أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علاء شدهان القرشي - الحسين الخارجي: فرضية جديدة حول واقعة كربلاء















المزيد.....

الحسين الخارجي: فرضية جديدة حول واقعة كربلاء


علاء شدهان القرشي

الحوار المتمدن-العدد: 7008 - 2021 / 9 / 3 - 10:25
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


ما الداعي لصياغة فرضية جديدة؟
هناك أسئلة تاريخية حية ودائمة، وهي كذلك لأنها مرتبطة بعلاقةٍ عقيديةٍ خلاصيةٍ يتم إحياؤها، في مناطق واسعة، خلال السَّنَة مرتين على الأقل. أسئلة من قبيل: لماذا وقعت الواقعة؟ ومن هو الفاعل؟ ولطالما وُظِّفتِ الإجابات توظيفًا طائفيًا، أو سياسيًا. حدث هذا كثيرًا، وعدَّة مراتٍ في التاريخ، مما أنتج رؤًى مختلفةً، ومتضاربةً أحيانًا تضاربًا لا يدع مجالًا للتوفيق والتقريب بينها.
تحاول هذه الفرضية أن تتجاوز المقاربات السائدة، مستندة إلى وقائع تاريخية ينقلها مؤرخون ينتمون لا إلى لونٍ أو اتجاهٍ واحد. وتكمن قوّتها في قدرتها على تفسير عددٍ كبيرٍ من الظواهر التي كانت مثارًا لاختلاف التحليلات والتأملات التاريخية على مدى قرون عِدَّة. وهي فرضية تعتمد في أساسها على منهج تاريخي يناسب موضوعها الذي تحاول تفسير ظواهره، على العكس من كثيرٍ من المقاربات التي تهمل أهمية المنهج وصرامته، لصالح الميول العقيدية والنفسية العاطفية. فحينما يواجه القارئ موقفًا تاريخيا، لا ينسجم مع ثقافته التي ورثها، فإنه لا يحقُّ له ردّ ذلك الموقف على أساس ميلٍ نفسيٍّ، أو عقيدةٍ دينيةٍ، وإنما الواجب المنهجي يقضي بضرورة اللجوء إلى منهجٍ تاريخيٍّ، يَـلِــدُه الموضوع التاريخي نفسه. فمثلًا: يرفض أحد الفقهاء، بتبريرٍ عقيديٍّ، حادثة مصادرة الحسين لحمولة تجارية كانت تريد الوصول إلى الشام، وهي كما ينقلها الدينوري (ت 282) في أخباره الطوال: «ولما فصل الحسين بن على من مكة سائرا، وقد وصل الى التنعيم لحق عِيْرًا مقبلة من اليمن، عليهما ورس وحناء، ينطلق به الى يزيد بن معاوية، فأخذها وما عليها». فبما أن الحادثة نُقلت بطريقة الأخبار، كان عليه أن يختبرها من خلال منهج الأخبار، فيفحص سندها، أو يعارضها بخبر آخر على النقيض من الخبر الأول، أو خبر يمنع وقوع الحادثة، كما لو عثر على خبر يشير إلى أن العير لا يمكنها أن تمر بمنطقة التنعيم. وبقليل من البحث سيجد أن حادثة مصادرة حمولة تجارية كانت قد وقعت فعلًا في حياة معاوية، وكتب الحسين بذلك كتابا إلى معاوية يخبره أنه صادر تلك الحمولة لعدم ضمانه عدالة التوزيع. كما ينقل ذلك ابن أبي الحديد.
الفرضية الجديدة:
لم يكن أهل الكوفة يعلمون بمكان الحسين، وأشيع بأن أمير العراق خارج لقتال الخوارج (1).
هذه هي الفرضية، وهي تملك قدرة على تفسير الظواهر التاريخية التي سببت لغطًا كثيرًا.
(أبعاد الفرضية) يمكن تبرير هذه الفرضية تاريخيًا، من خلال:
أولا: الحصار ومنع التجوال العام.
