|
ما هو دور الحركة العمالية المنظمة في الثورة الكوبية؟
ستيف كوشيون
الحوار المتمدن-العدد: 6984 - 2021 / 8 / 10 - 23:58
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
النص أدناه هو خاتمة كتاب المؤرخ ستيف كوشيون، التاريخ المخفي من الثورة الكوبية، الصادر عن دار مونثلي ريفيو برس، نيويورك، عام ٢٠١٦
يتدفق التاريخ غير المحكي لمشاركة الطبقة العاملة في الثورة الكوبية خلال الخمسينيات من الأرشيف كرواية جذابة عن الشجاعة والتنظيم. بعد التعافي من سلسلة هزائم أساسية في المعارك النقابية داخل المصانع عام ١٩٥٥، تمكنت مجموعة صغيرة وحازمة في نفس الوقت من بناء حركة عمالية سرية في مواجهة بيروقراطية نقابية وديكتاتورية عسكرية قمعية. رفضت هذه الحركة قبول منطق العلاقات الصناعية الرأسمالية، التي تربط بين مطالب العمال بقدرة أصحاب المصانع على الدفع. فنظمت إضرابات غير رسمية، وأصدرت صحفاً سرية وحيوية، وجمعت في تكتيكاتها بين العمل النقابي في المصنع والتخريب والعمل المسلح، وبالتالي قدمت دعماً مهماً للثوار. في نهاية العام ١٩٥٨، تمكنت الحركة من عقد مؤتمرين ثوريين للعمال الذي جمع مئات المندوبين، ونظمت كذلك أكبر إضراب عام في تاريخ كوبا.
من خلال الاطلاع على هذا السجل النضالي الحافل، يتساءل المرء عن سبب تغييب مثل هذه القصص، سيما وأن الأدلة موجودة في الأرشيف لأي باحث يهتم بذلك. ربما يرجع الأمر إلى أن الكتابات التاريخية تفضل التركيز على إنجازات “الرجال العظماء” وتتجاهل قدرة الطبقة العاملة على القيام بدور جماعي ومستقل وحاسم في كثير من الأحيان خلال تطور الأحداث. في محاولة مني لتسليط الضوء على هذا التاريخ المخفي والإجابة عن سؤال “ما هو دور الحركة العمالية المنظمة في الثورة الكوبية؟”، برزت أسئلة فرعية. للإجابة عن هذه الأسئلة، سيظهر بصورة أوضح الدور الفعلي الذي لعبه العمال.
ما هي المشاكل التي واجهت العمال الكوبيين خلال الخمسينيات؟
عانى الاقتصاد الكوبي من تناقض كبير: فالدخل القومي، الذي يأتي بمعظمه من تصدير السكر، حيث يوفر ٨٠ بالمئة من صادرات البلاد، لم يكن كافياً للحفاظ على معدلات الأجور ومستويات التوظيف التي توقعها العمال على مر التاريخ. في الوقت عينه، وفّر ذلك لأصحاب العمل أرباحاً توقعوها. من أجل المحافظة على أرباحهم، كانت مصالحهم التجارية بحاجة إلى زيادة معدل الانتاجية، وهذا ما سعوا إليه عن طريق خفض الأجور، وخفض مستويات التوظيف، وإدخال آلات جديدة. بذلك أثبتت أن إعادة تقسيم الدخل القومي لصالح الرأسماليين على حساب الطبقة العاملة ليس ممكناً في ظل نظام ديمقراطي. فأدى ذلك إلى دعم قطاعات واسعة من رجال الأعمال الكوبيين والأميركيين الحل الاستبدادي الذي قدمه فولغينسيو باتيستا، وتوقعوا من النظام الاستبدادي أن يكسر مقاومة العمال لإجراءات خفض التكاليف.
