقافة الإسلام في مواجهة ثقافة المجتمع الجاهلي، ثقافة المعتزلة في مواجهة ثقافة الأشاعرة، ثقافة الطبقة البورجوازية في مواجهة الطبقة الإقطاعية، ثقافة الطبقة العاملة في مواجهة ثقافة الطبقة البورجوازية)، ولكنها كثيراً ما ترفض أن تحكم العقل في مواجهة نفسها كثقافة، وهذا كثيراً ما يؤدي إلى تحجرها. وعلى كل حال فإن الثقافة في مرحلة السيطرة تفرض نفسها في الحقل الثقافي بالقوة لا بالفعل، بالسلطة السياسية لا عبر الحوار في الحقل الثقافي مع ثقافات القوى الاجتماعية الأخرى. ومن أسباب تهميش الثقافة العربية، حسب أكثر المفكرين العرب: السلطة المستبدة التي تحتكر الثقافة وتقولبها كثقافة سلطة مستبدة، والقوى الدينية التي تكفر كل ثقافة حديثة، ثم المجتمع الدولي (العولمة) يهمش الثقافات الوطنية في بلدان العالم من أجل هيمنة ثقافته الإمبريالية كثقافة العالم. ويلاحظ أن هذه الأسباب كلها تدور في البنية الفوقية بشكل مباشر، والبنية التحتية بشكل غير مباشر، ولا بد من التأكيد أن أسباب تخلف الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة يجب البحث عنها في البنية الاجتماعية، الكولونيالية، في نمط الإنتاج الكولونيالي الذي يعيد إنتاج التخلف الاجتماعي الاقتصادي، وكذلك إنتاج تخلف الثقافة _ ثقافة التخلف. تلك الثقافة الكولونيالية التي تدعمها البورجوازية العربية الكولونيالية عبر إغلاق المجتمع المدني في وجه القوى الاجتماعية التي تسعى للتغيير الثقافي عبر مفكريها العضويين تمهيداً للتغيير الاجتماعي. ويمكن القول إن إشكالية الثقافة العربية في العصر الحديث أنها تواجه مشروعين: المشروع الأول عالمي ويقوم على ثقافة الاستهلاك وصورة اللذة الحسية_ الغريزة، والمشروع الثاني يقوم على الأصولية، وخاصة الأصولية الإسلامية التي تقوم على القضاء على جاهلية الزمن الحاضر واسترجاع الماضي الإسلامي في زمن الرسول. وكما يلاحظ فإن المستقبل مغلق في وجه ثقافة عربية حديثة، علمانية تفتح آفاق المستقبل العربي للقيام عصر تنوير عربي حديث ونهضة عربية حديثة.
يرى سوروكين أن للأنظمة الثقافية ديناميكية خاصة بها وتنبع من داخل تلك الأنظمة الثقافية. فالثقافة التي تتبع الواقع الاجتماعي وتنشأ عنه، تكتسب مع الوقت، حسب سوروكين، استقلالية خاصة بها بعيداً بشكل مطلق عن الواقع الاجتماعي، بحيث لا تعود تتأثر به بل تؤثر فيه، أي أن سوروكين ينطلق من نظرية مادية ليعود في النهاية إلى النظرية المثالية للثقافة. لكن علاقة الثقافة بالواقع الاجتماعي علاقة جدلية، والثقافة تتأثر بالواقع الاجتماعي وتؤثر به حسب علاقة نسبية وليست مطلقة، ولذلك على أية ثقافة يجب أن تضع نفسها في موضع تساؤل بصورة دائمة. وأن الثقافة تضع نفسها موضع التساؤل، بشكل رئيسي، في زمن التحولات الاجتماعية، وخاصة عندما تصبح الثقافة المسيطرة لا تلبي حاجة القوى الاجتماعية التي تريد التغيير الاجتماعي. طبعاً، في المجتمع العربي، هناك القوى الاجتماعية العربية التقليدية المحافظة التي ترى أن الثقافة التي تكونت في الماضي، عصر التدوين، صالحة لكل عصر وزمان ولا داعي لوضعها موضع التساؤل. لكن القوى الاجتماعية العربية التقدمية كانت عند كل تحول اجتماعي تعمل لوضع الثقافة العربية وخاصة ثقافة التراث (الماضي) موضع التساؤل، فقد وضعت الثقافة العربية موضع التساؤل في عهد المأمون، كما أنها وضعتها في عهد محمد علي باشا، ثم وضعتها في عهد أنظمة الثورة العربية (القومية، التقدمية)، ثم وضعتها بعد انهيار العالم الاشتراكي، ثم وضعها أخيراً مع حراك " الربيع العربي "، وتبدو الثقافة العربية موضع تساؤل دائم بسبب الارتباط مع الثقافة العالمية المتجددة باستمرار، ورغم ركض الثقافة العربية خلف الثقافة العالمية بطابعها الديناميكي، فإن الثقافة العالمية لم تتحول إلى ثقافة عربية وطنية، بل ظلت ثقافة استهلاكية بسبب البنية العربية الاجتماعية الكولونيالية، وبذلك ينعكس مأزق البورجوازية الكولونيالية المسيطر بالقوة (السلطة السياسية) على ثقافتها المسيطرة بالقوة هي الأخرى عبر احتكار الساحة الثقافية العربية بحيث لا تتحول الثقافة في المجتمع العربية إلى ثقافة ديناميكية، تساهم في خلق المجتمع العربي الحديث.