فالأخبار الكثيرة تؤكد أن أمير العراق عبيد الله بن زياد فرض حصارًا قاسيًا على الكوفة والبصرة، منذ خروج الحسين من المدينة بعد موت معاوية وصعود يزيد إلى سدة الحكم. ومن صور ذلك الحصار ما ينقله البلاذري وغيره: «ولما بلغ عبيد اللَّه بْن زياد إقبال الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ، بعث الحصين بْن [تميم] التَّمِيمِيّ ثُمَّ أحد بني جشيش بن مالك ابن حنظلة صاحب شُرَطِهِ حَتَّى نزل القادسية، ونظم الخيل بينها وبين خَفَّان، وبينها وبين القطقطانة إِلَى لعلع». أو هذا الخبر الذي يشير إلى حدود جغرافية أوسع: «ثم أمر ابن زياد بأخذ مَا بين واقصة إِلَى طريق الشَّام إِلَى طريق الْبَصْرَة. وأقبل الْحُسَيْن وَهُوَ لا يشعر بِشَيْءٍ حَتَّى لقي الأعراب فسألهم فَقَالُوا: والله مَا ندري غير أنا لا نقدر عَلَى أن نخرج أَوْ نلج». أو ما يلي: «ثُمَّ أَقْبَلَ الْحُسَيْنُ يَسِيرُ نَحْوَ الْكُوفَةِ، وَلَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْأَخْبَارِ». أو ما يلي: «فَمَضَى قَيْسٌ إلى الْكُوْفَةِ وَعُبَيْدُ اللّهِ بنُ زيادٍ قَدْ وَضَعَ المراصِدَ والْمَصَابيِحَ عَلى الطُّرُقِ، فَلَيْسَ أحَدٌ يَقْدِرُ أنْ يَجوْزَ إلّا فُتِّشَ». إلى غير ذلك من الأخبار المشابهة أو الأخبار التي يفهم منها بوضوح أن حصارا قاسيا كان يحكم قبضته على طرق العراق بشكل عام، وأن أحكاما عرفية تسود في البلاد. ومن تلك التوجيهات الصارمة: «وَوَجّهَ عُبيدُ الله بنُ زيادٍ حُصينَ بنَ تميمٍ الطُّهَويّ [قائد شرطة الكوفة] إلى القادِسيّةِ وَقَالَ: أقِمْ بِـهَا، فَمَنْ أنْكَرْتَهُ فَخُذْهُ». ومن مظاهر منع التجوال، وقتل الغرباء لا لأدنى جرم سوى أنهم غرباء ما يذكره التاريخ حول معاون قائد الشرطة في الكوفة سويد بن عبد الرحمن المنقري: «فَبَنْيا هُوَ يَطُوفُ في أحْياءِ الْكُوفَةِ إذْ وَجَدَ رَجُلًا مِنْ أهْلِ الشَّامِ قَدْ كَانَ قَدِمَ الْكُوفَةَ في طَلَبِ مِيرَاثٍ لَهُ، فَأرْسَلَ بِهِ إلى ابْنِ زيادٍ، فَأمَرَ بِهِ، فَضُرِبَتْ عُنُقَهُ».
ثانيًا: الوقت.
فقد كان موسم الحج يجعل من المتوقع أن يكون خروج الحسين من مكة إما قبل الموسم أو بعده، وإن خرج بعده فإنه من غير المتوقع أن يقطع مناسك الحج وأن يحولها إلى عمرة. ففي رسالته إلى المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة: «وَقَدْ شخصت إليكم مِنْ مَكَّةَ يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية». ومن جهة ثانية، فإن أمير العراق ومعاونيه استنتجوا أن وصول الحسين إلى قريب من الكوفة بمنزل واحد سيكون قبيل شهر محرم، وسيتصل وصوله بشهر محرم وهو شهر لا قتال فيه. فمثلًا: نجد في التاريخ موادعة الإمام علي لمعاوية في شهر محرم، ثم عودة القتال بعده: «ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ تَرَاسَلا فِي الْمُحَرَّمِ وَهُمَا مُتَوَادِعَانِ فَقَالَ حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ الطَّائِيُّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ:
كَأَنَّكَ بِالتَّذَابُحِ بَعْدَ سَبْعٍ ... بَقِينَ مِنَ الْمُحَرَّمِ أَوْ ثَمَانٍ
تكون دماؤنا حلقا حَلالا ... لأَهْلِ الْكُوفَةِ الْحُمْرِ السِّمَانِ».