دعمت ونسقت حكومة باتيستا هجوماً شنته المجموعات الأساسية لأصحاب العمل بهدف تقليص الأجور، وبعد أن حصلت بداية على دعم قيادة النقابات العمالية من خلال تعزيز المصالح الشخصية البيروقراطية. وجرى فرض حملة زيادة الانتاجية في قطاع تلو قطاع، لضمان عدم تعرض المجموعتين العماليتين الكبيرتين لهجوم في الوقت عينه، وبذلك قوضوا المقاومة الشاملة. وقد ساعدت البيروقراطية النقابية في هذه العملية، حيث لعبت دوراً معتدلاً ومحافظاً. وكلما برز خطر تجاوز العمال للحدود التي رسمتها البيروقراطية النقابية استعملت الحكومة القمع لهزمهم. نجحت هذه الاستراتيجية القائمة على القمع والفساد، والتي استعملت طوال العام ١٩٥٥، في هزم العمال في سكك الحديد، والبنوك، والنسيج، والتخمير، وكذلك، والأهم مما سبق، مصانع السكر. ومع ذلك، تمكن عمال التبغ والموانئ من مقاومة المكننة المتزايدة لأعمالهم. ونتيجة لسلسلة الهزائم التي لحقت بالطبقة العاملة عام ١٩٥٥، تبنت أجزاء واسعة منها أساليب أخرى للتنظيم والنضال للدفاع عن مصالحها.
كيف تنظمت الطبقة العاملة الكوبية؟
البيروقراطية النقابية في ظل الرأسمالية هي في الغالب مجموعة اجتماعية محافظة، تتمتع بمصالح مستقلة عن العمال التي تزعم أنها تمثلهم. ونتج عن ذلك ميل لديها للتكيف مع الوضع القائم. هذه المصالح الذاتية المحافظة جعلت من المسؤولين النقابيين المحيطين برئيس الاتحاد العمالي العام، أوزيبيو موجال، عرضة لرشاوى يقدمها النظام لهم. حتى عام ١٩٥٥، بدت بيروقراطية الاتحاد العمالي الكوبي مدافعة عن مستوى الأجور وحافظت إلى حد كبير على موقعها المهيمن. مع ذلك، في مواجهة هجوم أصحاب العمل المتآزرين، والذي بدأ بشكل جدي في ذلك العام، كشف الاتحاد عن نفسه على أنه غير قادر أو غير راغب في حماية مستويات معيشة الطبقة العاملة، وبات يُنظر إليه بشكل متزايد على أنه جزء من المشكلة بدلا من المساهمة في حلها.
يمكن استعمال عبارة “الحركة العمالية المنظمة” لوصف تنظيم الطبقة العاملة على عدة مستويات. فهناك البنى الرسمية للنقابات الرسمية، ومن ثم هناك العديد من البنى غير الرسمية وغير المعترف بها التي يدافع العمال من خلالها عن مصالحهم، وفي أغلب الأوقات بوجه المعوقات التي تفرضها البيروقراطية الرسمية. أدى الدور الذي لعبته القيادات البيروقراطية إلى تقويض مقاومة الطبقة العاملة والتقليل من أهمية الدور الذي لعبه العمال في الثورة. ومع ذلك، عندما يؤخذ بعين الاعتبار الانقسام بالمصالح بين البيروقراطية والقاعدة العمالية، تتضح بذلك أدلة مشاركة العمال بشكل مختلف عن وجهة النظر التقليدية التي نحصل عليها بمجرد النظر إلى النشاط النقابي الرسمي.
وهكذا، فإن تصنيف الإضرابات العامة التي جرت في آب/أغسطس عام ١٩٥٧ وكانون الثاني/يناير عام ١٩٥٩ على أنها “عفوية” هو مثال على ميل المؤرخين إلى رؤية ما حصل على أنه حادثة عفوية في حين أنهم في الواقع لا يعرفون أو لا يرغبون في الاعتراف بمن نظّم بالفعل الإضرابَين. استعمال مصطلح “العفوية” لرفض الأحداث التي ليس للباحث أي تفسير لها يتجاهل ويرفض التنظيم الشعبي. كان الإضرابان، إضافة إلى نضالية الطبقة العاملة المستمرة، من عمل شبكة من المناضلين المرتبطين بالثوار. هذه الشبكة، التي بدأت على يد مناضلين جذريين في غوانتنامو، استندت إلى علاقات غير رسمية موجودة في الحركة العمالية وانتشرت نحو الغرب لتشمل كل الجزيرة. بالإضافة إلى تنظيم الإضرابات والمظاهرات، شارك هؤلاء المناضلون في أعمال التخريب، كما قدموا الدعم اللوجستي للمقاتلين. تنظمت هذه الشبكة في بعض المناطق وفق خلايا رسمية، وفي مناطق بشكل أقل رسمية. تعاون المناضلون أحياناً مع أعضاء الحزب الشيوعي وأنصاره، تبعاً للظروف المحلية والتقاليد والعلاقات الشخصية. تعمل هذه الشبكة أحياناً تحت اسم جبهة العمال الوطنية أو ما شابه، وأحياناً تحت اسم لجنة محلية عمالية وأحياناً يبقى عملها سرياً. مهما كان الشكل الذي اتخذته هذه الشبكة في عملها المحلي، فقد أثبتت فعاليتها العالية في تنظيم الدعم المادي والسياسي للثوار في الجبال، فضلا عن النضال العمالي في المصانع. ومع ذلك، كان الإنجاز الأكثر أهمية هو أن هؤلاء المناضلين وفروا القاعدة العمالية لفيديل كاسترو في الدعوة إلى الإضراب العام الأكبر في تاريخ كوبا في كانون الثاني/يناير عام ١٩٥٩.
