|
مقدمة كتاب: مهد الحضارات - التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب
مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب
(Mousab Kassem Azzawi)
الحوار المتمدن-العدد: 7007 - 2021 / 9 / 2 - 17:16
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
مقدمة كتاب
مهد الحضارات
التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب
إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي
تعريب: فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن
الطبعة الأولى
2021
صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن
بالتعاون مع
دار نشر شركة آمازون في المملكة المتحدة
مفهوم الهلال الخصيب يمثل صورة ذهنية لبوتقة بزوغ الحضارات الكبرى في الفضاء الجغرافي لوادي الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل منذ الألف الرابع قبل الميلاد بشكل يمكن استكناه الكثير من تفاصيله الدقيقة من خلال ما تركه أولئك الأسلاف من تركة مكتوبة يمكن من خلالها تلمس صيرورة نشوء تلك الحضارات وتآثرها فيما بينها منتجة نموذجاً مبهراً من نهوض بني البشر خلال رحلتهم الأخيرة في الانتقال من نمط حياة الصيد والالتقاط إلى حقبة الاستيطان في مجتمعات زراعية منذ خواتيم العصر الجليدي الأخير الذي أكمل انحساره منذ الألف العاشر قبل الميلاد. وقد يكون أحد أهم العناصر المميزة لحقبة بزوغ الحضارة في الهلال الخصيب هو حالة الاتصال الحضاري الوطيد بين جميع المجتمعات التي حلت وارتحلت وتوسعت وانحسرت واندثرت من ذلك الفضاء الجغرافي، وهو اتصال فريد وعميق العرى يظهر بالتدقيق فيه بأن الفناء المكاني للهلال الخصيب كان بوتقة انصهار للعديد من المجتمعات والحضارات التي تداخلت وتشابكت في صيرورة تكونها الحضاري بحيث يصبح الكل منهلاً ورافداً لغيره من المجتمعات القرينة له أو السالفة له أو اللاحقة عليه؛ وهو ما تجلى في الصيرورة الزمنية لنهوض مجتمعات الهلال الخصيب منذ الألف الرابع قبل الميلاد سواء مع السومريين في وادي الرافدين، أو الأسرة الفرعونية الأولى في وادي النيل، وهما اللذان أصبحا حجرا الأساس لبناء كل الحضارات اللاحقة لهما في حضارات الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والعموريين والكنعانيين والفينيقيين والعيلاميين والحوريين والنوبيين، وبشكل أقل عمقاً في تواشج العرى مع حضارات شعوب البحر المتوسط الأخرى، وأقوام شعوب بلاد الأناضول من الحثيين، وسكان الخاصرة الجنوبية لوادي النيل من الكوشيين. والحقيقة الأكثر رسوخاً راهناً تنطلق من أن جميع التصنيفات البائدة لحضارات الهلال الخصيب على أساس الاختلافات اللغوية بين أقوام مجتمعات المنطقة، أو بالاستناد إلى ملاحظات أركيولوجية واستنتاجات حفرية حول أنماط تشييد الأبنية وصناعة الأواني الفخارية من الصلصال وتلوينه و زخرفته، أو صناعة الحلي والأدوات الأخرى، جلها تصنيفات اعتباطية تجتزئ الحقائق، وتفسرها بشكل لا موضوعي، يتنافى مع الاكتشافات البحثية المعاصرة التي تشي بتداخل وطيد واتصال حضاري لا ينقطع بين جميع الأقوام التي سكنت منطقة الهلال الخصيب، والتي قام كل منها بالبناء على ما وصل إليه أسلافه في المنطقة من مستوى لغوي وقدرات إبداعية في شتى المجالات، بحيث لا يمكن بأي شكل موضوعي تخليق أي فاصل تعسفي لتفريق أقوام المنطقة على أساس لغوي كما كان الحال شيوعاً بين لغة السومريين ومن تلاهم في صيرورة التاريخ الحضاري لمنطقة الهلال الخصيب من الأكاديين والبابليين والآشوريين. وذلك التوصيف الأخير يعني عملياً بأن نشوء الحضارات في منطقة الهلال الخصيب كان يقوم دائماً على أكتاف الحضارات والأقوام السابقة التي لم يتم محو وجودها السالف وإبداعها الحضاري واللغوي، وإنما استدماجه في كينونة التالي لهم من أقوام ومجتمعات تمثل توسعاً واستمراراً لمن سبقهم دون أن تكون حلولاً في محلهم بأي مقاربة عقلانية علمية مدققة، وهو ما يشي بعسف منظومات التقسيم الاعتباطي للمجتمعات المعاصرة التي ما زالت تعيش في فضاء الهلال الخصيب على أسس إثنية، أو عرقية، أو لغوية، أو تاريخية تلفيقية مصطنعة، أو غيرها. ومن ناحية أخرى فإن قراءة مدققة لصيرورة التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب لا بد أن تفضي إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم التحضر وقوننة العلاقات الاجتماعية بين البشر، وتأسيس عقد اجتماعي حقيقي في المجتمعات التي يعيش فيها أبناء الهلال الخصيب المعاصرين حتى لو كان على نهج الشريعة البادرية التي اختطها حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، لينصف المظلومين والمهضومين ولا يتركهم فريسة لا نصير لها حينما يتكالب على حيواتها ومستقبلها وأحلامها النهابون والأفاقون وبهلوانيو صناعة وتبرير هيمنة الأقوياء الأثرياء على المفقرين المستضعفين. وفي نفس السياق الأخير لا بد من التمعن في تقاليد تنصيب الملوك البابليين، والتي ورثها منهم الآشوريون من بعدهم، والتي تكرس مفهوم أن «الملك خادم لرعيته» وليس قيِّماً على قومه بما يتجاوز دوره في خدمتهم وفق الشريعة الدنيوية التي اختطها أسلافهم، حتى لو كانت من الناحية الطقسية قد تنزلت من إنليل أو مردوخ أو أي من آلهة شعوب الهلال الخصيب على اختلاف أسمائها. وهو التمعن الذي لا بد أن يفضي إلى تحريك رغبة عارمة في وجدان أخلاف أولئك الأسلاف في منطقة الهلال الخصيب لاستنهاض قدرتهم على الفعل الحضاري، والاجتهاد الجمعي، والصبر والمصابرة، في الرحلة المضنية التي لا بد من خوض غمارها، لمواجهة شرور الاستبداد المقيم والمخيم على كل تفاصيل حيواتهم وأحلامهم بصغيرها وكبيرها، بشكل أعادها في غير موضع جغرافي من فضاء الهلال الخصيب إلى مستوى حضاري تنكسي نكوصي كان أبناء نفس تلك المجتمعات قد تجاوزوه في عدة مراحل من تاريخهم السالف، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد، وهو ما يجعل من مهمة الاجتهاد الجمعي الواجب لمقاومة الاستبداد وغيلانه ومفاعيله مهمة ملحة لأحفاد أولئك العظام الذين كانت أرضهم «مهد الحضارات» في غابر الأيام؛ ولا بد لكل عاقل ذي ضمير حي من أولئك الأخيرين من بذل كل غال ورخيص للدفاع عن حق أبناء تلك المجتمعات الراهنين في العيش الحر الكريم العادل وعدم الاندثار «حضارياً» من خارطة المعمورة إلى حيز المجتمعات البائدة لعدم اجتهاد أبنائها في الدفاع عن وجودها وكينونتها وحقها في الاستمرار والوجود.
#مصعب_قاسم_عزاوي (هاشتاغ)
Mousab_Kassem_Azzawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جائحة العزوف عن القراءة
-
حبكة رهاب العرب والمسلمين
-
مقدمة كتاب: رتق الذاكرة التاريخية - منعطفات التاريخين العربي
...
-
وأد الديمقراطية
-
خطل الإرادوية الفكرية
-
السموم البيئية والاضطرابات العصبية والنمائية عند الأطفال
-
مقدمة كتاب مفاتيح الصحة والعافية
-
كيف تسهم السموم البيئية في مآسي سرطانات الأطفال؟
-
أحابيل الكواليس الغربية ومآلات الربيع العربي
-
اشتراكية السوق
-
كيف يتسبب تلوث الهواء في انتشار وباء الربو بين الأطفال؟
-
مقدمة كتاب صيرورة فكر عصر الأنوار
-
كيف يمكن للعلماء الكشف عن السموم الصامتة في أبدان الأطفال؟
-
مقدمة كتاب كينونة الذكاء الإنساني
-
عقابيل السموم الصامتة على أجساد وعقول أطفالنا
-
اشتراكية للأغنياء فقط
-
لماذا الأطفال أكثرعرضة لتأثيرات السموم البيئية؟
-
سر التفوق الاقتصادي في اليابان
-
لماذا لا نتعلم من أخطائنا السمية
-
استدامة الحروب الكونية
المزيد.....
-
كيف ردت الصين على ترامب بعد فرضه الرسوم الجمركية؟
-
نبيذ الكوبرا وخصيتي الثعبان.. إليك وجبات غريبة يأكلها الأشخا
...
-
واشنطن تضغط على كييف: لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية بحلول
...
-
بعد صورة الشرع متوجها إلى الرياض.. إغلاق حساب للرئاسة السوري
...
-
البحرية الإسرائيلية تعتقل صيادا لبنانيا عند نقطة رأس الناقور
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن توسيع عملياته شمالي الضفة الغربية
-
سموتريش يطالب نتنياهو بتدمير -حماس- و-نصر كامل- في غزة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تنفيذ 3 غارات جوية على شمالي الضفة الغ
...
-
علماء روس يبتكرون نظاما للتحكم بكثافة البلازما
-
Lenovo تعلن عن حاسبها الجديد لمحبي الألعاب الإلكترونية
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|