سميرة المانع وراويتها الجديدة (شوفوني..شوفوني)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابحث عن العراق الضائع في مدن العالم
حاورتها :فاطمة المحسن
تنهي سميرة المانع روايتها الاخيرة (شوفوني ..شوفوني) من حيث انتهى اليه عهد مضى،فبطلتها التي تتسمع اخبار العراق، ترى بلدها عبر مقال في جريدة بريطانية، تتصدره صورة ضخمة للرئيس يقبع تحتها فلاح حاف وزوجته المتعبة من الجوع. مفارقة جديرة بالانتباه في هذا البلد الذي تبدو فيه المفارقات أقرب الى صندوق عجائب يدهش من يفتحه،ويبقيه في حيرة من أمر تصنيفه، الى أي نوع من عهود الظلم ينتسب؟ ألزمن الرق، ام عصور الفاشية الغربية، او ممالك الاستبداد الشرقي القديمة؟. غير ان بطلة سميرة المانع ترى في النهاية ان كل كائنات الارض تملك رغبة الاعلان عن نفسها، ولكن ليس على ذلك النحو الذي يمارسه شخص يملك القدرة على انهاء وجود الاخرين من أجل تكريس وجوده. المرأة في روايات المانع هي البوصلة الحساسة التي تهجس بالحالة العراقية، وبما تضمره من قمع تصاعد في العقود الاخيرة حيث لم يعد بإمكان الناس التفاهم معه او استيعابه. (شوفوني ..شوفوني) مع كل هذا، ليست رواية متشائمة، فهي تبحث في اطوار تحول العراقي بين بلدان العالم بعد ان أضطر مغادرة بلده، بحثا عن عراقه الضائع وتواصلا مع البشر من كل الاديان والقوميات.
حول موضوع الرواية كان لنا حوار مع الكاتبة التي أصدرت مجموعة من الروايات: (الثنائية اللندنية) ،(حبل السرة) ،(السابقون واللاحقون) ،(القامعون).
س ـ لنتكلم عن عنوان الرواية(شوفوني ..شوفوني) مادلالته؟. وهل بتصورك يشمل نقطة مركزية في الرواية، او هو يشمل موضوعا من بين مواضيع تعالجها، ولكنه تقدم لقربه من الاستخدام الشعبي، او لطرافته او لجماله؟.
ج: لعل في السؤال تفاؤلا كبيرا فهو يريد ان اتحدث الان، بهدوء وروية، وفي خضم معاناة العراق، عن مغزى عنوان رواية(شوفوني … شوفوني)، وهل هو استخدام شعبي أم فيه من الجمال والطرافة؟.
لحسن الحظ تسعفني الرواية نفسها بالذات، فقد اشتملت على مغزى معظم ما يتحدثون عنه الآن بضجيج الاكتشاف، في وسائل الاعلام وفي صالات البيوت، وقد ضمت صفحاتها ما احتاجه الجواب منذ زمن بعيد. ظهرت (شوفوني..شوفوني) في وقت عزّ فيه المساعد أو النصير من أجل التطرق و المشاركة والتعاطف في النقاش، حول الحالة العراقية المستعصية كمريض ميئوس منه. القضية متروكة مهملة لمن يجازف من الكتاب والمعنيين بالدخول في تفاصيلها واقبيتها ودهاليزها والتعرض للأخطار، بسبب أجهزة الامن والاستخبارات المراقبة النشطة، كي تضعه في القائمة السوداء، والتعتيم عليه بجهودها السرية الخبيثة، عقابا له على التحرش بالحالة العراقية وبصدام حسين بالضبط. يجب ان يتركا وشأنهما، في رأيها، بدلا من فضح دجلهما الدائم، فوجودهما مصدران مفيدان لهم يتاجرون بهما، مع غيرهم، ويحصلون من المأساة العراقية على الخير العميم، كما يعرف العدد الكبير من المراقيبين.
