|
الكف تناطح المخرز / 11 ، 12
محمد أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 1645 - 2006 / 8 / 17 - 11:11
المحور:
الادب والفن
( 8 ) - أهلا أبو كفاح . قالها حياد وهو يمد يده لمصافحة أبي كفاح الذي جاء لزيارته، ابتسم أبو كفاح في ود ، صافح حياد بحرارة ، وقال معاتباً : - وعدت أن تزورني ولكن .. قاطعه حاد : - صدقني أنني كنت أنوي زيارتك يوم السبت القادم ، أنت تعرف .. الامتحانات والعمل .. الحياة مملوءة بالمشاكل . قال أبو كفاح بدهشة : - العمل ؟! استدرك حياد : - تفضل يا رجل .. تفضل وسأحدثك عن كل شيء . دخل أبو كفاح إلى المنزل ، أدخله حياد إلى غرفة الجلوس المتواضعة ، جاء أبو حياد لمجاملة الضيف ، فوجئ عندما رأى أبا كفاح ، مد ذراعيه ، وبالأحضان ، وهات يا قبل ، وهات يا سلامات . - وينك يا راجل ؟ والله زمان ! - برضه يا أبو حياد ، أنا اللي وين ؟ طيب ، اسأل حياد قديش حملته سلامات إلك .. يا راجل اللي بيشرب من بير ما بيرمي فيه حجر . - ضحك أبو حياد : - صدقني ما رميت ولا حتى حصوة . نظر إليه أبو كفاح نظرة ذات مغزى أعادته إلى أيام صباه ، كان يشارك في النشاطات السياسية دون كلل ، وكيف شارك في جماعات الأنصار في بداية الاحتلال ، كيف شارك في الكفاح المسلح على الرغم من قناعته بأن الجماهير لم تعبأ التعبئة الكافية لمثل هذه النقلة النوعية في الكفاح ، كان أبو حياد يعتقد يومها أنه يجب تربية الجماهير تربية فكرية وسياسية ودفعها إلى ممارسة أشكال نضالية تساعد على تطوير قدراتها على مواجهة الاحتلال بصورة منطقية ، لكن المزاج العام طغى على المنطق الذي كان يطرحه أبو حياد ، كانت عواطف الناس مع الكفاح المسلح ، فكيف يمكن إقناعهم بأهمية الكفاح السياسي أو النضال النقابي أو الفكري، كان أبو حياد يحتد كثيرا ، يصرخ في وجه رفاقه : - ها أنتم تبدءون الطريق من نهايته ، يا ناس حرام عليكم ، الكفاح المسلح أرقى أشكال النضال ، ولا نستطيع أن نبدأ صعود السلم من آخره ، لا بد من تراكم الخبرات لدى الجماهير ، النجاح في المعارك البسيطة يقود إلى النجاح في المعارك الأكبر والأكثر شراسة ، عدونا متمرس يتمتع بخبرات ضخمة ، خلفه تراث استعماري ضخم ، ودعم استعماري أضخم . كانت بعض العناصر من الفصائل الأخرى يسخرون من آرائه، ماذا سيفعل المنشور ، بل ماذا ستفعل البيانات والمظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية ، وهل نحن بحاجة إلى تأطير العمال في نقابات والطلاب في اتحادات طلابية؟ وأمام قوة الرأي السائد لم يستطع إلا أن يوافق على الانخراط في العمل المسلح ، وقد استُشهد من زملائه من استُشهد ، واعتقل من اعتقل ، ها أنت يا أبو كفاح تعود إلى العمل السياسي من جديد بعد أن أمضيت عشر سنوات من عمرك في السجن لمشاركتك في العمل المسلح ، أما أنا فقد كدت أقتل في أحد الاشتباكات . تنحنح أبو كفاح : - والله سلامات .. لوين وصلت يا راجل . - أبدا .. طافت بخاطري بعض الذكريات . - الماضي ؟ ألا تستطيع أن تخرج من إطار هذا الماضي ؟! صحيح أنك كنت على حق ، ولكننا كنا على حق أيضا ، كان يجب ألا نتخلف عن حركة الجماهير . - وألا نتذيل لها .. يجب ألا ننافق الجماهير ، يجب أن نصارحها مهما كانت الصراحة مؤلمة .. آه لو صعدنا السلم من أوله ، كنا قد وصلنا هدفنا . - احتاج الأمر إلى علاقة جدلية مع باقي الفصائل حتى استطعنا أن نصل إلى ما وصلنا إليه في الدورة التوحيدية في الجزائر .. أعتقد أن الأمر يدعو إلى التفاؤل . - أرجو ذلك ، كما أرجو أن تترسخ الوحدة الوطنية حول طرح سياسي موضوعي . - يا رفيق أبو حياد .. أما آن الأوان لكي تخرج من عزلتك ؟ أما آن لك أن تقتلع جذور الإحباط من أعماقك ؟ وهل تظن أن الحياد والسلبية يحميانك من البطش ؟ ها هم قد اعتقلوا أبناءك بسبب ماضيك ، الماضي يلاحقك في الحاضر والمستقبل .. لقد عرفت ابنك في السجن ، بالكاد تذكرني . ابتسم حياد وقال : - كنت صغيرا عندما زرتنا آخر مرة .. كان ذلك قبل حوالي خمس سنوات ولم تتكرر الزيارة . - حياد .. ليس هذا ما جئت من أجله ، تذكر أنني طلبت منك ونحن في السجن أن تعد لي كشفا بعلامات منتصف العام ، وأوراقا أخرى ، وقد أرسلتها لي كما طلبت منك . - لقد نسيت الموضوع . - ولكنني لم انس ، فقد استطعت أن أوفر لك منحة دراسية في الدول الاشتراكية .. أبوك منا وفينا ، وأنت أيضا . ابتسم حياد : - وما هو المطلوب مني ؟ - مطلوب منك أن تجهز لاسيه باسيه " وثيقة سفر تصدرها سلطات الاحتلال " وأن تنتظر حتى أبلغك بموعد السفر . رفرف قلب حياد بين ضلوعه مثل عصفور أطل عليه الربيع فأخذ يصفق بجناحيه متنقلا من شجرة إلى أخرى . *** في صباح اليوم التالي توجه حياد إلى مكتب الداخلية في المدينة بعد أن عبأ طلبا للحصول على جواز السفر ، قدم الطلب إلى الموظف المسئول بعد أن ألصق عليه الدمغة المطلوبة ، قام الموظف بتثبيت الصورة على الطلب، ووعده بإنجاز المعاملة بعد أسبوعين أو ثلاثة . خرج حياد من مكتب الداخلية وقرر أن يتوجه إلى عمله ، فهو الآن بحاجة إلى توفير مبلغ معقول أكثر من أي وقت مضى ، أشار إلى سيارة أقلته إلى ساحة الشجاعية في غزة حيث استقل سيارة من هناك إلى تل أبيب .. إلى الأولام " الصالة " . - لماذا تأخرت ؟ - لم أجد سيارة .. اليوم الأحد كما تعرفين والمواصلات صعبة . - حبيبي .. أنت لازم تصحو بدري . - - إن شاء الله . توجه إلى المجلى فوجد الصحون أكواما في انتظاره ، شمر عن ساعديه وبدأ العمل بنشاط ، لاحقته الموظفة وهي تبتسم ابتسامة عريضة . قررت الموظفة أن تساعد " حياد " ، عرضت عليه أن يعمل نادلا في القاعة الرئيسية ، يقدم الطلبات للزبائن ويشاهد حفلات الرقص ، ويحصل على البخشيش . كانت القاعة تغص بالزوار ، وكان النُدُل يروحون ويجيئون ، بعضهم يحمل الطلبات للزبائن ، والبعض الآخر يحمل الطلبات الفارغة ، توجه حياد إلى المكان الذي يحمل منه الطلبات إلى الزبائن ، وهنا استيقظت ذاكرته فجأة .. ما هذا ؟ ! شاهد رجلا يجلس أمام آلة حاسبة ، له رأس أصلع ووجه دائري ، يضرب بأصابعه على الآلة الحاسبة ، وقف حياد مشدوها .. سبق وأن رأيت هذا الرجل ، ولكن أين ؟ أين يا حياد ؟ رفع الرجل رأسه فالتقت عيناه بعيني حياد ، نظر الرجل إلى حياد فترة وجيزة وعاد لمداعبة آلته الحاسبة بأصابعه ، ولكن شيئا ما دفعه إلى إعادة النظر إلى حياد مرة ثانية . - يا إلهي !! قال الرجل ثم أردف : - هذا أنت ؟ الآن تذكرتك .. لا أكاد أنسى تلك الليلة اللعينة. - - أية ليلة ؟ - تلك الليلة التي قبضوا عليك فيها . - آه تذكرتك .. أنت الشرطي المدني الذي كان مع الجيش . - أي نعم .. أنا هو . - ولماذا أنت هنا ؟ هل تركت العمل في الشرطة ؟ - إنها قصة طويلة يا عزيزي وسأحدثك عنها في وقت فراغنا . أخذ حياد يتنقل بين الزبائن ، يقدم الطلبات وهو يوزع معها الابتسامات هنا وهناك آملا أن ينجح في عمله الجديد كما نجح في جلي الصحون . ما إن جاء وقت الاستراحة حتى جاء أبو محمود متهللا تعلو وجهه ابتسامة عريضة ، جذبه من يده وأخذه إلى ركن قصي مشيراً له بيده أن يجلس ، كان حياد يود أن يسمع قصة ذلك الشرطي المدني ولماذا هو هنا ؟ هل هو موجود خصيصا لمراقبة الموظفين العرب ؟ أم أنه ترك عمله حقيقة ؟ تذكر حياد تلك النصيحة التي قدمها جندي من حرس الحدود المصريين لوالده ، يقول والده إنه صادق ذلك الجندي وجالسه أكثر من مرة في المقهى وفي لحظة مكاشفة قال الجندي لوالده : - اسمع يا محمد، عاوز أنصحك نصيحة لوجه الله. دهش أبو حياد عندما سمع هذا الكلام ولكنه آثر أن يلوذ بالصمت. أكمل الجندي المصري : - ابن الحكومة .. اللي يلبس الكاكي ده ما يتاخدش منه صاحب . علت الدهشة وجه والده ، ولكن الجندي استطرد : ذمته كاوتش .. تمطها توصل البحر ، تضمها ما تجيش تعريفة ، أنا دلوقت لو عاوز آخذ شريط على حسابك ممكن أحط لك حتة حشيش في جيبك وأضبطك وأنت متلبس وآخذ ترقية وأنت تدخل السجن . تذكر حياد حديث والده عن ذلك الجندي المصري والذي بلغ به الصدق والصراحة إلى درجة أن يحذر صديقه من أن يطمئن إليه ، كان والده يكرر كلمات ذلك الجندي بلهجته المصرية : ابن الحكومة اللي يلبس الكاكي ما يتاخدش منه صاحب ، ومع ذلك قرر حياد أن يجلس وأن يستمع إلى ذلك الشرطي المدني ، أن يتحدث معه ليرى ويسمع ما عنده ، أعاده أبو محمود من شروده حين سأله : - كيف الامتحان ؟ يا ترى كنت كويس ؟ ابتسم حياد : - صحيح أن الموقف أثر علي ، ولكني أعتقد أن النتيجة ستكون جيدة . توقف حياد ثم أردف : - أريد أن أسأل : لماذا أنت هنا ؟ - قلت لك إنها قصة طويلة ، ولكني سأحدثك باختصار قبل أن ينتهي وقت الاستراحة ، أتذكر تلكك الليلة وكأنها كانت بالأمس ، طلبوا أن أخرج معهم للقيام ببعض الاعتقالات الاحترازية بين الشيوعيين خشية قيامهم بأعمال شغب أثناء إضراب يوم المساواة . قاطعه حياد : ولكنني لست شيوعيا . - هم يدركون ذلك ، ولكنهم كانوا يريدون معاقبة والدك لأنهم يعتقدون أنه شيوعي ، كانوا يريدون أن يؤلموه ، ولكن ثورة والدك فاجأتهم ، ما زلت أذكر بعض عباراته .. حكومة جنوب أفريقيا أشرف منكم .. أبوكم على أبو هويتكم ، لم أشاهد ثورة مثل ثورة والدك ، اعتقدت أنه سكران ، ولما سألته: أنت مسطول يا حاج ؟ شتمنى وقال: أنا أصحا منك ، وحين حاولت أمك أن تستعطف الضابط المسئول نهرها وشجعها على مهاجمتنا ، وقد كان نصيبي بصقة مسحتها بطرف كمي ، ولكن دعاء والدتك على أبنائي آلمني وأزعجني ، هل تعلم أنه ليس لي سوى ابن واحد بين ست بنات ، شعرت حينها أن قطارا سيدوس ابني الوحيد ، قضيت تلك الليلة قلقاً ، كان نومي متقطعا ، ساورني اعتقاد أن مكروها سيصيب ابني ، وعندما حان موعد الإجازة ركبت السيارة متوجها إلى البيت ، كنت أود أن يطير السائق عن الأرض، ولما وصلت البيت كان الذعر يسكن خلايا جسمي ، صحت : أين محمود يا أم محمود .. أين محمود ؟ - رابني صمتها ، نظرت إلى عينيها فلم أجد إلا نظرة جامدة، اندفعت ابنتي الصغيرة نحوي وتعلقت بي ، سألتها : أين محمود ؟ قالت ببراءة : محمود عيان يا بابا . اندفعت كالمجنون إلى الداخل ، وجدته يرقد في الفراش ، كان جسمه يشتعل من شدة سخونته ، حملته بين يدي وتوجهت فورا إلى الطبيب ، كانت زوجتي تعتقد أنه مصاب بالحصبة فحاولت أن تهون الأمر علي ، أخبرني الطبيب أنه يجب إدخال محمود إلى المستشفى لأنه مصاب بالدفتيريا وهناك خطر على حياته ، نذرت وقتها أن أترك العمل في الشرطة إن من الله على ابني بالشفاء ، وها أنت ترى . - الحمد لله على سلامة ابنك . ابتسم أبو محمود ، كنت أعتقد أن والدك مسطول لأنه ثار علينا ، ولكن عندما مرض ابني محمود أدركت أن والدك كان محقا في ثورته علينا ، ولو لم يثر لكان شاذا ومسطولا . أردف أبو محمود : ستوافق على زيارتي في البيت ، أريدك أن تتعرف إلى أم محمود . - موافق بشرط أن يوافق والدي . - ليكن.. تحديد الموعد متروك لك ، والآن هيا بنا إلى العمل. *** في نهاية الأسبوع عاد حياد إلى البيت ، كانت الأسابيع الثلاثة قد مضت ، وكان كل أمله أن يحصل على جواز السفر ، توجه إلى مكتب الداخلية ، قدم الإيصال إلى الموظف ، وكم كان سعيدا حين ناوله الموظف جواز سفر بني اللون ، كاد يطير من الفرح ، سأل الموظف : - الآن أستطيع السفر إلى الخارج ؟ ابتسم الموظف : تحتاج إلى إقرار قبل أن تسافر . - طيب ، أعطني الإقرار لو سمحت . ناوله الموظف ورقة مطبوعة باللغة العبرية ، وقال : - عبئ هذا النموذج على الآلة الكاتبة عند أحد الكتبة في الخارج . خرج حياد بسرعة ، توجه إلى أحد الكتبة الموجودين على الرصيف المقابل ، ناول النموذج للكاتب وطلب منه تعبئته ، طلب منه الكاتب جواز سفره ليأخذ منه المعلومات المطلوبة ، وبعد إتمام تعبئة النموذج ناوله إياه : - الآن باستطاعتك أن تقدم الإقرار إلى الحاكم العسكري . - الحاكم ؟! تساءل حياد بدهشة . ابتسم الرجل وقال : - لا تقلق ، الإقرار ليس مشكلة ، قد تأخذه فورا ، وإن تأخر فلن يتأخر أكثر من ثلاثة أو أربعة أيام . مشى حياد متثاقلا .. يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، لا بد من تقديم الإقرار الآن ، توجه إلى البوابة الغربية التي تطل على مركز الشرطة ومبنى الداخلية ، قدم الإقرار للجندي الجالس عند المدخل ، طلب الجندي منه بطاقة الهوية ، أشار له أن يدخل بعد أن سجل رقمها ، وفي الداخل وجد جنديا آخر ، ناوله الإقرار فطلب منه أن ينتظر قليلا ، وبعد فترة عاد الجندي وناوله ورقة تحمل رقما وقال : عد بعد ثلاثة أيام . قرر حياد أن يأخذ إجازة من عمله .. وفي اليوم الرابع توجه إلى مكتب الحاكم العسكري .. قدم الورقة إلى الجندي الذي غاب فترة وجيزة عاد بعدها ليقول : - الإقرار عند المخابرات ، اذهب إلى هناك بعد أسبوع .. في الساعة الثامنة صباحا . *** ظهرت نتيجة الثانوية العامة ، كانت قوائم أرقام الناجحين ومعدلاتهم موجودة لدى شخص في معسكر الشاطئ، كان هذا الشخص لا يعطي النتيجة لأي طالب إلا بعد أن يدفع له خمسة عشر شاقلا جديدا ، وإذا كان الطالب راسبا يعيد له المبلغ . لم يرغب حياد في دفع هذا المبلغ لأن المفروض أن تقوم مديرية التعليم بتوزيع النتائج على المدارس وألا تترك الأمر بيد تاجر يبتز الطلاب ، ولكن والده حثه على الحصول على النتيجة عندما شاهد قلقه . كانت النتيجة مشرفة ، ولكن القلق لم يغادر قسمات وجه حياد ، فقد بقي المشوار الصعب .. الحصول على الإقرار ، حثه والده على تقديم طلبات التحاق إلى جامعة بير زيت وجامعة النجاح ، قال والده : - يجب ألا ندلق ما في قدرنا من ماء بانتظار المطر . علق حياد : ولكن الأمر يحتاج إلى مصاريف كثيرة . قال الوالد : اطرق جميع الأبواب واختر الأنسب . أطرق حياد مفكرا .. لو يحصل على الإقرار .. هذا الإقرار اللعين .. تصورت أن الأمر بسيط ولكنه يزداد صعوبة . استطرد والده : اعمل اللي عليك وخلِّ الباقي على الله . - ولكن جامعاتنا تفتح شهرا وتتعطل شهرين . علق الوالد : شيء أفضل من لا شيء ، أخشى ألا تحصل على الإقرار فتضيع جميع الفرص . اقتنع حياد بوجهة نظر والده ، قرر أن يتقدم بطلبي التحاق لكل من جامعتي بير زيت والنجاح . مضت أيام الأسبوع بطيئة ثقيلة ، أحس وكأن دهرا قد مر قبل أن يأتي ذلك اليوم الموعود ، ساوره القلق ، ترى ماذا سيحدث اليوم ؟ هل سيقابلني الضابط المسئول ؟ وكيف ستكون المقابلة ؟ وما هي الأسئلة التي قد يطرحها علي ؟ وهل يعطيني الإقرار أم انه سيرفض طلبي ؟ سار بخطى وئيدة متجها نحو الشرق ، لا بد من الذهاب قبل الساعة الثامنة صباحا حتى لا تضيع الفرصة ، وصل البوابة الشمالية لمقر المخابرات في تمام الساعة الثامنة ، قدم بطاقته الشخصية للجندي الجالس عند البوابة ، أشار له الجندي أن يجلس في الخارج حتى ينادي عليه ، مضت الدقائق ثقيلة بطيئة ، كان حياد ينظر إلى ساعته بين الفينة والأخرى ، سأل أحد الشباب الموجودين في المكان : - متى يمكن أن يطلبونا ؟ - ليس قبل العاشرة .. أنت وحظك . دقت الساعة في معصمه معلنة التاسعة ولم يحضر أحد ، الساعة التاسعة والربع ولم يحضر أحد ، جاءه صوت مذياع يعبث الجندي الجالس عند البوابة بمؤشر محطاته ، كول يسرائيل مِ يورشلايم " صوت إسرائيل من القدس " .. جاليه تصاهل " موجات جيش الدفاع " .. هنا دمشق .. أعلنت الساعة تمام التاسعة والربع .. إليكم موجزا لأهم الأنباء ، كان حياد حاضرا غائبا ، صوت المذياع يطن في أذنيه ، هنا دار الإذاعة الإسرائيلية .. إليكم نشرة الأنباء نستهلها بالموجز ، تابع صوت المذيع وهو لا يكاد يعي مما قاله شيئا .. انبعث صوت أغنية عاطفية من المذياع الذي اختلط صوته بصوت لاسلكي انبعث من الباحة الداخلية ، أشار لهم الجندي أن يبتعدوا إلى الرصيف المقابل ، وفي تمام الساعة العاشرة نادى عليهم الجندي أن يقتربوا ، قال : اللي بده يقابل كابتن دان يجيب هويته . سلم حياد بطاقة هويته الشخصية آملا ألا يطول انتظاره ، سلم آخرون بطاقاتهم ، قادهم الجندي إلى الداخل وطلب منهم أن يجعلوا وجوههم في مواجهة الحائط ، قام بتفتيشهم واحدا واحداً ، ثم أدخلهم إلى غرفة ضيقة وأغلق الباب عليهم ، وجدوا بعض الأشخاص في الداخل .. نظر حياد إلى الغرفة .. إنها أضيق من أن تتسع لهم ، جلس البعض على أرضية الغرفة، بينما أخذا البعض ينظر من الشقوق الموجودة في شيش الشباك ، أشعل آخرون السجائر ، أحس حياد أنه يختنق ، بدأ العرق يسيل من الأجساد ، وبعد حوالي ساعة فُتح الباب وأطل الجندي بوجهه : - أحمد حسين . نهض شاب وخرج مع الجندي ولم يعد ، وبعد حوالي ربع ساعة أطل وجه الجندي من جديد : - يوسف أحمد علي . نهض شاب آخر ، نفخ حياد ، كاد الضيق يخنقه ، وبعد حوالي ثلاث ساعات جاء دوره ، أطل وجه الجندي : - حياد محمد نهض حياد مسرعا ، خفق قلبه ، لا بد أن يحصل على الإقرار بعد هذا الانتظار الطويل ، ناوله الجندي بطاقته الشخصية قائلا: - عد بعد يومين . باخت مشاعره ، تصبب العرق من أنحاء جسمه ، خرج متثاقلا ، ود لو يبصق في وجه ذلك الجندي ، لكنه تمالك أعصابه واتجه نحو البوابة الخارجية والأسى يعتصر قلبه .
( 9 ) الإقرار .. السفر .. امتحان القبول في بير زيت ، الجسر .. المطار .. الليسيه باسيه .. نقطة العبور . عمان . . قبرص .. بير زيت .. النجاح .. رام الله .. مجلس الأمناء .. الأولام .. العمل .. حاجز إيرز .. الانتظار اليومي.. العمل أم التعليم؟ هواجس كثيرة كانت تقض مضجعه ، تمزق نسيج الراحة في أعماقه .. هل يحصل على الإقرار ويغادر المنطقة لإكمال تعليمه ؟ أم أنهم سيمنعونه من السفر دون سبب ؟ وإذا قبل في بير زيت فكيف سيكون وضع والده ؟ عبء الحياة ثقيل ، مصاريف الدراسة الجامعية أثقل من الحياة ذاتها .. هل يتخلى عن طموحه ويرضى بالعمل في الداخل ، يجتر الحياة بطعمها القاتم كل يوم ، والده لا يشعره بشيء ، قسمات وجهه محايدة لا يستطيع استقراء شيء منها ، ولكنه إنسان يحس ويشعر ، يرى ذلك القلق الكامن في أعماق والده وكأنه حجر ألقاه طفل وسط بركة راكدة فتولدت فيها مويجات قصيرة الطول قصيرة الأجل سرعان ما تندثر لتعود فتولد من جديد، كان القلق الذي يعشش في أعماق والده مويجات يكبتها والده فتموت وتتلاشى قبل أن تكتمل . وفي صباح أحد الأيام تناول إحدى الصحف اليومية وبدأ يقلب صفحاتها، وفجأة صافح عينيه إعلان يحدد الدفعة الأولى من الطلاب المقبولين في جامعة بير زيت ، تنقل ببصره بين الأرقام ، هتف فجأة : - انظر يا والدي .. لقد قبلت في جامعة بير زيت .. في الكلية التي أريدها . - مبروك . قال والده ثم أردف : عليك الآن أن تسرع في إتمام إجراءات التسجيل . نبت خاطر مزعج في أعماقه ، قال بصوت خفيض : - ولكن ماذا عن الرسوم ؟ - ولا يهمك تتدبر . *** بعد إتمام عملية التسجيل قرر أن يعمل أطول مدة ممكنة حتى يستطيع أن يوفر بعض المال من أجل الدراسة في الجامعة . توجه مبكرا إلى الأولام ، وجد أبا محمود هناك فصافحه بحرارة ، سأله أبو محمود : - ماذا فعلت ؟ هل حصلت على الإقرار ؟ - لا . أجلوني أكثر من مرة . - حياد .. يجب أن تضع في اعتبارك أنك لن تحصل على الإقرار ، كنت أود أن أقول لك أنك لن تحصل عليه فأنا أعرفهم جيدا ، ولكني لم أشأ أن أضايقك . - ولكني قبلت في جامعة بير زيت وسأدرس هناك ، سأظل زيتونة تضرب جذورها في أعماق هذه الأرض ، حتى لو حصلت على الإقرار ، سأظل أتنفس ذكرياتي هنا إلى أن أعود ، أشعر أنني جزء من هذه الأرض ، شجرة من أشجارها ، صخرة من صخورها ، قطرة من ينابيعها ، نسمة من هوائها . - آمل أن توفق في دراستك ولكن .. لا تنس أنك وعدتني أن تزورني في البيت .. أم محمود تريد أن تتعرف عليك . - إن شاء الله . - والآن هيا إلى العمل . انطلق حياد بحيوية ونشاط يعيد ترتيب الأشياء ، يمسح الطاولات بقطعة من القماش ، بدت الطاولات أكثر صفاء من قبل، والستائر تتراقص مع نسمات الريح التي تداعبها برفق، أطل من النافذة ، بدا له البحر لوحة جميلة متناسقة الألوان ، تداخل اللون الأزرق مع اللون الأخضر ليحيط بالصخور البنية أو المائلة إلى السواد ، بدت الصخور بقعة مظلمة يحاصرها الضوء من كل جانب ، الموجات تنساب بحنان ، تداعب رمال الشاطئ برفق ، أحس طعم الحنان الذي كانت تحمله أصابع أمه حين تداعب خصلات شعره أو أجزاء من جسده ، كم هو حنون ذلك البحر في هذا الصباح الرائق الندي، اقترب من البوفيه ، ود لو يتجرع كأساً من إحدى الزجاجات ، ولكنه لا يدري ما هو المشروب الأفضل ، تناول الزجاجات واحدة واحدة ، أخذ يمسحها برفق ويعيدها إلى مكانها في هدوء . أدرك أبو محمود رغبته ، ابتسم ، ربت على كتفه : - ليس الآن .. بعد أن تتناول طعام الإفطار . *** جلس الاثنان إلى المائدة ، وضعا أمامهما كأسين وزجاجة من الويسكي، تناول حياد رشفة من كأسه ، لم يتقبل الطعم في البداية ، ولكنه عاد فتناول رشفة أخرى ، سكب له أبو محمود جرعة أخرى سكبها في جوفه دفعة واحدة ، وما إن انتهى من تناول طعامه حتى قام ليواصل عمله مرة ثانية . أحس وهو يبدأ عمله من جديد أن جسده بدأ يشف تدريجيا شفافية غريبة كست الأشياء من حوله ، أحس أن الأشياء من حوله ليست غريبة عنه ، كانت أواصر القربى تشده إلى الكراسي والطاولات والستائر والبوفيهات ، تأمل الجدران بلونها الزاهي ، الصالة تكاد تحمله على أجنحتها ، ود لو يطير ، يحلق عاليا في الفضاء ، يجعل من أحلامه وطموحاته أجنحة تحلق به ليستشرف هذه الأرض عن بعد ، بدت آماله أكبر من أن تتسع لها الكرة الأرضية ، حتى الفضاء بدا أضيق من أن يتسع لما تجيش به نفسه .. آه يا حلمي الكبير .. متى تتحقق أخوة الإنسان للإنسان ؟ متى تتاح الفرص لكل الناس على قدم المساواة .. لكل حسب كفاءاته وقدراته ؟ متى يتوقف المنافقون والكذابون والغشاشون عن سرقة فرص أصحاب القدرات الحقيقية ؟ هذه الحياة تتلفع بعباءة سوداء من النفاق والزيف ، تضع الرجل في غير المكان الذي يناسبه تعطي المنافق مكانا أكبر من قدراته فيتسلط وينشر النفاق والكذب ، يستطعم النفاق لأنه السلم الذي أوصله إلى مكان يستحقه غيره , آه يا حلمي الكبير .. آه ، لقد سرقوا بالغش في الامتحانات فرصا كانت من حقي ، المنح التي تقدمها الوكالة، المنح المخصصة للطلبة الأوائل في بير زيت، ضاع تعب الأيام وسهر الليالي في لحظة غش تافهة ، ولكني ما زلت أحلم أن يتغير هذا العالم .. أن نحفر قبراً أبديا للنفاق والخداع والغش ، أن تسود أخوة حقيقية بين البشر ، أن يتوقف الناس عن قتل بعضهم ، أن تتحول السجون إلى مدارس ورياض أطفال ، أن تصبح النصب التذكارية للجنود المجهولين تماثيل لتكريم أولئك الذين بذلوا جهودهم في سبيل سعادة الإنسان ونشر السلام . ابتسم ، اتسعت ابتسامته ، تطورت إلى ضحكة بصوت مسموع ، رددت الصالة صوت ضحكته ، اعتقد أن الصالة تشاركه الضحك ، بل تشاركه أحلامه وطموحاته .. ياه .. حتى أنت أيتها الجدران ، أيتها الطاولات والكراسي تدركين وتشعرين ، كنت أظنك جامدة بلا أحاسيس فإذا أنت أكثر حساسية وشفافية مني ، تضحكين عندما أضحك وتحزنين عندما أحزن ، آه يا حلمي الكبير آه ، ظننت أنني وحيد في هذا العالم فإذا أنا همسة موسيقى حالمة في سيمفونية خالدة أبدية ، زهرة تتفتح باستمرار ، نحلة لا ترتوي من رحيق الحياة ، آه يا قلبي الكبير .. متى يقر لك قرار ؟ متى تصل إلى شاطئ الأمان ؟ متى ؟ اقتربت الشمس من المغيب ، اكتسى الأفق بلون أرجواني توشح ببعض الغيوم الرمادية ، أطلت الشمس من ورائها مثل غانية تستدرج عشيقها كي يتبعها إلى خدرها ، أحس وكان الشمس تغمزه بعينها أن اتبعني إن كان حلمك كبيرا حقا ، ضحك بصوت مسموع وقال : أكبر منك !