ما هي القوى السياسية التي كانت ناشطة وسط الطبقة العاملة؟
لم تكن الحركة العمالية في كوبا جسماً واحداً موحداً، حيث كان تتأثر بأفكار العديد من الحركات الناشطة داخل الطبقة العاملة خلال تلك الفترة. قد يكون من المفيد الإشارة إلى “أقطاب سياسية جاذبة” ضمن السياق الأوسع للعمل النقابي والعمالي. يمكن الحديث عن ثلاثة أقطاب تتجاذب الحركة العمالية الواسعة: الحزب الشيوعي الاشتراكي الشعبي والحركة الثورية ٢٦ تموز/يوليو بقيادة فيديل كاسترو، والبيروقراطية النقابية بقيادة أوزيبيو موجال. بدءا من عام ١٩٥٥ ولاحقاً، كانت المسألة الرئيسية في الحياة السياسية للطبقة العاملة هو التنافس بين هذه التيارات السياسية والنقابية.
بدأت البيروقراطية النقابية الموجالية تفقد مصداقيتها بعد هزائم عام ١٩٥٥، وأصبحت تعتمد أكثر فأكثر على تدخل الدولة للحفاظ على مركزها. كانت هناك بعض الانقسامات في القيادة النقابية التي كانت على شكلين: من جهة، الغيرة الداخلية والخلافات حول تقسيم غنائم الفساد، ومن ناحية أخرى، القيادات النزيهة التي عارضت ما اعتبرته خيانة لمصالح العمال. المجموعة الأخيرة، كانت قليلة العدد ولكنها كانت شديدة الفعالية، وتحالفت مع حركة ٢٦ تموز/يوليو. مع نهاية العام ١٩٥٨، هُمِّش موجال ورفاقه بشكل فعلي.
وجد الحزب الاشتراكي الشعبي الدعم الرئيسي بين عمال القطاع الصناعي الذين كانوا قادرين، لعدة أسباب، على مواجهة هجمات أصحاب العمل عامي ١٩٥٥ ١٩٥٦ والنضال من أجل تحسين ظروف عملهم، كذلك بين عمال المرافئ والتبغ والفنادق والمطاعم، في هذه القطاعات، كان الخط الشيوعي “النضال الجماهيري” ما زال معتمداً للمضي قدماً. ومع ذلك، عانت تلك القطاعات من الهزيمة خلال معاركها الطبقية عامي ١٩٥٤ ١٩٥٥، وخاصة العمال في السكك الحديدية والبنوك والنسيج والسكر، وتحولت مجموعات صغيرة ولكن متزايدة من قادة العمال المحليين إلى انتهاج سياسات أكثر راديكالية. وبالتالي، أصبحوا على قناعة بأن الطريقة الوحيدة التي يمكن للعمال من خلالها استعادة حقوقهم واستعادة السيطرة الديمقراطية على النقابات العمالية كانت عبر الإطاحة الثورية للنظام. فانجذب العمال الراديكاليون إلى نهج الكفاح المسلح الذي انتهجته حركة ٢٦ تموز/يوليو. وبالفعل، طورت مجموعة من عمال السكك الحديدية من غوانتنامو، في أقصى شرق الجزيرة استراتيجية بارزة أسمتها الحركة العمالية الحربية، التي تجمع بين النضال العمالي في المصانع، مثل الإضرابات والتباطؤ في العمل والمظاهرات إلى جانب التخريب والتفجير، وغيرها من الأعمال المسلحة. توافقت هذه الأعمال مع نهج حركة ٢٦ تموز/يوليو التي اعتمدت على الإضرابات العامة المترافقة مع حرب العصابات للإطاحة بالديكتاتورية. حقيقة أن هؤلاء العمال الذين تبنوا تكتيكات ثورية لم تؤثر على مطالبهم الأساسية، التي كانت إصلاحية، بحيث أنهم سعوا إلى الحصول على تحسينات داخل الرأسمالية بدلاً من الإطاحة بها.