فُرضت عليّ،كما فرضت على معظم كتاب الدول الشمولية من قبل،ضرورة المعالجات المتحدية، وجها لوجه، للحالات الظالمة المتسلطة علينا،بحجج وشعارات كثيرة،والمهملة بسبب الخوف من مرتكبي جرائمها. فمنذ عام 1979، وصدور رواية (الثنائية اللندنية)ثم تلتها (حبل السرة)و(القامعون) ثم اخيرا (شوفوني ..شوفوني)، أظهرت هذه المواضيع علنا وعلى المكشوف كقضية مصيرية تستوجب معالجتها. لامن أجل الرغبة في انتماء سياسي او حزبي أو محبة في جاه أو سلطة،بل كنت أعبر عن مجرد شعور مواطنة متواضعة من المنطقة العربية تشاهد كيف أستعملت السياسة من أجل النذالة، القسوة، الانانية، الاكاذيب،المؤامرات والروح العدواني..وكيف استنفذت وبددت ثروات وطاقات الامة، مع صمت تام،بل رضى من قبل البعض،طمعا بالغنيمة او خوفا من ان يطالهم العقاب.
كديدني على مايبدو ،الان،لايستطيع احد ان يجرني بسهولة كي أتحدث عن القضايا الفنية في العمل الادبي حسب، كيف أبتعد عن حومة ما يجري،خصوصا في الوقت الراهن، وأنا وغيري نشاهد الواقع أمامنا ملموسا متجسدا بزوال تماثيل وصور من كان يخيفنا ويرعبنا زاعقا في كل زاوية من العراق والمنطقة كلها بما معناه: (شوفوني..شوفوني) أي : انظروا لي أنا، أنظروا لي وحدي فقط، لاغيري! بل كونوا عبيدي وخدمي. لاأتصور بعد الذي حدث أنني في حاجة للشرح حول المقصود والموحى منه في عنوان الكتاب لمن يقرأه، مع وجود قضايا أخرى لابد منها في العمل الروائي ككل. بل ربما سيؤيدني من تحسس المشكلة اليوم وقبل هذه الساعة ، فنحن مشدودون لا هّم لنا، منذ أكثر من شهر، سوى متابعة سقوط نظام(شوفوني.. شوفوني) المريض بداء (الأنا) المغرور النرجسي بالوسائل المسموعة والمرئية،عسى ان نستخلص ونستفيد من الدرس العميق كعظة وعبرة لنا. يفهم القاريء مغزى رواية(شوفوني ..شوفوني) ويساعده مايراه أمامه وما كنت أريد قوله منذ سنين،هذا إذا لم يكن قارئا غير عابيء أو متجاهلا الكارثة متقصدا،فالصورة واضحة للعيان منذ أمد بعيد،لمن يريد الفهم حقا. يكفي منظر مشاهد تماثيل وصور صدام حسين المتفشية كبثور الجدري على وجه العراق طولا وعرضا، ليدرك عظم خطر الهوس بحب الذات، وانتفاخ الاوداج بجنون العظمة من دون خجل او حياء. نظام من هذا النوع يتوارى غير مأسوف عليه، إلا من قلة منتفعة منه على حساب الملايين المحرومة، متهاويا كلعب أطفال بالدمى بمجرد أن شوهد تمثاله يتحطم بأيدي فؤوس أبناء الشعب المنكوب بداية، في ساحة الفردوس يوم 9/4/2003 ،لتسرع بالاختفاء بعد ذلك كل مظاهر ومحاولات الايحاء بالعظمة والقوة الغاشمة المتشامخة، ليصبح عدم وجوده مجرد ضغظ على زر تلفزيون.