والموادعة مفردة تاريخية معناها إيقاف الحرب مؤقتًا بسبب الشهر الحرام، وقد تقع الموادعة لأسباب أخرى. إذًا فتوقع الناس أن محرم لا قتال فيه، وتوقعهم أيضًا أن الحسين لن يصل في أيام محرم لأنها لن يترك مناسك الحج وما بعدها، ولو وصل في المحرم فإنه لن يُقَاتل أو يعرض له أحد بسوء، فالوقت وقت موادعة وسلام. لذلك يمكننا أن نفهم سرّ الاستعجال في إصدار قرارات المحاصرة والقتل في هذه الأيام المتصلة بقرب وصول الحسين.
ثالثًا: المحاصرة الخاصة.
وهي تطويق الركب الحسيني منذ أول لحظة يقترب فيها من حدود العراق الحالية، واستمرار تلك المحاصرة وذلك التطويق إلى ما بعد الواقعة. فمثلًا: حاول أربعة أشخاص اللحاق بموكب الحسين، وهم: نافع بْن هلال المرادي وعمرو بْن خالد الصيداوي وسعد مولاه، ومجمع بْن عَبْدِ اللَّهِ العائذي، وكان دليلهم الطرماح بن عدي الطائي، فلما وصلوا إليه أخذهم الحر بن يزيد الرياحي، ومنعهم من التواصل مع الحسين: فقال الحر: «إن هَؤُلاءِ النفر الَّذِينَ من أهل الْكُوفَة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: لأمنعنَّهم مما أمنع مِنْهُ نفسي، إنما هَؤُلاءِ أنصاري وأعواني». واستمر هذا التطويق حتى وصولهم إلى كربلاء ونصبهم للخيم. فقد عَيَّن عبيد الله عليهم حرسًا تحرس المخيم والموكب كله ليلًا نهارًا، وقد نفهم ذلك من بعض الأخبار المتناثرة، كخبر المشرقي: «فتمر بنا خيل لَهُمْ تحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ... الخ». وبعده: «فَسَمِعَها رَجُلٌ مِنْ تِلَكَ الخيل الَّتِي كَانَتْ تحرسنا». وقائد الحرس الليلي: «وَكَانَ الَّذِي يحرسنا بالليل فِي الخيل عزرة بن قيس الأحمسي». وهو من الفرسان القدماء الذين اشتركوا مع خالد بن الوليد في فتوح العراق والشام، وهو ممن راسل الحسين مع مجموعة من جنسه ولونه السياسي والعقيدي مثل: شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومُحَمَّد بن عمير التميمي. وهو ممن شهد على حجر بن عدي في ولاية زياد بن أبيه على الكوفة.
ومن أبرز صور الحصار ما ينقله الطبري بخبرٍ نادرٍ يحمل دلالات كثيرة ومثيرة: «حَدَّثَنِي من شهد الْحُسَيْن فِي عسكره أن حسينا حين غلب عَلَى عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قَالَ: فَقَالَ رجل من بنى أبان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتامَّ إِلَيْهِ شيعته». أي: لئلا يدركه مدد، بعد أن ينتشر خبر وصوله إلى كربلاء، أو – على الأرجح – لئلا يكتشف الناس أن المعركة مع الحسين بن علي، لا مع خارجي خرج على عبيد الله. وما في معناه خبر البلاذري: «ووضع ابْن زياد المناظر عَلَى الْكُوفَة لئلا يجوز أحد من العسكر مخافة لأن يلحق الْحُسَيْن مغيثا لَهُ».
رابعًا: التعجيل بالقتال.