كيف كانت العلاقة بين الحزب الاشتراكي الشعبي وحركة ٢٦ تموز/يوليو؟
أدى تنامي قوة القطاع العمالي لحركة ٢٦ تموز/يوليو إلى تزايد تواصلهم مع مناضلي الحزب الاشتراكي الشعبي على مستوى أماكن العمل. أجبرت ديناميات التنظيم في مكان العمل هاتين المجموعتين من المناضلين على التفاعل فيما بينهم، وعلى الرغم من استمرار الجدال السياسي والخلافات بينهما، بدأ مسار التقارب بينهما والذي تطور بسرعة على مستوى القاعدة قبل تطور العلاقة بين القيادتين. كان للتنظيمين الكثير من القواسم المشتركة على الصعيد السياسي، حيث دعت المجموعتان إلى حل قومي يقوم على المساواة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وشددت على ضرورة وجود تحالف عابر للطبقات، وتشاركت انتهاج عملية ثورية تقوم على سياسة المراحل. لم تدعُ المجموعتان صراحة إلى الاشتراكية. وكانت خلافاتهما تكتيكية بشكل أساسي، حيث دعا الحزب الاشتراكي الشعبي للنضال الجماهيري غير المسلح، في حين رأت حركة ٢٦ تموز/يوليو ضرورة القيام بأعمال مسلحة لهزم قوى الدولة القمعية. كما ركز التنظيمان على أهمية الإضراب العام، ولكن اختلفا بالتكتيك. بالنسبة إلى الحزب الاشتراكي الشعبي كان الإضراب العام يتمثل بوقف تقليدي للإنتاج من قبل الغالبية العظمى من العمال، وبالتالي ستحقق هدفها من خلال الوزن الهائل للجماهير العمالية من خلال شلهم للاقتصاد. أما بالنسبة إلى حركة ٢٦ تموز/يوليو، كان الإضراب العام عبارة عن تمرد شعبي جماهيري مسلح. مع تنامي معارضة نظام باتيستا، اختُبر عملياً الفرق بين هذين التكتيكين. فتعلمت قيادة الحزب الاشتراكي الشعبي الحاجة إلى الدعم المسلح وأدركت قيادة حركة ٢٦ تموز/يوليو أنها لا يمكنها طلب الدعم الشعبي فحسب، إنما ينبغي عليها بناء العلاقات مع الطبقة العاملة من خلال الارتباط بالمصالح الاقتصادية والاجتماعية للعمال.
بدأ مسار التقارب التكتيكي أولاً على مستوى مكان العمل، حيث دفع التضامن المحلي المناضلين من المنظمتين إلى العمل معاً. وتعزز هذا التقارب مع تزايد وحشية النظام، خاصة في شرقي البلاد. وعندما أصيب الجيش والشرطة بالإحباط بسبب عدم قدرتهم على هزم الثوار، انتقموا من السكان المحليين. بالإضافة إلى هذا العنف العشوائي غير الرسمي، تزايد نشاط فرق القتل الحكومية، التي استهدفت كل المجموعات المعارضة، ولكنها استهدفت بشكل أخصّ مناضلي الطبقة العاملة المعروفين، من بينهم الشيوعيين، على الرغم من معارضة الشيوعيين للكفاح المسلح. في الدراسات الحديثة تضاءل ذكر الرعب الناتج عن عنف الدولة الذي شنته ديكتاتورية باتيستا، ولكن يجب تذكره دوماً كعامل مهم ساهم في زيادة الكراهية الشعبية للنظام. كان الخطر المشترك عاملاً مشتركاً في دفع القاعدة الشيوعية والفيدلية للنضال إلى جانب بعضهم البعض، إضافة إلى تنامي حاجة مناضلي الحزب الاشتراكي الشعبي إلى تسليح أنفسهم، حتى لو كان ذلك بهدف الدفاع عن النفس.
