|
الطريق لفهم الله: مقالة في أهمية الفلسفة
خالد تركي آل تركي
الحوار المتمدن-العدد: 6983 - 2021 / 8 / 9 - 23:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في جميع الديانات نجد أن هناك عشرات الآيات التي تنص على تدخل الله بشكل مباشر ومادي من خلال المعجزات أو العقوبات، وكل مؤمن يُسلِّم بصحتها حتى وإن لم يفهم أو يقتنع، لكن يبقى هناك تساؤل يلح على عقل المؤمن ولا يمكنه الخلاص منه: لماذا الإله الذي كان يعمل في السابق بشكل واضح لا نرى له اليوم أي أثر مادي يدل على وجوده واهتمامه بعباده المؤمنين والمظلومين والأبرياء وحمايته لهم؟ وهذا التساؤل له ما يبرره عقلياً وواقعياً، لكن لو نطرنا إلى السبب الرئيسي الذي يقف خلفه وغيره من التساؤلات المشابهة، سنجد أن ذلك يعود إلى التصور المغلوط عن كيفية عمل الله والنابع بدوره من عدم فهم الله، والفهم هنا ليس المراد به الإدراك بالصورة الكلية، لأن الله جلَّ جلاله لا يمكن أن يُدرَك(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)الأنعام: ١٠٣، ولكن المقصود هو النظر في الرسائل الإلهية كما وردت في الكتب المقدسة والتراث الديني عموماً. وفهمها فهماً دينياً فلسفياً يورث الطمأنينة ويبدد معظم الشكوك. عندما ننظر إلى المعجزات والعقوبات الإلهية الواردة في القرآن الكريم(عقاب الله لقوم عاد مثلاً أو أصحاب المائدة...إلخ) هذهِ جميعها قد انتهت ولن تحدث مطلقاً، وإن حدثت بصورة أو بأخرى فإن البشر سيعزون أسبابها إلى عوامل بيئية خاضعة لتفسيرات علمية. وفي ظني أن السبب الذي جعل الله يستثني تلك الأقوام بتلك العقوبات أو المعجزات بشكل ظاهر وواضح؛ يعود إلى أن البشرية كانت قريبة من قصة الخلق( نزول آدم عليه السلام إلى الأرض)، فكان الإنسان يعيش غربة تحتاج إلى مثيرات قوية تجعله ينتبه إلى القصة الرئيسية والغرض الأساسي لوجوده على هذهِ الأرض. بمعنى آخر؛ الإنسان حديث عهد بالأرض، لم يعتد عليها ولا يعلم أساساً عن سبب قدومه للحياة، بالإضافة إلى أنه بحاجة إلى ما يعزز إيمانه بالله، وهكذا سارت البشرية عبر الأجيال متناقلين تلك الأحداث في سياقها الديني جيلاً بعد جيل إلى أن يأتي وعد الله ونرى كل ما كنا نقرأ عنه بأبصارنا ونسمعه بأذاننا ونؤمن به بقلوبنا. لكن نحنُ في زماننا هذا قد عرفنا بالتواتر والشهرة والاستفاضة أن كل ذلك حق، ونصت عليه جميع الكتب المقدسة، واطمأنت قلوبنا به(وجود الله، وجود رسالة وهدف وغاية لخلق الإنسان، وجود الأنبياء...إلخ). لذا نحنُ نؤمن أن الله الذي كان يصنع ويعمل بشكل ظاهر وواضح لا زال موجود ولا زال يعمل، لكن بطريقة وأسلوب آخر يتماشى مع تلك الأجيال التي عقبت زمان محمد صلى الله عليه وسلم والتي من المفترض أنها قد فهمت رسالة الله وتشربت جميع القصص والأحداث التاريخية الدينية. ورغم ذلك فإن الله لا يزال يجازي الظالم والمحسن في هذهِ الحياة، لكن هذا الجزاء ليس بالضرورة أن يكون بالصورة التي نتخيلها في عقولنا، والسبب الذي يقف خلف تلك الصور يكمن في التعليم الديني التقليدي الذي جعل الكثيرين يتخيلون ويعتقدون أن الله يفعل على وجه السرعة ماورد في القرآن وصحيح السنة. من هنا لا يكفي الإيمان بالله ولا العمل بأوامره الدينية فحسب، بل يجب فهم الله كذلك، وفهم الله هو الذي سيجعل المؤمن يحتفظ بايمانه حتى في أحلك الظروف والأوقات، والطريق لفهم الله لا يكون إلا بالفلسفة والتصوف، كل منهما يعضد الآخر، من هنا نعلم الحكمة التي جعلت بعض الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم الفيلسوف الكندي يوجبون تعلم الفلسفة. لذا نجده في رسائله يوجه نقداً لاذعاً لمن يحرِّمون الفلسفة بجميع مباحثها، وقد يُرى أن الكندي كان قاسياً في نقده لهم، ولكن عند رؤية مدى وحجم الآثار الناجمة عن غياب الفلسفة في المجتمعات العربية والإسلامية، فإننا حتماً سنلتمس له الأعذار في ذلك، يقول الكندي: "سوء تأويل كثير من المتَّسمين بالنظر في دهرنا، من أهل الغربة عن الحق، وإن تُوِّجوا بتيجان الحق من غير استحقاق، لضيق فطنهم عن أساليب الحق وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي، والاجتهاد في الأنفاع العامة الكل الشاملة لهم ولدرانة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية والحاجب بسدف سجوفه أبصار فكرهم عن نور الحق، ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية التي قصروا عن نيلها وكانوا منها في الأطراف الشاسعة