مع الأخذ بنظر الاعتبار النقاط الثلاثة الماضية، سيكون التعجيل بالقتال ركنًا رابعًا تتولد عنه الفرضية تولّدًا لازمًا. فالوقت محدد بشهر محرم الحرام، والحصار العام قد يتفاقم، والمحاصرة الخاصة قد تنهار في أي لحظة. فكان التعجيل هو بمثابة العنصر اللازم لإنجاح الخطة كلها. كانت رسائل يزيد إلى عبيد الله تؤكد ذلك، بالإضافة إلى أن يزيد كان يؤكد مرارًا أن عبيد الله عجّل على الحسين. قالها علانية لـ "سبايا" الحسين، وقالها لمحمد بن الحنفية بعد مقتل الحسين في مراسلة بينهما. وكتب التاريخ للواقعة حافلة بإشارات الاستعجال والسرعة والبدار. كما في أخبار التوابين وما يتصل بهم: «وَقَالَ لَهُمْ سَعْد بْن حذيفة: إنكم كنتم عَلَى نصرة الْحُسَيْن لولا أَن خبر قتله - ومعاجلة الْقَوْم إياه - أتاكم».
ولا شك أن يزيد أمر بقتل الحسين كما في رسالة ابن عباس المشهورة إلى يزيد بعد الواقعة: «فما أنس ما أنس طردك حسيناً من حرم الله وحرم رسوله وكتابك إلى ابن مرجانة تأمره بقتله». أو كما في اعتراف أمير العراق عبيد الله بن زياد: «أمَّا قَتْلي الحُسَينَ فَإنَّهُ خَرَجَ عَلى إمَامٍ وَأمَّةٍ مـُجْتمعَةٍ، وكَتَبَ إلَيَّ الإمَامُ يَأمُرُني بِقَتْلِهِ، فَإنْ كَانَ ذَلكَ خَطَأ كَانَ لازِمًا لِيَزيدَ». أو كما في خبر آخر: «أَمَّا قَتْلِي الْحُسَيْنَ فَإِنَّهُ أَشَارَ إِلَيَّ يَزِيدُ بِقَتْلِهِ أَوْ قَتْلِي فَاخْتَرْتُ قَتْلَهُ».
خامسًا: تطبيق سمات الخوارج.
بمعنى أن عبيد الله ويزيد والقوى الحاكمة أرادت أن تبدو وقعة كربلاء معركة لقتال إحدى جماعات الخوارج، أو أرادوا أن يبدو الحسين خارجيًا ويجب حينئذٍ قتله. يرى الخوارج كما هو مستفيض عنهم أن جهاد الحاكم الجائر فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومن بين فرقهم الكثيرة في صدر الإسلام فرقة ترى وجوب الخروج إن اجتمع ثلاثة فما فوق، أو سبعة، أو عشرة، وهكذا، فلا يهم العدد، ولا تحقيق النصر، بل المهم هو رفع إثم السكوت والقعود عن التغيير باليد، ثالث مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما فتئت جماعات الخوارج تعلن الجهاد بين الفينة والأخرى، كلما اجتمعت لهم أسباب الخروج. وبالرغم من تعدد فرق الخوارج إلا أنهم مجتمعون على أصل أصيل لا يحيدون عنه وهو وجوب الخروج جهادًا على السلطان الجائر. وكان عبيد الله بن زياد خبيرًا بهم وبطرقهم وخططهم، وقد تمرس في محاربتهم منذ إمارته على البصرة. وقد قتل للتو – سنة ستين للهجرة - مرادس بن أدية أبا بلال في أربعين من أصحابه على نهر ميسان، بعد أن قتل أخاه عروة بن أدية، ثم أقبل نحو الكوفة.
هذا من زاوية نظر، ومن زاوية أخرى فإن أسماء الذين كانوا يحاربون الخوارج منذ زمن معاوية إلى عهد عبيد الله، هي الأسماء ذاتها التي نجدها في أخبار واقعة كربلاء ومحاصرة الكوفة والبصرة وموكب الحسين وحمل الرؤوس إلى الشام وما يتصل بتلك الأحداث. أوضح مثال لذلك معقل بن قيس الرياحي من أبناء عمومة الحر بن يزيد الرياحي المأمور بمحاصرة الحسين وتطويق موكبه تطويقًا صارمًا. ومما شاع من أشعار يزيد – وقد كان شاعرا مطبوعا – شعره بعد استقدام عبيد الله إليه في الشام وإكرامه إياه وإحسان جائزته:
«إسقني شربة تروي فؤادي ... ثمّ مِلْ فاسْقِ مثلها ابن زياد
صاحب السرّ والأمانة عندي ... ولتسديد مغنمي وجهادي
قاتل الخارجي أعني حسيناً ... ومبيد الأعداء والحسّادِ».