2ـ بطلة الرواية تتحرك بين امكنة مختلفة : العراق ،لندن، ومابينهما أسبانيا(الاندلس). المكان الاخير يتوسط مغتربين للبطلة،حيث وجدت نفسها غريبة في بلدها لا لأسباب سياسية حسب،بل لأسباب اجتماعية. البعد الاجتماعي في الرواية يتواشج مع بعدها السياسي. هل تجدين نفسك وتجربتك كعراقية بين هذين المغتربين:الوطن وبريطانيا؟. وهل تعكس الرواية غربتك عن بلدك الذي عاث فيه التأخر والامية والعنف فسادا؟.
ج : أتصور غربتي قديمة منذ أن وعيتُ مبكراً الظلم والنفاق الاجتماعي حولي. لم تكن وليدة خروجي من العراق أو العيش ببريطانيا أو اسبانيا . لولا أني تعلمت شيئا مفيداً من حركتي بين هذه البلدان، ألا هو أن الإنسان متشابه في كل أنحاء العالم، وكلما تعرفنا على قوم آخرين يزداد هذا الشعور رسوخاً. بهذا التصور الآن، ليس لدي، كما كنتُ في السابق، ما يخيفني من البشر، على الرغم من أني أجهل لغاتهم ولم أعتد على تقاليدهم . فهم، باعتقادي، متشابهون بالعواطف والأحاسيس، حتى صاروا أكثر قربا مني وكأنهم من معارفي وأصحابي . أتصور أن العالم يصبح مفتوح الذراعين لمن يفهمه بهذه الصورة ، بمعنى آخر أنه أرض الله الواسعة المذكورة عند الأنبياء والحكماء. أستطيع الآن، على ما أظن، أن أتكيّف معهم ، سواء أكانوا من الشرق أو الغرب. أحبهم وأعيش بينهم، حتى لو لم أكن اعرفهم كأفرادٍ بالأسماء .
س ـ أين تضعين روايتك(شوفوني ..شوفوني) من أعمالك الاخرى؟ وهل هي خطوة متقدمة على ماثابرت على الكتابة فيه، وهو الحوار بين البشر في أماكن وحضارات مختلفة؟.
ج: يخيل لي أني أجبت عن السؤال في الجواب السابق أعلاه.
س ـ تتطرقين في هذه الرواية الى مواضيع مثل القتل والتهجير والاعتقال في العراق، وهذه المواضيع من النادر ان يتجاهلها القص العراقي سواء في الداخل او الخارج. هل بتصورك ان الرواية العراقية تحتاج الى فترة هدوء،كي تستعيد قدرتها على تجسيد الحدث على نحو يخلو من التسجيل المباشر؟. أو ان بمقدور البعد السياسي والاجتماعي اتخاذ مسارات في المستقبل أكثر تعالقا مع الحاجة الى تعبيرات فنية جديدة؟.
ج : في المواضيع التي ذكرتها يهمني أن تأخذ الفكرة مجراها ببساطة وعفوية، لا أُريد أن أكون أكثر طموحا من بابلو نيرودا ، الحائز على جائزة نوبل للآداب، والشاعر البسيط ظاهرياً، عندما ترك موضة الكتابة السريالية وكان بباريس، لأنه بدأ يسجل الآم شعبه البريء العاري في تشيلي الحزينة. مواضيع القتل والتهجير والتعذيب والاعتقال في العراق كثيرا ما تجاهلها القص العراقي في البداية. كانت فترة الثمانينات تزخر بتشجيع كتابات مبتعدة عن المواضيع الخطرة، والاهتمام بخلط الأوراق خلطا ( فنياً ) للتمويه والحجب والتغطية على العلة الأصلية. من يتطرق للمواضيع الممنوعة آنذاك، أو لا يتجنبها بغض النظر والكتمان ، كما فعل البعض، تمنع كتبه من قبل الرقابة الحكومية ويُحارب بشتى الطرق الغريبة والتي لابد أن يأتي ذكرها يوما من أجل التأريخ أيضاً. وكما تعرفين المواضيع المذكورة لم أمرَّ بها أو أتعرض لها شخصياً. لم تكن لي مصلحة في التطرق لها سوى كشف الجرائم ووضع النقاط على الحروف لتُسمع شكوى المظلوم والضعيف ومن لا حول له ولا قوة، بأقل قدر من الغموض والتمويه، إذا كان ذلك ممكنا. مسؤولية الكاتب تظهر كما أفهمها في هذه المرحلة. تصورت أننا سنكون كتّاباً مقصرين خائبين إذا لم نسجل معاناة قومنا بعناية وإخلاص باحثين مفتشين عن قيم خلاص، كثيرا ما أُهدرت وحُرموا منها، ونادراً ما اختلفت عليها الإنسانية جمعاء.
