أبوالحسن محمد على
الحوار المتمدن-العدد: 6992 - 2021 / 8 / 18 - 01:40
المحور:
الادب والفن
لويز جلوك *
ترجمة أبوالحسن محمد على
فى قصيدتها " بارادوس Parados" تقول لويز جلوك Louise Gluck , " لقد وُلِدت ُلتأديةِ رسالة: /لأكون شاهدةً/ على الأسرار الكُبْرى" و من الواضح أنها أخذت على عاتقها رسالة الشاعر على محمل الجد منذ نعومة أظفارها . فبحسب روايتها فى مقالة لها بعنوان" تربية ُالشاعرِ" تروى لويز أن أُم إحدى صديقاتها طلبت منها فى طفولتها أن تلقى عليها قصيدة كانت أعدتها لواجبها المدرسى فما لبثت أن ألقت على مسامعها القصيدة . و تستطرد جلوك قائلة , " كان انتصارى الخاص فى تلك القصيدة يتمثل فى قيامى بتقديم وتأخير عروضى فى البيت الأخير – قطعاً لم أطلق على ماقمت به آنذاك ذلك المسمى- حيث قمت بحذف القافية الأخيرة, كان ذلك مطرباً لأذنىَّ, أشبه ما يكون بانفجار شكلانى " تقول جلوك أن أم صديقتها "هنأتنى على القصيدة الجميلة جداً حتى السطر الأخير الذى قامت بتعديله بصوت عالٍ إلى القافية التى تعمدتُ أن أُخِلُ بها . ثم قالت لى أترين ؟ كل ما كانت تفتقر إليه القصيدة هو تلك القافية الأخيرة .ذلك جعلنى أستشيط غضباً. " (براهين و نظريات , 1994). تلك الصورة التى تقدمها لنا جلوك لنفسها كطفلة مترفعة , عليمة تجعلنا نتوقع ما ينطوى عليه عملها من حكمة خفية و نزعة تنبؤية .أما عن تصريح الشاعرة " وُلِدتُ لتأدية ِ رسالة" فإن الشاعرة تبدو متسامية على عالمنا العادى و تنأى بنفسها عنه بما أُتيح لها من معرفة . و تشى ذكرى طفولة جلوك بما أطلقت عليه فى موضع آخر " نزعة التزمت التى جُبِلتُ عليها و كانت بحاجة إلى ردعها " , أى أن ذكاءها الإستثنائى كان بحاجة إلى أن تروضه التجربة العامة , كان لزاماً عليها أن تتوحد مع الآخرين لا أن تعزل نفسها عنهم . و العبرة من ذلك الترويض نراها تتجسد فى بعض أفضل قصائد جلوك كمتتالية " أكتوبر" و مفادها أن : ما يجعل الشاعرة يشار إليها بالبنان هو قدرتها على تحويل التجربة المُمَثِلة التى تدرك إنها فى ذات الوقت تجربتها هى
إن شعر جلوك يلقى الضوء بقوة خاصة على تلك الخفايا للخبرة المشتركة والألم و الفقد .فعنوان أول مجموعة شعرية لجلوك " المولودة البِكر Firstborn " (1968) يشير ُ إلى مولودتين بكر : شقيقة ماتت و هى رضيعة قبل أن تولد جلوك , و الشاعرة ؛ الأخت الكبرى لشقيقتين ولدا بعدها .تقول جلوك فى " الموت و صور الغياب " , " لطالما كان لدى هوساً بشقيقاتى , من ماتت منهن و من بقىت على قيد الحياة"كانت جلوك ترى فى نفسها بديلة شقيقتها المتوفاة , و فى نفس الوقت تقول " أخذت على عاتقى مسئولية الناجية التى بقيت على قيد الحياة ؛ تلك المسئولية التى لم تخل من شعور بالذنب. و رغم أنه فى أعمال الشاعرة الباكرة مثل " المولودة البكر " و " منزل المستنقعات " و " الطيف الهابط " و " انتصار أخيل " ثمة إقصاء للمحات سيرتها الذاتية و إضفاء غلالة خرافية عليها إلا أن العديد من أعمال