لقد كان للعلاقة مع الآخر (اليونان ثم أوروبا) الأثر الكبير في تحول الثقافة العربية، فالمأمون أتجه إلى تراث اليونان، الفلسفة اليونانية _ العقل وأنتج ثقافة عقلانية _ المعتزلة، والباشا محمد علي أتجه إلى أوروبا، فلسفة التنوير _ العقل من أجل تحديث الدولة، ونتجت عن هذه العملية بداية تكون الثقافة العربية الحديثة مع الطهطاوي عبر التوفيق بين ثقافة التراث وثقافة التنوير الأوروبي، واتجهت أيضاً أنظمة الثورة العربية القومية إلى أوروبا أيضاً، خليط من الفلسفات الغربية الحديثة، ولكن أيضاً العقل مع الأخذ بعين الاعتبار القدرة الذاتية والموضوعية عند القوى الاجتماعية العربية القومية لاكتساب العقل وكل مكتسبات عصر التنوير، ذك أن ثقافة عصر التنوير وضعت في مواجهة الثقافة القومية خاصة للوقوف في وجه التدخل الأوروبي الاستعماري، وتحولت ثقافة التنوير الأوروبي إلى غزو ثقافي للمجتمع العربي، وخاصة عند القوى القومية المتطرفة والقوى الإسلامية. ثم أصبح العالم العربي في حالة تواصل دائمة مع ثقافة الغرب، وأصبحت ثقافته هي ثقافة ذلك الغرب حتى دون أن يكلف نفسه وضعها موضع التساؤل، وحتى دون أن تقدر على أن تتجذر في المجتمع العربي كثقافة اجتماعية _ جماهيرية، فما تزال الثقافات الحديثة ثقافات تنتج وتتمحور ثقافياً في نطاق النخب العربية التي تلهث خلف الثقافة العالمية التي تطور وتجدد نفسها باستمرار دون أن تقدر النخب الثقافية العربية أن تؤسس عبرها لثقافة وطنية. وكثيراً ما يكون تجديد الثقافة العربية ليس أكثر من عودة إلى الثقافة العربية التقليدية، وخاصة بعد أن يصطدم المثقف العربي المجدد للثقافة بأمية الجماهير العربية وبعدها عن الثقافة الأوروبية الحديثة فيلجأ إلى العودة إلى الجذور، ثقافة التراث العربي، ويمكن أن نجد في حالة الدكتور زكي نجيب محمود ومراجعة ثقافته الغربية " الوضعية المنطقية " التي ظلت غريبة عن الجماهير بثقافة عربية تراثية في كتابه " تجديد الفكر العربي "، ورغم أن روح الوضعية المنطقية ظلت مسيطرة بشكل أو بآخر على تجديد الدكتور زكي للفكر العربي، ولكن تجديده كان عودة إلى الماضي لا رحيل في المستقبل. وما قام به الدكتور زكي هو جزء من حالة اجتماعية _ ثقافية عامة لمراجعة الثقافة العربية كثقافة فاعلة بعد فشل الثقافة الأوروبية الحديثة في التكون في الساحة العربية الثقافية كثقافة جماهيرية، وكان أن اتجهت، من جهة، قوى اليمين العربي: القوى التي تنتمي إلى أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالي، وقوى نمط الإنتاج الكولونيالية_ الإقطاع والقوى التقليدية الدينية المحافظة وقوى البورجوازية الكولونيالية، الذي اتجه إلى الثقافة العربية الإسلامية اللاعقلية، ثقافة الغزالي والأشعرية والنزعات الروحية المثالية، ثقافة تأبيد التخلف ومنتجاته من الجهل والأساطير والجمود الاجتماعي. ومن جهة أخرى اتجهت قوى نمط الإنتاج الرأسمالي ونمط الإنتاج الاشتراكي _ البورجوازية الوطنية والطبقة العاملة نحو الثقافة العربية الإسلامية العقلية، ثقافة ابن رشد والمعتزلة والنزعات المادية، ثقافة العقل والعلم والتقدم الاجتماعي.