على الرغم من التقارب السياسي بين التنظيمين، إلا أن التقارب التنظيمي بينهما كان أبطأ، ويعود ذلك بشكل جزئي إلى معارضة جزء من حركة ٢٦ تموز/يوليو للشيوعية، لا سيما في مدينة هافانا. ومع ذلك، اتخذت معارضة الشيوعية أشكالاً مختلفة، التي جاءت من قوى يسارية ويمينية على حد سواء، حيث عارض اليمين الشيوعيين بسبب معارضته لسياسة تأميم الأراضي، في حين اعتبر اليسار أن الشيوعيين ليسوا مناضلين بشكل كاف وشديدي البيروقراطية، والتزامهم بالديمقراطية ضعيف. في هذا الإطار، من المفيد التفريق بين هاتين الظاهرتين، حيث كان النقاد اليساريون للحزب الشيوعي على استعداد للتعاون مع المناضلين الشيوعيين بمجرد تبنيهم نهجاً أكثر ثورية، في حين عارض الجناح اليميني ذلك في كل الظروف. قيادة القطاع العمالي في حركة ٢٦ تموز/يوليو تصنف ضمن اليسار، ما عدا دايفيد سلفادور، وبعد قبول الحزب الاشتراكي الشعبي بالعمل المسلح، عملت القيادة مع الشيوعيين.
وجهة النظر التي ترى أن الثورة الكوبية هي مجرد انتصار مسلح للثوار المعتمدين على تكتيك حرب العصابات لن ترى بالضرورة مساهمة الشيوعيين في الثورة. إذا أخذنا دور الطبقة العاملة المنظمة في عين الاعتبار، تصبح المساهمة الشيوعية أكثر أهمية، حيث أن ذلك هو المجال الذي ناضلوا فيه بشكل أكثر فعالية. وهكذا كان التحريض والدعاية الممنهجة عاملاً أساسياً في الحفاظ على استقلالية الطبقة العاملة المنظمة، وكمّلت خبرتهم التنظيمية وشبكاتهم المسلحة الموجودة مسبقاً عمل القطاع العمالي لحركة ٢٦ تموز/يوليو.
إلى أي مدى كانت الاختلافات الإقليمية مهمة؟
وسط كل ذلك، كانت معارضة النظام أقوى بشكل عام بشرق الجزيرة وأقل وضوحاً في هافانا. شكّل وصول نواة جيش الثوار إلى غرانما أول اختبار للحركة العمالية الحربية. فنظمت إضرابات وأعمال تخريب في غوانتنامو تضامنا مع الأعمال المسلحة في سانتياغو في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٥٦. وقد لفت ذلك انتباه قيادة حركة ٢٦ تموز/يوليو إلى المساهمة التي يمكن أن يقدمها العمال المنظمون، وجرى تشجيع عمال غوانتنامو على النضال والتنظيم. وكما أن العلاقات بين حركة ٢٦ تموز/يوليو والحزب الاشتراكي الشعبي أفضل في شرقي الجزيرة، وفي خطوة موازية، دعمت القيادة الشيوعية المحلية في سانتياغو الانتفاضة المسلحة لحركة ٢٦ تموز/يوليو في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٥٦ من خلال تنظيم إضراب في المرفأ. ساعد ذلك على التقارب بين التنظيمين، الذي كان بطيئاً وغير متساوٍ، ولكنه كان أكثر وضوحاً بين العمال في شرق الجزيرة ووسطها.
أكثر من ذلك، كانت أهمية وتأثير الأعضاء من الطبقة العاملة في حركة ٢٦ تموز/يوليو أكبر في مقاطعات أورينتي وماتانزاس ولافيلاس، في حين انتمت القيادة السرية في هافانا إلى فئة المهن الحرة والبرجوازية الصغيرة. وكنتيجة جزئية لذلك، كانت العلاقات بين حركة ٢٦ تموز/يوليو أمتن في المحافظات مقارنة مع العاصمة، لأنه كما ذكرنا سابقاً أدى التضامن في مكان العمل ودور الزملاء غير المنحازين في العمل إلى التقليل من الخلافات الحزبية العصبوية. كما أن تأثير البيروقراطية النقابية كان في المناطق ضئيلاً مقارنة مع العاصمة حيث تتمركز المكاتب الرئيسية للاتحادات العمالية. بالإضافة إلى تركز الإنفاق الرأسمالي الحكومي في هافانا، حيث توفر مشاريع مثل نفق خليج هافانا فرص العمل، كما تركزت السياحة وبناء الفنادق المرتبط بها في العاصمة ومدينة فاراديرو القريبة. ونتيجة ذلك، كان الضغط الاقتصادي أقل على العمال في العاصمة وبالتالي كانت الدوافع للبحث عن حل ثوري أقل. الاعتراف بهذه الاختلافات الإقليمية أمر ضروري لفهم مسار الثورة.