الشاعرة تعود لشقيقتها الفقيدة و تستكشف مشاعر الحزن و القصور عندها . و ندر أن نجد بين الشعراء المعاصرين من عبر بمثل تلك القوة عن جهود النفس القسرية , التى لا تلبث أن تبؤ بالفشل , لاكتساب مناعة و صلابة فى مواجهة الفقد والغياب , و لا نكاد نجد بين الشعراء من شهد تحولات سيرتها اللهم إلا سلفيا بلاث Sylvia Plath و ستانلى كونيتزStanley Kunitz فى باكورة أعماله و إبراز الألم يتجلى فى أشعارها كما يتجلى فى قصائد فرانك بيدارت Frank Bidart
إلا أن جلوك لطالما دأبت على رفض المعادلة السهلة للعمل الفنى بالتجربة الشخصية( فأحد مقالاتها بعنوان " ضد الصدق " )لذلك فإنه من اللافت أن أحد مقالاتها التى تتناول تربيتها كشاعرة تعطى وصفاً ثاقباً وبارع لصراعها مع فقدان شهية الأكل المرضية anorexia التى بلغت حد الأزمة فى سنتها السادسة عشر . ذلك الصراع الذى كتبت أنه تشكل من الفزع من " القصور و الحاجة الشرهة " و ما صاحب ذلك من رغبة فى الظهور بمظهر التحرر التام من كل أشكال التبعية , والظهور بمظهر الكمال و الإستقلالية " . و هى تعتقد ان ما أنقذها من الموت هو التحليل النفسى "التحليل علمنى أن أفكر " و تجربتها فى مدرسة الدراسات العامة بكولومبيا التى دخلتها فى سن الثامنة عشر . أما معلميها لينى أدامز Leonie Adams و ستانلى كونيتز Stanley Kunitz فقد زودا عملها " بالتدقيق المستمر و التمحيص" . و شعر جلوك يظهر أنها وعت درس التدقيق و طبقته على نفسها و على عالمها . إن قوة الإدراك فى قصائدها – سواء لابن رضيع أو لإيماءة وداع من أب أو لصورة طفولتها – يمكن أن تجعلنا نجفل .
إن شعر جلوك يضيق ذرعاً بما هو عابر وزائل , و متعطش لما هو ثابت و غير متغير- الماء" الأزرق الدائم" " للأطفال الغرقى". العالم الأزلى فى مقارنة صريحة بعالم الفقد و التحول الأرضى( نباتات الطماطم المنكوبة فى قصيدة " صلاة الغروب"). و هى فى هذا الجانب تشارك " العقل المتدين " الذى تصفه فى مقالة عن ت. س إليوت , ذلك العقل الذى يتوق إلى " ماهو نهائى و لا يمكن إسكاته" ولا يستطيع أن " يقتات على المادة و العمليات الإجرائية" . و لكن نزعة " النفور" من العالم المادى عند إليوت التى أشار إليها ر . س ليفيس R.S Leavis يقابلها عند جلوك إنشغال بالعلاقات الأسرية المعقدة و بجمال العالم الطبيعى . فى ديوانها " زهور السوسن البرية The Wild Iris" (1992) , و هو عبارة عن مجموعة من قصائد الزهور يستنطق فيها المعبود الزهور و يحادثها, ثمة توق لما هو أبدى و إحساس لافت بجمال الأرض الزائل . فى " أرض المروج" (1996) ثمة تصوير هزلى ماكر لطرفى الصراع فى زواج متفسخ ( طرفا الصراع يرتكنان إلى شخصيات من " الأوديسة Odyssey" )