بموضع الأعداء الجريئـة الواترة، ذباً عن كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه ومن باع شيئاً لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين، ويحق أن يتعرى من الدين من عاند قُنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفراً"(الكندي، ص٩). ثم يوضح الكندي أمراً رئيسياً ومنهجياً لمن أراد نقد الفلسفة، وهو أنه لن يتمكن من ذلك إن لم يكن لديه معرفة بالفلسفة، فحتى ينقد أحدهم الفلسفة سلباً أو إيجاباً لابد من الدخول في مضمارها أولاً حتى يُقبَل نقده ويُؤخذ به أو يُرد عليه. ونجد أن رؤية الكندي هي من انتصر في نهاية المطاف، فها هي الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية(مهد الإسلام ومنطلق الرسالة) تعود إلى الفلسفة وتعطيها حقها ومكانتها ونصيبها في التعليم الرسمي وفي الأنشطة الثقافية. وما كان تأسيس جمعية الفلسفة السعودية إلا دلالة واضحة على ذلك. وقد ذهبت الآراء المتشددة والمنغلقة أدراج الرياح وكأنها لم تكن! ووجود الله(عند من اختار الإيمان) لا ينبغي أن يرتبط أو يتحدد بمعجزات أو عقوبات إلهية محسوسة ومشاهدة، لأن شرط الإيمان وحقيقته تصديق وتسليم دون رؤية، لذا كان الإحسان هو أعلى مراتب الدين، وحتى في الكتاب المقدس نجد الآية(طوبى للذين آمنوا ولم يروا) يوحنا ٢٠: ٢٩، وفي السنة النبوية نجد ما يوافق تلك الآية أو الوصية، سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدقك واتبعك ولم يرك ماذا له؟ قال: طوبى له ثم طوبى له) الأمالي المطلقة: ٤٣. كل ذلك يعزز من إيمان الإنسان الباحث عن الله والراغب في الوصول إلى الحقيقة، ويثبت أيضاً مدى نفع الفلسفة في تثبيت عرى الإيمان(وهذا الأمر ليس على إطلاقه، فالفلسفة أولاً وأخيراً ليست ديناً ولا آيديولوجيا)، وأبرز مثال على أهمية الفلسفة للدين نجده في حوار إبراهيم عليه السلام مع ربه(وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) البقرة: ٢٦٠، وهنا من المؤكد أن إبراهيم عليه السلام لم يشك لوهلة في وجود الله أو قدرته، لكنه تجسيد لحوار الإنسان مع الله، تفاعل يكاد أن يكون مباشراً، ولكن لأن الإنسان لا يطيق ولا يحتمل فوق طاقته فإن الله أعطاه مؤشرات تدله على وجود الله وقدرته وتجعله يطمئن إلى حدٍ كبير، وهنا أيضاً نلحظ أن الله لم يعاتب إبراهيم عليه السلام على ما أراد، لأن الله لايريد إيماناً زائفاً مبنياً على الحفظ والتلقين والتسليم دون بحث وتساؤل وتأمل. ومسألة غياب المعجزات والعقوبات بشكلها الوارد في الكتب الدينية ليس دلالة على غياب الله أو حتى نفي وجوده، ومن المفترض ألَّا تكون حجة بذاتها لأنها ستكون في غاية السخف! وكل شخص ظالم أو مجرم فإنه لابد أن يلقى جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الجزاء ليس بالضرورة أن نعلم عنه أو نشاهده بالصورة التي نتمناها، فمجرد تأنيب الضمير الذي يلاقيه المجرم والظالم يُعد عقوبة إلهية كافية ولا تقل في شدتها عن تلك العقوبات الواردة في الكتب المقدسة. المراجع ١.الكندي، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق. الرسائل الفلسفية، بيروت: دار الكتب العلمية. ٢.الدرر السنية https://dorar.net/hadith/search?q=%20%D9%85%D9%86%20%D8%A3%D9%85%D9%86%20&st=p&xclude=&fillopts=on&t=0&d%5B0%5D=1&rawi[]=1008
#خالد_تركي_آل_تركي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة مسلم معتدل
-
المثلية الجنسية: دفاعاً عن إنسانية الإنسان
-
الرقية(العلاج) بالموسيقى
-
ضرورة العلمانية: الأديان قَدَرٌ وفعل والعلمانية تعايش ورد فع
...
المزيد.....
-
فيديو مراسم ومن استقبل أحمد الشرع عند سلّم الطائرة يثير تفاع
...
-
نانسي عجرم وزوجها يحتفلان بعيد ميلاد ابنتهما..-عائلة واحدة إ
...
-
-غيّرت قراراتنا في الحرب وجه الشرق الأوسط-.. شاهد ما قاله نت
...
-
ماذا نعلم عن الفلسطيني المقتول بالضربة الإسرائيلية في الضفة
...
-
باكستان: مقتل 18 جنديا و23 مسلحا في معركة بإقليم بلوشستان
-
واشنطن بوست: إسرائيل تبني قواعد عسكرية في المنطقة منزوعة الس
...
-
قتلى وجرحى في غارات جوية إسرائيلية في الضفة الغربية
-
أحمد الشرع إلى السعودية في أول زيارة له خارج البلاد
-
ترامب يشعل حربا تجارية بفرض رسوم تجارية على كندا والمكسيك وا
...
-
-الناتو- يطالب ألمانيا بزيادة الإنفاق على الدفاع
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|