ورغم أننا لا يمكن أن نتكلم عن الثقافة العربية بالمطلق (يمكن التكلم عن الثقافة بالمطلق عندما تتكون ثقافة قوى اجتماعية مهيمنة تفرض ثقافتها على المجتمع، أو حتى على العالم كالثقافة الإمبريالية بحيث تهمش الثقافات الأخرى)، فإذا تجاوزنا أن لكل قوة اجتماعية عربية ثقافتها الخاصة بها حسب تكوينها الطبقي، فإنه لا يوجد ثقافة عربية مهيمنة، حيث لا يوجد قوة اجتماعية قادرة على فرض ثقافتها على المجتمع العربي كثقافة مهيمنة، وأن الثقافة الدينية هي موجودة بحكم التاريخ والتقاليد والعادات والعرف الاجتماعي وتملك أكبر سيطرة على الشعب، وكما يقول غرامشي " إن المعتقدات الشعبية ومشاكلها تضاهي القوى المادية في فاعليتها ". والثقافة القومية تراجعت بعد هزيمة 1967، كما أن الثقافة الماركسية الرسمية والثقافات المرتبطة بالماركسية كانت في أزمة وأصبحت في أزمة أكبر بعد انهيار العالم الشيوعي، وتراجع تأثير الثقافة الماركسية حتى أن المثقفين العرب الماركسيين العضويين أصبحوا يطالبون بأن تقوم الثقافة البورجوازية الحديثة، ثقافة عصر التنوير الليبرالي الغربي، بدور ثقافي أساسي في المجتمع العربي بعد تراجع ثقافة الماركسية وكذلك ثقافة عصر الأنوار العربي (ثقافة الحداثة العربية)، بحيث أصبح أكثر المفكرين العرب المستهلكين لثقافة الغرب ينظرون لثقافة ما بعد الحداثة في مجتمع لم يعرف الحداثة. هذا الوضع الاجتماعي الكولونيالي وسيطرة ثقافة العولمة على المجتمع العربي عبر الفضائيات العربية، والترجمات العربية التي تلحق كل جديد في الثقافة العالمية دون وضعه موضع التساؤل من حيث جدواه للمجتمع العربي الكولونيالي المتخلف، جعل الثقافة العربية في أزمة، هي في الأساس نتيجة أزمة البنية الاجتماعية الكولونيالية. لكن المثقف يريد الثقافة، ولأنه لا يقدر أن ينتج ثقافة وطنية فإنه يتجه إلى الثقافة الغربية ليس لإنتاج ثقافة وطنية عربية، والتي تحتاج إلى مثقف عضوي يرتبط مع قوى اجتماعية عربية مهيمنة توفرت لها ظروف السيطرة، بل لتوطين ثقافة الحداثة وثقافة ما بعد الحداثة في المجتمع العربي باعتبارها ثقافة العالم الذي أصبح " قرية كونية " وأصبحت الثقافة الوطنية من الماضي، لقد طرح مشرف على ملحق أسبوعي ثقافي كانت تصدره جريدة تشرين أنه لا يريد مساهمات حول قضايا ثقافة الحداثة (النهضة والتنوير) بل يريد قضايا ثقافة ما بعد الحداثة التي حطمت كل ثقافة الحداثة.