والشعر - لمن يعرف أسلوب العهد الأموي - أحد أدواتهم الهامة في إدارتهم ومعاركهم وحروبهم. وهذه الأبيات أريد لها أن تكرس مبرّرات الخطة التي وُضِعتْ لإنهاء ملف الحسين.
ويدعم ذلك أيضًا وصف "الأسرى" وهم أهل بيت الحسين بــ "السبايا"، مع أن هذا الوصف – حسب تتبعي لكتب التاريخ – لا يلحق إلا لأسرى الكفار، أو أسرى الخوارج.
تفسير الفرضية لعدة ظواهر
نستعيد الآن نص الفرضية: لم يكن أهل الكوفة يعلمون بمكان الحسين، وأشيع بأن أمير العراق خارج لقتال الخوارج.
تكتسب الفرضية قوتها بقدرتها على تفسير ظواهر طالما حيّرت المؤرخين أو المهتمين بوقائع التاريخ.
فمن تلك الظواهر التي تفسرها:
• تشويه ملامح الشهداء، برض صدورهم وظهورهم بحوافر الخيل. وهي حادثة غير مسبوقة في تاريخ الإسلام، ولم تتكرر بعد واقعة كربلاء. وكذلك تشويه ملامح الرأس بضربه بالقضيب على ملامحه، وقد ذكرت بعض الأخبار أن عبيد الله كان يضرب وجنتيه وفمه وأنفه، وكرر ذلك يزيد حين وصل إليه الرأس. والفرضية تفسر ذلك بوضوح، حيث أنهم أشاعوا أنها معركة لقتل الخوارج، وأن الحسين ما زال في مكة، أو أنه من البعيد وصوله هذه الأيام. ولا أعرف أحدًا برر هذا التشويه تبريرا مقنعا سوى هذه الفرضية. تعمدوا هذا لكسب الوقت ريثما يستعيدون صفوفهم ويستعدون لإعلان قتلهم الحسين. ولا يهم بعد ذلك شيوع الخبر.
• محاولة كسب الوقت. كان أصحاب الحسين – لا معسكره – يحاولون كسب الوقت، بغية تسرب خبر وصول الحسين ووصول الخبر إلى شيعته. وذلك من خلال تأخير المعركة يوما أو أكثر، ومن خلال القتال الفردي، ومن خلال محاولات عبور نهر الفرات التي لم ينجح أي منها لكثرة الحرس على شريعة النهر.
• عدم التعرف على شخوص السبايا. طوال الطريق من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام، كان "الأسرى" يُعرّفون أنفسهم، بعد أن انتشر خبر انتصار الأمير على مجموعة من الخوارج. عرّفوا عن أنفسهم في الكوفة، وفي الشام، وفي الطريق إلى الشام. ومما يدعم هذا أن من يتعرف عليهم فإنه يصاب بالذهول، كما حصل بالنسبة إلى أهل الكوفة، أو قسم من أهل الشام. وهو يفسر اندهاش علي بن الحسين نفسه حين رأى كثرة الباكين على الحسين وقت دخول الأسرى إلى الكوفة، فقال: «هَؤلَاءِ يَبْكُونَ عَلَينَا فَمَنْ قَتَلَنا؟».
• تخلف شيعة الحسين عن نصرته. يصبح هذا مُــبَرّرًا وفق الفرضية، لأنهم وببساطة شديدة، لا يعلمون بوصول الحسين إلى أعتاب الكوفة. لدينا خبر – لم أتحقق قوته – أن حبيب بن مظاهر نفسه فوجئ بوصول الحسين إلى كربلاء، مع أنه قابل مسلم وبايعه على نصرة الحسين، إلا أن التوقيت والكتمان والحصار وحظر التجوال أضاع عليه الخبر.
• تجييش الغرباء. لئلا يعرفون الحسين. وكانت الكوفة بعيدة العهد بملامح الحسين عدا عن شيوخهم الذين لم يكونوا شيعة للحسين، بل شيعة لأنفسهم، وهذا زعم مبرراته التاريخية الأخبارية كثيرة جدا. والمقصود بالغرباء مماليك الروم وفارس، وكان منهم قرابة عشرين ألفًا في الكوفة في ذلك الوقت.