ما مدى أهمية مشاركة الحركة العمالية المنظمة في تحديد نتيجة الصراع؟
مع تزايد الأزمة، شن الجيش والشرطة حملة ترهيبية، تضمنت استخدام فرق القتل والتعذيب، والتي كانت شرسة تحديداً في مقاطعة أورينت. كان المناضلون من الطبقة العاملة، حتى غير المرتبطين بالثوار، هدفاً خاصاً للحملة القمعية التي شنتها السلطات. فردت الطبقة العاملة على إرهاب الدولة عبر تنظيم سلسلة من الإضرابات في مانزانيلو وبايامو وسانتياغو. وفي وقت ساعد ذلك في رفع منسوب معارضة النظام، إلا أنها أثبتت عدم فعاليتها في منع العنف الحكومي، مما أدى إلى ميل العديد من العمال، من بينهم قطاعات من الحزب الشيوعي إلى صف الثوار المسلحين. حتى إضراب آب/أغسطس ١٩٥٧، على الرغم من كونه أكبر تحرك ضد باتيستا قبل فراره، لم يهدد النظام بشكل فعلي. في الظروف التي يكون فيها النظام على استعداد لشن حملة وحشية لقمع محاولات العمال للدفاع عن أجورهم وتحسين ظروف عملهم، فإن الأساليب التقليدية للعمل الجماهيري، كالإضراب والتظاهر والمقاطعة… تصبح غير كافية. كذلك، تؤدي حرب العصابات المسلحة التي لا تحظى بدعم جماهيري إلى عزلتها وهزيمتها. وبالتالي حصل انتصار القوى الثورية في كوبا عام ١٩٥٩ لأنهم استعملوا مزيجاً ناجحاً من هذه التكتيكات.
أدى فشل هجوم النظام في صيف عام ١٩٥٨ إلى نشوء مكانة هائلة للثوار المسلحين وأفقد النظام الدعم من داخل طبقة رجال الأعمال. وأجبر تقدّم الثوار المسلحين اللاحق إلى الفرار من البلاد، وفي وقت تمكنت القوى الثورية من إسقاط الديكتاتور، لكن ذلك لم يضمن انتصارها. بدلاً من ذلك، كان الإضراب العام الذي دعا إليه فيديل كاسترو في بداية شهر كانون الثاني/يناير حاسماً في منع انقلاب الجيش الذي كان من شأنه إطالة الحرب. لم يكن هذا الإضراب العام عفوياً، إنما كان نتيجة إعداد دقيق. كانت الجبهة العمالية الوطنية المتحدة مسؤولة عن عقد مؤتمرين عماليين حضره عدد كبير من المناضلين في الأراضي التي سيطر عليها الثوار المسلحون في كانون الأول/ديسمبر عام ١٩٥٨. فوافق هذان المؤتمران على تنظيم إضراب عام في بداية حصاد موسم السكر المقبل، والمقرر أن يبدأ في شهر كانون الثاني/يناير. إلا أن باتيستا هرب قبل ذلك، وكان تقديم موعد الإضراب العام ضرورياً لمنع الانقلاب العسكري المخطط له لمنع انتصار الثوار. كان الإضراب الأكمل في تاريخ كوبا وكفل الإطاحة بالنظام القديم. في نفس الوقت، لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية الإضراب في تحديد المسار المستقبلي للأحداث.