التفت أبو محمود نحوه ، ظن أن به مَسّاً من السكر ، ابتسم حياد : - كنت أتحدث إلى الشمس . قطب أبو محمود ما بين حاجبيه : - ماذا ؟ ! ثم وضع يده على جبهة حياد : - هل أنت مريض ؟ هل تشعر بالتعب ؟ - لم أشعر بالسعادة كما أشعر بها اليوم ، فأنا أقترب من عبور البوابة الكبيرة للحياة ، أود أن أغير هذا العالم وأن أُطَهِّره من الشر والظلم . - لا تحلم كثيرا حتى لا تقتلع نفسك من أرض الواقع ، سيبقى الظلم والشر طالما بقي البشر . - ولو يا أبو محمود ! الإنسان أطيب مما تتصور . *** صدحت الموسيقى فرددت الجدران أصداءها ، أصابته سهام الموسيقى المرتدة عن الجدران ، أحس أنه يترنح تدريجيا ، تكاد تحمله الأنغام فوق أجنحتها ، تحرك وكأنه يطير بين الزبائن ، كان يقم الطلبات وقد علت محياه ابتسامة لطيفة ، أحس أن تكاملا من نوع ما يربط بين موجودات الصالة ، من رجال ونساء وكئوس وأكواب وملاعق وصحون وطاولات ، حتى الجدران ظهرت أمام عينيه وكأنها تشارك بعض الفتيات الرقص ، شعر أن النوافذ عيون تتلصص خلسة إلى ما يجري داخل الصالة وكأنها استطابت المنظر فسمحت لنسيم البحر الندي أن يدخل ليلطف من حرارة الجو ، أو ليشارك الراقصين رقصهم ، صحيح أنهم يرقصون بطريقة مغايرة .. أين هذا الرقص من الرقص الشرقي .. ولكن الإنسان هو الإنسان في شرق العالم وغربه .. شماله أو جنوبه .. يفرح ويحزن .. يحب ويكره.. تصفو له الدنيا فيبتسم ، وتتكدر فيعبس .. هكذا هي الدنيا .. منحنيات بيانية من السعادة والتعاسة ، وها أنا أقف اليوم على قمة منحنى السعادة .. آه يا حلمي الكبير .. كم أود أن أظل متربعا على تلك القمة وألا أهبط إلى ذلك السفح الذي يقودني إلى المنحنى الآخر . غمزته فتاة تطلب كأسا من الويسكي : - عود آخاد " واحد آخر " ابتسم قدم لها الكأس .. مسته بجسدها .. شعر بلهب يجتاح كيانه من الداخل ، احمرّ وجهه ، ابتسمت : - مُوتِك " لطيف " مالت ناحيته ، استقر نهدها الأيسر على ساعده الأيمن مثل صاروخ سقط في منطقة آهلة بالسكان ولكنه لم ينفجر ، داهمه ذعر همجي .. استيقظت روحه الشرقية ، ابتعد عنها وذرات كيانه في هرج ومرج ، اصطخبت الحياة في عروقه .. لاحقته بنظراتها ، غمزته بإحدى عينيها .. كم هي وقحة تلك الفتاة .. الشمس الغربة .. أدرك أنها تطلب منه شيئا لا يود أن يمنحها إياه .. بكارته ، فهو يشعر أن للشاب بكارة مثل الفتاة ، يجب أن تظل مختومة بالشمع الحمر ، لا يفضها إلا الشريك الآخر حين يأتي الوقت المناسب ، وسيأتي ذلك الوقت الذي يستطيع فيه الاختيار .. أما أن تجره غمزة أو ابتسامة إلى خدر غانية فهذا من رابع المستحيلات . *** الجليل .. ذلك الشموخ الرابض في قلب فلسطين يطل من بعيد ، بينما كانت السيارة تغذ الخطى في طريقها إلى زهرة الجليل .. إلى الناصرة ، تلك المدينة التي تتربع فوق عرش الأرض لتعانق السماء .. التفت إليه أبو محمود قائلا : - سترى في طريقك الكثير الكثير من القرى العربية مثل مَجِدُّو وأم الفحم ، ما زال الطابع العربي يكسو الأشياء على الرغم من تغييرهم لبعض الأسماء والمسميات . كان حياد شارد الفكر ، فقد تعلق قلبه بالناصرة ، لطالما هامت روحه في شوارعها دون أن يراها ، كان يحب تلك المدينة كما يحب مدينته التي هُجِّرَ أهله منها ، كثيرا ما حدثه أبوه عن الناصرة رمز الشموخ والتحدي ، تلك المدينة التي تعلقت بأهلها فلم يغادروها كما فعل سكان غيرها من المدن العربية ، لذلك بقيت جداراً صلدا في وجه الاجتياح ، شوكة في حلق من أرادوا طمس الملامح العربية لهذه الأرض فأنشئوا الناصرة عيليت " العليا"، ولكن يد الناصرة العربية بقيت هي العليا ، الناصرة ، المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ، يوسف النجار ـ النخلة .. المخاض .. متى تأتي أيها المخاض الكبير ؟ متى ؟ استمرت السيارة في طريقها وكأن الطريق لن تنتهي ، كانت القرى العربية تطل عن بعد على جانبي الطريق والناصرة تعانق الأفق .. لا بد لمن يريد الوصول إليها من التعلق بأذيال الأفق القريب البعيد ، ود حياد لو يقضي إجازته الأسبوعية في ضيافة أبي محمود ، كان يريد أن يتعرف على ذلك الرجل خارج تجربته معه ، يريد أن يعرفه في بيته وفي مدينته التي يسكن فيها ، لا بد للسيارة من الصعود في طريق ضيق يرتفع بحدة حتى تستطيع دخول الناصرة ، خفق قلب حياد ، تقلص جسده ، ألقى نظرة على الوادي السحيق الذي تخلصت منه السيارة قبل وقت قصير ، أغمض عينيه بسرعة .. ماذا لو فقد السائق السيطرة على السيارة ؟ ماذا لو هوت بنا السيارة إلى عمق هذا الوادي ، كان يحس بأنه زهرة لم تتفتح بعد ، ولا يريد أن تأتي يد عمياء تقتطفها قبل الأوان ، فقد كان يشعر أن يدا عمياء تلاحقه وهو يفر منها باستمرار .. ترى هل تستطيع تلك اليد العمياء أن تمسك به هنا أثناء صعوده إلى الناصرة لتجره إلى قاع الوادي . لمست يد أبي محمود كتفه برفق : - كدنا نصل . - عاد إليه هدوؤه ، فقد غارت تلك اليد العمياء بعيدا إلى قعر الوادي السحيق ، وها هو يشعر بالطمأنينة .. سيرى الناصرة وتراه ، سيعانقها بنظراته التواقة إليها وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد . - توقفت السيارة ، دعاه أبو محمود إلى النزول ، سارا على الرصيف ، شاهد حركة غير عادية ، وكأن المدينة تعيش حالة تعبئة قصوى .. ترى ، ما الذي يجري هنا ؟ - ابتسم أبو محمود وكأنه سمع تساؤله : إنهم يستعدون لافتتاح المهرجان السنوي للعمل التطوعي الذي تقيمه بلدية الناصرة . *** عند وصولهما إلى البيت استقبلته أم محمود بمودة غامرة ، فقد عرفته فورا ، نادته باسمه وكأنها تعرفه منذ زمن بعيد : - أهلا يا حياد يا ابني ، نورت بيتك ومطرحك . مد حياد يده مصافحا ، اندفع طفل لم يتجاوز السادسة بعد : - أنت حياد ؟ لماذا دعت أمك علي ؟ ابتسم حياد ، ربت على كتف الطفل ، غمز بعينه ضاحكا : - اسأل بابا يا حبيبي . تنحنح أبو محمود : - خلاص عاد .. خلونا نقعد وبعدين بنحكي . دخل أبو محمود حجرة الضيوف ، تبعه حياد ، بينما دخلت أم محمود إلى المنزل لتعود حاملة أكواب العصير المثلج ، قدمتها إلى حياد قائلة : تفضل . تناول حياد كأسا ، بدأ يرتشف الشراب في أناة وهو يختلس النظر إلى أم محمود، التصق محمود بأبيه بينما طبع والده قبلة على خده ، قال أبو محمود وكأنه لاحظ نظرات حياد : الضنا غالي ، لقد قدرت موقف والدك ووالدتك وخصوصاً بع مرض محمود ، معزّة الابن تظهر في المواقف الصعبة . علقت أم محمود : كدنا نفقد الولد لولا لطف الله ، وقد نذر أبو محمود أن يترك العمل في الشرطة إن شُفي محمود ، وبالفعل حصل ، والفضل كله يرجع إلى تلك الليلة ، كانت تجربة قاسية كما حدثني أبو محمود ، لم يشهد في حياته أصعب منها ، كانت دعوات أمك لسعات سوط على جدران قلبه . التفت أبو محمود نحوها قائلا : - حضري لنا طعام العشاء ، سأذهب أنا وحياد لمشاهدة المسيرة السنوية التي تسبق افتتاح مهرجان العمل التطوعي، تأبط أبو محمود ذراع حياد وأمسك يد ابنه محمود باليد الأخرى ، خرجوا إلى ساحة العين حيث مكان التجمع لبدء انطلاقة المسيرة ، كانت الشوارع شبه خالية إلا من بعض رجال الشرطة الذين يسيرون هنا وهناك ، بينما كانت سيارات حرس الحدود تمر مسرعة وكأنها تستطلع الأجواء ، كانت أبواب المحال التجارية مغلقة ، ظن حياد أن حظرا للتجول فرض على المدينة ، سار ثلاثتهم بسرعة ، فقد اقترب موعد انطلاق المسيرة ، وحين وصلوا إلى المكان أصيب حياد بالذهول .. بحر زاخر من البشر .. بعضهم يحمل وجها مألوفا والبعض الآخر له ملامح غريبة، ولكن ملامح مشتركة كست وجوه الجميع، الاهتمام والتحفز كانا باديين على الوجوه ، وفجأة أعلن أحدهم عن بدء المسيرة ، كان الجميع مصرين على عدم إتاحة الفرصة للشرطة للتدخل، في مقدمة المسيرة سارت الوفود الأجنبية من مختلف دول العالم، تلتها وفود الضفة الغربية وقطاع غزة ، ووفود المدن العربية واليهودية ، والآلاف من أبناء الناصرة والقرى العربية المجاورة ومن أبناء الضفة والقطاع ، رفرف قلب حياد بين ضلوعه ، كانت الناصرة أشبه بمدينة محررة .. دولة شامخة .. اقتربت الناصرة من السماء فأصبحت أقرب إلى عين الله .. لبست المدينة حلة قشيبة .. كانت عروسا تنتظر عريسها ، اندفع ذلك السيل البشري وئيداً وئيدا ، بينما كانت أسطح المنازل المطلة على الشارع الرئيسي في الناصرة تعج بالناس ، لعلعت الزغاريد في الجو .. كانت كاميرات الفيديو تسجل تلك اللحظة الباهرة ، التفت حياد خلفه آملا أن يشاهد نهاية المسيرة فلم ينجح في ذلك ، كان البشر سيلا يتدفق من عين لا تنضب ، صاح حياد وقد ارتعش قلبه : - أين الشرطة ؟ أين حرس الحدود ؟ هل يستطيعون أن ينظموا الناس أكثر من هذا ؟ ما رأيك يا أبو محمود ؟ ابتسم أبو محمود : - إرادة الإنسان تفتت الصخر يا حياد ، لقد بدأت مهرجانات العمل التطوعي متواضعة بسيطة ، لم يكن أحد يتوقع نجاحها ولكنها نجحت ، لقد حاصروا الناصرة بعد نجاح الجبهة في الانتخابات ومنعوا عنها الأموال ، لكن رئيس البلدية المنتخب لم يدر لهم خده الأيسر ، بل صفعهم أقوى من تلك التي وجهوها له ، ابتدع فكرة العمل التطوعي للتغلب على العجز المالي ، تبرع الناس بالطعام والجهد ، بالمال والعرق ، استطاعوا بناء المشاريع التي كانت المدينة في حاجة إليها ، ظنوا أن المهرجان الأول فورة حماس لنجاح الجبهة ، لكن المهرجان الثاني أكد أصالة هذا الشعب وقدرته على العطاء ، آه يا حياد ما أجمل العطاء ! أن تعطي دون أن تنتظر الجزاء يجعل لحياتك معنى . وصلت طلائع المسيرة إلى الملعب البلدي ، كان في الانتظار عدد من منظمي المهرجان الذين يحملون شارات خاصة ، بدأ الضيوف يحتلون المقاعد الموجود في الساحة الواسعة ، كانت هناك منصة عالية جلس عليها رؤساء الوفود إلى جانب رئيس بلدية الناصرة ، ثم بدأ عريف الحفل يقدم فقرات الاحتفال ، تحدث توفيق زيّاد عن فكرة العمل التطوعي ثم ختم كلمته مطالبا الحضور بالتبرع لتغطية نفقات المتطوعين ، انهالت التبرعات.. بعضها ضئيل وبعضها أكبر، لكن مغزاها كان أكبر من أي شيء آخر ، ثم تحدث رؤساء الوفود .. وفد الكومسومول الروسي، وفد الشبيبة القبرصية، لجان العمل التطوعي في أمريكا ، ثم تحدثت امرأة من مشوهي قنبلة هيروشيما ، فقدت نعمة البصر ، جاءت من اليابان لتعبر عن تضامنها مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره ، ثم عرضت على الحضور ، بواسطة أحد مرافقيها ، ألبوما يحوي صورا تسجل حياتها قبل وبعد إصابتها بالإشعاع النووي ، ولكنها مع ذلك تشبثت بالحياة .. تؤيد المظلومين في دفاعهم عن أنفسهم .. استمرت الكلمات حتى الساعة العاشرة ليلا حيث انتهى الحفل على أن يلتقي المتطوعون في صباح اليوم التالي للمشاركة في بناء الناصرة، مدينة السلام ، رمزا للتعاون بين الشعوب . قرر حياد أن يساهم بيوم عمل تطوعي في الناصرة ، ضحك أبو محمود وقال : - كنت أتوقع أن أريك معالم الناصرة . - ولكني سأترك بصماتي فوق قلب الناصرة ، ألا تشاركني يا أبا محمود ؟ - بل أشاركك ، وأم محمود ستشارك أيضا . دهش حياد : - أم محمود ؟ وماذا ستفعل ؟ قهقه أبو محمود : - ستساهم في إعداد الطعام الذي تبرع به المواطنون ، وإلا مات المتطوعون من الجوع ، أليس كذالك ؟ ضحك حياد غامزا بعينه : ومحمود ؟ قال محمود بلهجة احتجاجية : - أنا بدي أشارك ، بدي أقدم الماء والعصير للمتطوعين . ربت حياد على كتفه : - تعيش يا محمود . *** في صباح اليوم التالي أصبحت الناصرة خلية نحل تمتلئ بالنشاط والحيوية، الشوارع تعج بالبشر من مختلف الأشكال والألوان ، جنسيات مختلفة ، ولغات مختلفة ، لكنهم متفقون على العطاء ، العطاء الذي يجعل لإنسانية الإنسان معنى وأي معنى .. تم تقسيم المتطوعين إلى فئات متجانسة ، هذه فرقة رام الله ، وتلك فرقة بير زيت ، وهذه فرقة خان يونس ، وفرقة النجاح ، وهكذا كان كل فريق في مباراة مع نفسه ومع غيره ، كان يحاول أن ينجز أكبر عمل ممكن في أقصر وقت ، وجد حياد نفسه وبصورة تلقائية ينضم إلى فرقة خان يونس ، ضحك أبو محمود وقال : - حياد ، هل نسيت أنك ضيفي ؟ رد حياد : - نعم ، ولكنها روح الفريق ، أنا ضيفك وضيف الناصرة ، ولكن خان يونس مسقط رأسي، ولا بد أن أنضم إلى فريق بلدي ، صحيح أنني من يافا أصلا، ولكني أعشق خان يونس كما أعشق يافا فلا تستغرب ، لو كنت مكاني ، ألا تفعل مثلي ؟ ابتسم أبو محمود : - بالتأكيد ، وسأنضم إلى فريق خان يونس لأنني لا أقل عنك في عشقي لخان يونس ، امتزج هواؤها بدمائي وذكرياتها بعقلي ، وستظل أم محمود مع متطوعات الناصرة وكذلك محمود . استمر حياد يعمل دون كلل حتى انتصف النهار وحان موعد الغداء ، كان ما أنجزه فريق خان يونس يثلج الصدر ، فقد تم بناء بعض الجدران الاستنادية وطلاء حجارة الجبهة في الشارع الرئيسي باللونين الأحمر والأبيض . وبعد الغداء انطلق الجميع إلى العمل وهم ينشدون الأناشيد الوطنية التي تشعل النفوس حماسة .
#محمد_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قرار مجلس الأمن 1701 والحرب القادمة
-
قراءة في البيان السياسي للمؤتمر الناصري العام
-
حساب المثلثات في الشرق الوسط والعالم
-
أحلام بسبسة والشرق الأوسط الجديد
-
الكف تناطح المخرز - رواية / 7
-
ثورة يوليو شكلت ضمير الأمة
-
إسرائيل والهداف غير المعلنة في لبنان والمنطقة
-
الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د. محمد أيوب / 6
-
الكف تناطح المخرز - رواية ، 5
-
الكف تناطح المخرز - رواية ، بقلم : د . محمد أيوب - الفصل الر
...
-
الكف تناطح المخرز - رواية /3
-
1 / 2الكف تناطح المخرز - رواية
-
الطيارون الإسرائيليون واللعبة القذرة
-
المخدرات وسيلة لتدمير المجتمعات النامية
-
حول وثيقة الأسرى
-
هجران
-
الكوابيس تأتي في حزيرا ن 23 / 24 / 25
-
الانتخابات الفلسطينية في الميزان
-
الكوابيس تأتي في حزيران 21 / / 22
-
الكوابيس تأتي في حزيران 19 / 20
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|