يقول الدكتور فؤاد زكريا في كتابه " خطاب إلى العقل العربي ": " أما في العالم الثالث فإن المشكلة الحقيقية التي تواجهها الثقافة هي تحدي السلطة لا تحدي العلم. السلطة الدينية وسلطة الحكومة ". ويتابع " لكن الثقافة مثلما تزدهر في ظل الأمان تزدهر في ظل عدم الأمان " ولذلك على المثقفين العرب التقدميين أن ينتجوا ثقافة وطنية في ظل عدم الأمان: إن ثقافة تنتج في ظل عدم الأمان هي ثقافة فردية لا ثقافة اجتماعية لأن المجتمع المدني مغلق في وجه القوى الاجتماعية بحيث تؤبد سيطرة الثقافة التقليدية. لكن قد يطرح سؤال نفسه: كيف يمكن للمثقفين العرب أن ينتجوا الثقافة الوطنية؟ وما هي تلك الثقافة الوطنية التي يمكن أن تواجه ثقافة العولمة؟ وخاصة إن هناك صراعاً بين المثقفين العرب حول ثقافة التراث وثقافة الحداثة وثقافة ما بعد الحداثة، وخاصة أيضاً بعد طرح بعض المثقفين العرب مسألة " خروج العرب من التاريخ "، وبالتالي نهاية الثقافة العربية أو أنها في حالة انهيار داخلي، وهل مواجهة العولمة يتم في البنية الفوقية أو في البنية التحتية، بمعنى هل يمكن حل إشكالية الثقافة العربية دون حل إشكالية البنية الاجتماعية الكولونيالية؟
يمكن القول إن الثقافة الوطنية الحديثة ضرورة فكرية واجتماعية في المجتمع العربي المعاصر، لكن لابد من القول أيضاً أنه لا يمكن إبدال ثقافة الشعب التقليدية بقرارات رسمية، ولا عن طريق بعض المفكرين العرب الذي تنحصر معركتهم الفكرية ب (يجب: يجب تأمين الحرية للمثقف، يجب تحقيق الديمقراطية، يجب تكريس العقلانية في المجتمع العربي) في نهاية كل مؤتمر حول الثقافة، إنهم بغياب قوى اجتماعية فاعلة يحاربون بثقافة الكلمة لا بثقافة الفعل. لقد تربى الشعب العربي عبر التاريخ على ثقافة معينة (الثقافة العربية الإسلامية) وليس من السهولة إدخال ثقافة جديدة إلى عقله وقلبه بدون مقاومة شعبية لها، هذا إذا تجاوزنا ثقافة السلطات الحاكمة التي هي أيضاً ثقافة إسلامية محافظة تؤبد الوضع الثقافي القائم، ولا تشجع انتشار الثقافة في المجتمع بحيث تزيد الوعي الاجتماعي والثقافي، فالإنسان العربي لا يقرأ أكثر من 6 دقائق في السنة، ومعدل النشر لا يتجاوز 5000 عنوان في السنة، وكل ما أنتجه العرب في الترجمة منذ أيام المأمون يترجم إلى اللغة الإسبانية في سنة واحدة. وحتى تكون الثقافة وطنية يجب على القوى الاجتماعية المهينة أن تطرح ثقافتها التي قد تنطلق من ثقافة التراث ولكن مع إدخال عناصر الثقافة الحديثة معها، أو من الثقافة الحديثة مع إدخال ثقافة التراث معها، والتمازج بين الثقافتين التراثية والحداثية لا يتم ميكانيكياً بل جدلياً عبر سيطرة تلك القوى الاجتماعية المهيمنة لتحول تدريجياً الثقافة التراثية والثقافة الحديثة إلى ثقافة عصرية عبر استخدام ثقافة التراث وثقافة الحداثة استخداماً جديداً يخدم ثقافتها كطبقة مهيمنة بحيث تشكل ثقافة خاصة بها مهيمنة في الساحة الفكرية، بحيث تتغلغل بين الجماهير كقوة اجتماعية. ولنا في ثقافة العصر العباسي نموذجاً عن التلاقح بين العقول، الثقافات، وكما يقول أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام " فالفارسي.. واليوناني النصراني أو العراقي اليهودي يخالط العربي المسلم ويتبادلان الرأي والقصص والفكرة فينشأ من ذلك فكر جديد "، وكان هذا الحوار يقوم على العقل، ولا شيء غير العقل، وهذا هو سر النهضة العربية الإسلامية. " ذلك أن التاريخ يجيب إجابة قاطعة بأن الثقافة والإشعاع الروحي والتقدم لم تزدهر إلا حيث ازدهرت التجارة واختلطت الثقافات وتصارعت الآراء المتباينة " كما يقول تيودور ماير غرين في كتابه: الليبرالية.
وحتى ذلك الوقت سوف تبقى الثقافة العربية التقليدية (الإسلامية) المنغلقة على نفسها بعيداً عن ثقافة العصر الحديث لإغلاق باب الاجتهاد دينياً بعد أن أصبحت الثقافة الإسلامية خارج موضع التساؤل، لأن ذلك التساؤل حول التقدم والتطور والحداثة أصبح يجر إلى التكفير والقتل. لذلك يجب أن تبقى الثقافة العربية الحديثة في موضع التساؤل من قبل القوى التقدمية لتصبح ثقافة وطنية، ذلك أن الثقافة العربية لم تستوعب ثقافة التراث، وحتى أنها لم تستوعب نقدياً ثقافة العصر الحديث، ولأن ثقافة العالم تتغير بسرعة بحيث أن المثقفين العرب يركضون خلفها دون أن يتمكنوا من اللحاق بها، وتبقى ثقافة الفضائيات العربية، ثقافة العولمة هي التي تفعل فعلها في المجتمعات العربية لتغييب الثقافة الوطنية في فوضى الثقافة الاستهلاكية.