كيف يمكن وصف الثورة الكوبية؟
مثل العديد من حالات النزاع، يحصل العديد من النضالات الموازية للثورة، حيث يشارك بعض المقاتلين دون غيرهم تبعاً لمعتقداتهم السياسية ومصالحهم الطبقية. كان التمرد حرباً أهلية، وصراعاً طبقياً، وحركة مناهضة للامبريالية، وثورة ديمقراطية، ونضالاً من أجل الاستقلال الوطني ضد الاستعمار الجديد، وحملة ضد الفساد، وحدثاً ضمن الحرب الباردة. ومع ذلك، فإن الفترة الممتدة بين ١٩٥٢ ونهاية العام ١٩٥٨، لم يكن هناك أي تنظيم أو مجموعة يطالب علانية بالاشتراكية. كان العديد من مؤيدي الثورة من البرجوازية الصغيرة ومن قطاع المهن الحرة والإدارية الذين كانوا مهتمين بالديمقراطية ومكافحة الفساد، إضافة إلى أنهم ضاقوا ذرعاً من وحشية النظام، إلا أنهم كانوا مهتمين بضرورة اتخاذ الحكومة قرارات تعزز القطاعات الإنتاجية في الاقتصاد. كما أن شريحة من رجال الأعمال دعمت الثورة، إذ بدلت ولاءها السابق لباتيستا، لأنها شعرت أن الأمور لا يمكن أن تستمر كما كانت، وأيدت أي حل يعد بالعودة إلى الاستقرار، وأي شروط يفرضها هذا الحل هي أفضل من الفوضى السائدة. يمكن أن نضيف إلى كل ذلك، الأسباب الشخصية الكامنة وراء العديد من ردود الفعل ضد عنف الدولة الذي طال أغلب العائلات. لم يكن لهذه القطاعات المؤيدة للرأسمالية أي اهتمام يذكر بجوانب الصراع المتعلقة بالمناهضة للإمبريالية والحرب الباردة، على الرغم من أن أجزاء من الأوليغارشية المهيمنة على قطاع السكر قد انجذبت إلى المقولات القومية الاقتصادية، إلا أنها كانت معادية بشكل أساسي لزيادة حقوق العمال.
العمال الذين دعموا قضية الثوار إنما فعلوا ذلك على عدة مستويات؛ كمواطنين، كانوا جزءا من الاستياء العام من الفساد والرغبة في عودة الديمقراطية. وكمؤمنين بسياسات طبقية للعمال، انعكس ذلك في المطالبة بتطهير النقابات العمالية وضمان حقهم بانتخاب القيادات النقابية. لم تكن مطالبات مجردة، إنما مرتبطة بإعادة تأسيس الحركة النقابية كوسيلة للدفاع عن الأجور والوظائف وحقوقهم، وبالتالي ارتبطت مشاركتهم ارتباطاً وثيقاً بالصراع الطبقي. كانت المطالب المعلنة للحركة العمالية الثورية إصلاحية ومرتبطة برفع الأجور وزيادة فرص العمل. ومع ذلك، وعلى الرغم من عدم وجود أي مطلب للعمال يتعارض بشكل جوهري مع الرأسمالية، إلا أن هذه المطالب لم تكن سهلة على الرأسمالية الكوبية في ضوء موقعها في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي. كان التنافس الدولي يعني أنها يمكنها الاستفادة من سوق قادر على استثمار الأموال في مناطق من العالم حيث تكاليف الأجور أقل. هذا التناقض، أدى إلى دعم الطبقة العاملة للتدابير المناهضة للرأسمالية بعد انتصار الثوار.
في الفترة الممتدة بين عام ١٩٥٢ وعام ١٩٥٩، تزايد انخراط الطبقة العاملة في مسار الثورة كجزء من تحالف عابر للطبقات، وكان لنضالها مساهمة حيوية في نجاح الثورة. بدون هذه المساهمة من العمل المنظم، ما كان يمكن للثورة الكوبية أن تنجح.
#ستيف_كوشيون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما هو دور الحركة العمالية المنظمة في الثورة الكوبية؟
المزيد.....
-
محتجون في بنما يحرقون صور ترامب وعلم الولايات المتحدة (فيديو
...
-
الشيوعي العراقي يُحشّد لاحتجاجات الكهرباء ويطالب بحلول جذرية
...
-
بلاغ صادر عن الاجتماع الاعتيادي للجنة المركزية للحزب الشيوعي
...
-
هجوم ماغديبورغ.. حزب البديل يدعو لمسيرة حداد ومهاجمة سياسية
...
-
صوفيا ملك// لنبدأ بإعطاء القيمة والوزن للأفعال وليس للأقوال
...
-
الليبراليون في كندا يحددون خليفة لترودو في حال استقالته
-
الشيوعي العراقي: نحو تعزيز حركة السلم والتضامن
-
كلمة الرفيق جمال براجع الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي ال
...
-
الفصائل الفلسطينية تخوض اشتباكات ضارية من مسافة صفر وسط مخيم
...
-
الجيش اللبناني: تسلمنا مواقع عسكرية من الفصائل الفلسطينية
المزيد.....
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
/ أزيكي عمر
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
المزيد.....
|