سعت لويز جلوك لتنويع عاداتها الأسلوبية و إنشغالاتها من ديوان لآخر . " كل كتاب كتبته كان يتوج بعمل تشخيصى , " من الواضح بالطبع أن الطفلة التى انتشت طرباً و بهجة بالتقديم و التأخير العروضىيان تُرهِص باهتمام جلوك طيلة عمرها بالشكل و خوض غمار تجاربه . ورغم أن شعر جلوك يقدم لنا صوراً تسكن خيالنا فلا تبرحه و يتردد صداها فى جنباته إلا أن الكثير من القوة التى فى شعرها تتولد من مصادر التراكيب التى تستخدمها . فجمل جلوك بمثابة عضلات الإدراك , تارةً تمتد معقدةً و تنسحب تارةً أخرى . وتارةً ينفرط عِقْدها فى فِقرةٍ شعريةٍ كاملةٍفتجمعُ بين القُوَى المتناقضةِ أو التجارب( كالسُلطةِ و الإنجراح أو الخالد و العابر البائد). فعملها ينتقل , و بدرجات متباينة من قصيدة إلى أخرى , ما بين التحكم التراكيبى و إطلاق العنان ( و هو ما أطلقت عليه الإسترسال) أحياناً تنداح جملها المعقدة من عبارة ٍ إلى أخرى , و لكن وقفات الأبيات أو بداية جملة جديدة فى منتصف السطر تعترض سير هذه الحركة , فتضفى على عملها طابع شئ غير مكتمل , مجتزأ , أو لم يقال ( فتشترك فى هذه الخاصية مع سابقيها إميلى ديكنسون و جورج أوبين ). تارةً أخرى , كما فى متتالية " أكتوبر" تجعل جلوك البيت الشعرى مكافئ للجملة " لم يجعلنى أشعر بالإرتياح, العنف ُ غيرنى ) فيكون له نبرة سُلطوية و سيطرة خَبَرية تتقوض فى نفس الوقت بوضع الجملة إزاء الجملة الأخرى دون انتقال أو رابطة . ومما يميز هذه الشاعرة أن ضغط ما لا يقال يملأ الفراغات التى بين الجمل , و بين الأبيات , و بين الفقرات الشعرية . الصوت المميز الذى نسمعه عند جلوك – بعضه هاتف إلهى أو مراقب نافذ البصيرة , و البعض الآخر مشارك منكود الحظ فى غمرة المشاعر و التجربة – ينشأ من مراوحة قصائدها بين ماهو صريح و مكنون , بين الكلمات و فترات الصمت ( مثلما نجد فى قصائد إميلى ديكنسون). إن ردة فعلها لأحداث الحادى عشر من سبتمبر, 2001م فى قصيدة " أكتوبر " تتجلى فيها كل هذه الخصائص .
تعمل لويز جلوك بالتدريس فى كلية وليامزكوليدج Williams College بماساشوتيس. حصلت عام 1993 على جائزة البوليتزر Pulitzer Prize عن ديوانها " زهور النرجس البرية The Wild Iris" كما حصلت على جائزة الإتحاد الدولى للقلم PEN عن مجموعة مقالاتها الهامة عن الرسالة الشعرية " براهين و نظريات" (1994).من بين دواوينها الشعرية الأخرى " الحياة الجديدة Vita Nova" (1999), " العصور السبعة The Seven Ages" , " أفيرنو ِAverno"(2006) , و " حياةٌ قروية A Village Life " (2009). و حصلت جلوك على جائزة بولينجن للشعر عام 2001م.
الأطفالُ الغرقى
أرأيتم , ليس لديهم الحكمة .
لذا من الطبيعى أن يغرقوا.
لأول وهلة يخدعهم الشتاء
ثم , طوال الشتاء, لا تلبث أوشحتهم القطنية
أن تطفو خلفهم و هم يغوصون
حتى يرين الصمت عليهم .
أياد البحيرة السوداء العديدة تحملهم لأعلى .
تفد إليهم المنية ُ بأشكالٍ شتى
قبل البداية بقليل .
و لكأنهم طالما كانوا
عمياناً طافين .لذا
ما تبقى حلم , المصباح,
مفرش المنضدة الأبيض الجميل,
أجسادهم.
ثم تترامى إلى مسامعهم أسماءُهم
كنداهات فوق صفحة ماء البحيرة :
فيما الإنتظار؟
إلى الديارِ, إلى الديارِ, أيها الضائعون
فى المياه ,الزرقاء الدائمة.