إن اللإنسان العربي يعرف أن هناك مكتبة عربية عن الغزو الثقافي للعالم العربي والعالم الإسلامي، وإن هناك مقاومة من قبل تيار الحداثة للغزو الثقافي الإمبريالي لأنه يريد ثقافة حديثة تنويرية تساهم في تحديث المجتمع العربي لا ثقافة إمبريالية تكرس الجمود الاجتماعي والتخلف، كما من قبل التيار التقليدي الإسلامي من أجل الحفاظ على ثقافة الإسلام لمقاومة ثقافة الغزو، ويلاحظ آدم كوبر في كتابه " الثقافة ": " إن الثقافة وقفت عائقاً في سبيل الحداثة، أو التصنيع، أو العولمة.. وقد استحضرت الثقافة عندما برزت الحاجة إلى تفسير سبب تمسك البشر بالأهداف غير المنطقية، وباستراتيجيات تدمير الذات. وطوحت المقاومة الثقافية مشاريع التطوير، وانهارت الديمقراطية، لأنها كانت غريبة على تراث أمة ما.. فكانت الثقافة هي الملاذ من أجل تفسير السلوك غير المنطقي ظاهرياً. كذلك كانت الثقافة هي السبب وراء النتائج المخيبة للآمال لكثير من الإصلاحات السياسية، وكانت التقاليد هي الملجأ للجهلة والخائفين، أو المعين للأغنياء والأقوياء والمدافعين ضد أي تحد لامتيازاتهم الراسخة ". وأعتقد أن هذا الكلام ينطبق على التقوى الدينية الإسلامية التقليدية والراديكالية، وكذلك ينطبق على السلطات العربية الحاكمة التي تحالفت، بشكل أو بآخر، ضد ثقافة التنوير والتحديث. وهكذا، كما يقول مصطفى صفوان: " إن مصر، ودعونا نقتصر الحديث عليها، لا تخلو من إناس مثقفين، لكنها تخلو من الثقافة ". وأعتقد أن هذا الوصف ينطبق على كل الدول العربية، من حيث أن مهمة الثقافة هي خلق المستقبل عبر الخروج من قوقعة النخبة والاتجاه صوب الشعوب العربية، عبر لغة تلك الشعوب.
عام 1970 حكم على الفيلسوف الفرنسي سارتر بالسجن، لكن الرئيس بومبيدو قال " أنا لا أستطيع أن أزج الثقافة خلف قضبان السجن ". وللأسف فإن السلطات العربية كانت وما تزال تضع الثقافة الوطنية خلف القضبان في السجن. لقد منعت السلطات السياسية حرية الكلام كما منعت حرية الإبداع (حرية الفكر والثقافة) لكن، وكما يقول تيودور ماير غرين أيضاً، وكلامه ينطبق بشكل كبير على حالة الثقافة العربية المعاصرة، أن " حرية الكلام ليست غاية في حد ذاتها ولكنها وسيلة للتوصل إلى الحقائق ونشرها، هذه الحقائق اللازمة لحياة البشر وتقدمهم. لذا فإن قمع حرية الكلام يؤخر كل تقدم ثقافي، وقد يضطر الناس إلى النكوص إلى حالة بدائية من البربرية والإيمان بالخرافات والخوف ".



#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زمن التعلم زمن الإبداع
- الدكتور محمد عزيز الحبابي والمفاهيم المبهمة
- رواية: هموم الشباب _ عبد الرحمن بدوي وخطاب التنوير
- كتاب: الوعي القومي _ قسطنطين زريق والنهضة القومية العربية
- توفيق يوسف عواد: علمانية الفصل بين الطوائف
- مصر وثورة يوليو في رواية _ شيء من الخوف _
- أهل الغرام _ حكايات
- رؤية باكثر لشخصية فاوست في مسرحية - فاوست الجديد -
- الأصولية الأصالة الحداثة
- حول رواية - محاولة للخروج - للروائي عبد الحكيم قاسم
- خطاب التوفيقية في رواية يحي حقي - قنديل أم هاشم -
- زمن القصة زمن الرواية
- نحو مشروع نهضوي عربي جديد
- جدلية السيف والقلم
- الجامعة مشروطة أو بدون شروط
- الرواية والمجتمع
- الروائيون والشهرة
- حول الإرهاب
- البطل الإشكالي شهادة
- حول البورجوازية العربية


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي سليمان - مأزق الثقافة العربية