• محاولات الوصول إلى شريعة نهر الفرات. وهي محاولات لكسر الطوق، وتسريب خبر الوصول، ومن ثم إحباط خطة عبيد الله. لذلك نجد حراسة شديدة على النهر، حتى أن عمر بن سعد قائد الجيش الأموي كان يقضي وقته بالاستنقاع في النهر. كما في خبر البلاذري وغيره: «وأخبرني سعد بْن عبيدة، قَالَ: إنا لمستنقعون فِي الماء مَعَ عمر بن سعد إذ أتاه رجل فساره فَقَالَ: بعث إِلَيْك ابْن زياد ابن حويزة ابن بدر التَّمِيمِيّ وأمره إن أنت لم تقاتل أن يضرب عنقك. قَالَ: فخرج فوثب عَلَى فرسه ثم دعا بسلاحه فصار إليهم فقاتلهم فقتلهم فجيء برأس الْحُسَيْن إِلَى ابْن زياد».
• موقع كربلاء الجغرافي. فكربلاء لمن يلاحظ خارطة العراق، تقع في الطريق إلى الشام. ولا تقع في طريق القادم من مكة إلى الكوفة، ولا قريبا منها. ومعنى ذلك أن الحر بن يزيد الرياحي أدى مهمته بنجاح تام، ومن دون أدنى تقصير، وبكل صرامة عسكرية، حين جعجع بالحسين إلى طريق الشام، لا إلى طريق آخر، ليحقق شائعة الخوارج، وأن مجموعة منهم خرجت على الأمير، وهم في طريق الشام قرب النخيلة. مما يفسر أيضًا خروج عبيد الله في مجموعة من الجيش إلى النخيلة فعسكر بها، مشكّلا بلك جبهة خلفية لجيش عمر بن سعد. وكان قد ولى الكوفة رجلا غيره، وأمره بتتابع الخيول المضمرة لإيصال الأخبار أولا بأول. من الواضح أن أهل الكوفة سيلاحظون أن معركة في شمال الكوفة على طريق الشام شغلت الأمير، وها هو ذا يعسكر بنفسه لإدارتها، ودعم جنودها. وهذا خلاف توقع الناس لركب الحسين، حيث يجب أن يكون في جنوب الكوفة قادما من مكة أو المدينة.
وهكذا يمكن في بحث آخر مطول أن نعدد الظواهر التي تفسرها هذه الفرضية. ونكف – بعبارة متناقضة - عن اتهام شيعة الحسين بقتل الحسين، وهكذا أريد لهم أن يوصفوا على مدى قرون متوالية.
كان هم عبيد الله أن ينهي المعركة بسرعة كبيرة، ولو علموا أن الشمس لن تشرق أبدا لما استعجلوا في أي شيء. غابت منذ ذلك اليوم، وهي لا تفكر بالشروق في الأمد المنظور.
----------------
(1) الأمير منصب يشبه منصب الرئيس في منطقة حكم ذاتي اليوم، وهو الذي ينصب الولاة. أي: الحكام المحليين، فأمير البصرة كان مسؤولا عن تنصيب ولاة أيران كلها، من الأهواز وكورها ومناطقها إلى أقصى حدود خراسان من دون الحاجة إلى استئذان الحاكم الأعلى. وأمير الكوفة ينصب الولاة في حدود أقليمه من شمال حدود البصرة إلى أقصى حدود الموصل. أما أمير العراق فهو أمير المصرين الكبيرين الكوفة والبصرة، وقد أناط يزيد هذا المنصب بعبيد الله بن زياد فور وصول خبر خروج الحسين من المدينة إلى مكة.



#علاء_شدهان_القرشي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رؤوس الأموال الرمزية - النجف مثالًا


المزيد.....




- فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN ...
- فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا ...
- لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو ...
- المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و ...
- الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية ...
- أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر ...
- -هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت ...
- رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا ...
- يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن 
- نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - علاء شدهان القرشي - الحسين الخارجي: فرضية جديدة حول واقعة كربلاء