..........................................................................
المظاهر
عندما كنا أطفالاَ, رُسِم لوالدينا لوحتين شخصيتين لنا
علقاهما جنباً إلى جنب حينها , فوق رف المدفأةِ
حيث لا يسعنا أن نتشاجر.
أنا السمراءُ, الكُبرى. أختى شقراء ,
تلك التى تبدو غضبى لأنها لا تستطيع الكلام.
لم يزعجنى ذلك بتاتاً, عدم الكلام .
مازال الأمر على حاله, أختى ما زالت شقراء, لم تختلف
عن اللوحة . عدا أنَّا ِصرنا كباراً الآن , حللوا شخصياتنا :
نحن نفهم تعبيرات إحدانا الأخرى .
حاولت أمنا أن تعدل بيننا فى حبها ,
كانت تلبسنا نفس الثيابِ, كيما
يرى الناس أنَّا أختان
هذا مأربها من اللوحتين :
عليك أن تراهما معلقتين معاً, إحداهما بمواجهة الأخرى –
متفرقتان, لا تدليان بنفس البيان.
فلن تعرف إلام كانت تشخص أبصارهما ,
سيبدو و كأنهما كانتا تشخصان إلى الفراغ
كان هذا الصيف الذى صيًّفناه فى باريس, حيث بلغت السابعة
كل صباح ,كنا نذهب إلى الدير
كل أصيل , كنا نجلس بلا حراك , بينما تُرسم اللوحتان,
مرتديتان ثوبان قطنيان خضراوان تُحَدُ رقبتاهما المربعة بنسيج مكشكش
أضاف المونسير دافانزو ظلال ألوان البشرة : أختى تعلو وجنتيها حُمرة , أما أنا فلون مائل للزرقة الخافتة
وكى تبهجنا , علقت مدام دافانزو الكرز على أذنى كل منا
كان شيئا برعت فيه , الجلوسُ ساكنةَ , بلا حراك.
فعلت ذلك كيما أكون مطيعة, لإرضاء أمى ,كى أُلهيها عن الطفلة التى ثكلتها
أردت أن أكون طفلة . مازلت على ذاك الحال
كلعبة يمكنها أن تتوقف و تسير , ولكن لا يسعها أن تغير وجهتها
أى أحد يمكن أن يحب طفلة متوفاة , الحب و الغياب.
أمى قوية ؛ لا تقبل ركوب السهل
هى كأمها : تؤمن بالأسرة ,و بالنظام .
هى لا تغير منزلها , تعيد رونق الطلاء من حين لآخر ليس إلا.
أحياناً ينكسر شيئاً أو يُرمى , لا شئ أكثر .
تحب الجلوس هنالك على الأريكة الزرقاء , تتطلع لابنتيها
الباقيتين على قيد الحياة , لا يسعها أن تتذكر كيف كان الأمر,
كيف أنها كلما أولت إحدى الفتاتين رعايتها , و أغدقت عليها حبها
كانت تضر الأخرى . يمكنك أن تقول أنها كانت كفنانٍ ذى حلم , أو رؤيا.
دونها كان يمكن أن تتمزق أشلاءً
كنا كاللوحتين, دائماً سويا: عليك أن تُخرج إحدانا من الصورة كى ترى الأخرى .
لذا ما من أحد سوى الرسام لاحظ :وجهٌ مصطنع اصطناعا, منزوٍ أيما انزواء ,
غايةً فى الإنقياد و الخضوع, لسان حال عيناه الصافيتان يقول
إذا ما أردتنى ان أكون راهبةٌ , فسوف أكون.
..........................................................................
*لويز جلوك : الشاعرة الأمريكية التى حصلت على جائزة نوبل فى الأدب لهذا العام 2020 م. المقالة و القصيدتان المترجمتان من كتاب :
The Norton Anthology of American literature: V E. Literature since 1945.(8th ed., P 910-914)
#أبوالحسن_محمد_على (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