ـ ظهر موضوع القمع في عنوان ومضمون روايتك (القامعون)مثلما ظهر في مضمون روايتك الجديدة، فهل لك ان تدلينا على مايعنيه لك كامرأة ؟.فانت ولدت في الزبير،لعائلة تحوي متعلمين ومثقفين من الرجال، وتزوجت بمثقف، وسافرت ودرست وفق مشيئتك، فما الذي بقي من أثر للقمع في منطويات ذاكرتك كبصراوية؟.
ج : أشكّ أن بإمكان امرأة في العالم كله أو في المنطقة العربية بالذات أن تدعي أنها نجت من القمع تماماً ، هيهات . يكفي أن أقول، حسب تجربتي التي مررتُ بها، أننا في المنطقة العربية عموما لا زلنا نتصرف تجاه المرأة وكأننا نعيش في القرن الثامن عشر. المرأة الكاتبة تتحدث كما تحدثت الروائية البريطانية جورج اليوت أو غيرها . أقول هذا بغض النظر عن وجود مثقفين حولها أو إنها سافرتْ أو درستْ حسب مشيئتها . القضية تتعلق بترِكة ضخمة موروثة في المجتمع والعالم ككل، لا يكفي أن يقفز عليها أفراد بخطوات سريعة فورية. يجب أن يتكاتف المجتمع ويقتنع ابناؤه بأهمية التغيير الضروري تدريجياً – لا حاجة للثورية هنا !- كل شيء يجري بهدوء وبخطوات متعاقبة مصممة، تبدأ بالتعليم بالطبع لكلا الجنسين، وتساهم المرأة بدورها في الحلول من أجل إعادة الثقة بحكمة سلوكها كي ترفع مكانتها وأهليتها، كل واحدة حسب ظروفها المتيسرة.
6ـ تبدو لغتك في الكثير من مواقعها، وكأنها تحاول التوفيق بين المكتوب والشفاهي، ويبرز لديك هذا المسعى كاستراتيجية لتطوير المخيلة في القص، فهل تحضر البصرة والجنوب العراقي عموما، بقوة في كتابتك كمرويات ولهجة
ومرئيات ؟.
6 ج : لستُ أدري . ربما يكون القاريء أو الناقد أكثر اقتداراً وتمكناً مني لفحص هذا الموضوع. ما اشعر به سبق أن قيل من قبل، ألا وهو أن : الأسلوب هو الإنسان نفسه لا محالة. ما دام الأمر كذلك، وقد افترضناه، إذن لابد أن يتأثر الأسلوب بتلاوين بيئة الكاتب، وبالنسبة لي ، من صحراء الزبير وبيوتها المحافظة إلى نخيل البصرة وجداولها وشط العرب وسكانها المتنوعين، إلى رصافة بغداد وجسرها الموصول بالكرخ للعابرين، إلى لندن وصمتها الذكي الصابرة تحت الغيوم الرمادية إلى إسبانيا وغرناطتها الملونة بملابس الراقصين، الممتلئة بصدى التأريخ، العطرة بأريج النارنج. كما أنّه يتأثر بقراءاته وتجربته الحياتية عامة بصورة أوبأخرىn