|
كييركجارد .. القسيس الكئيب
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 6981 - 2021 / 8 / 7 - 14:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ٦٠ - كييركجارد الكئيب
من أوائل المفكرين الذين عالجوا ظاهرة القلق، سورين كييركجارد Søren Kierkegaard -١٨١٣ - ١٨٥٥ م المفكر الدانيماركي الكئيب. بدأ بالكتابة الفلسفية تحت أسماء مستعارة ذات طابع رمزي كعادة العصر، وكانت معظم كتاباته تمردا على النزعة الهيجلية السائدة، رغم أنه ظل يتخبط داخل النظام الهيجلي ولم يستطع تجاوز هذا الصرح العقلي العملاق. وفي هذه الكتابات العديدة طوّر الكثير من الأفكار التي ارتبطت فيما بعد بالفلسفة الوجودية المسيحية، من منظور الإيمان المسيحي، وهذا لتفريقها عن الوجودية المادية عند سارتر وسيمون دي بوفوار أو ميرلوبونتي على سبيل المثال. تتعامل الكثير من أعماله الفلسفية مع القضايا التي تناقش كيف يعيش المرء «كفرد »، مع إعطاء الأولوية للواقع الإنساني الداخلي المعاش والملموس على التفكير النظري المجرد وإبراز أهمية الاختيار الشخصي والالتزام. كان يعاني اكتئابًا عميقًا، ويحس بحزن خانق، لذا تمحورت كتاباته على دراسة نفسية الإنسان من الداخل، وطرح قضايا لم يهتم بها التفكير الفلسفي من قبل، لأنها في الحقيقة لم تعتبر ضرورية للفكر الفلسفي مثل : الحب، الإيمان، المفارقة، الضمير، القلق، اليأس، الموت، والإحساس بالذنب، وغيرها مما يعتمل في أعماق النفس البشرية، واهتم بإثارة الإشكالات من دون أن ينشغل بالأجوبة، فقد أعتبر مهمته في هذه الدنيا كمفكر هي إثارة الإشكاليات في كل مكان، لا أن يجد لها حلولا. كان يعتقد بأن الإنتصار أو النجاح معناه الظفر باللانهائي، والظفر باللانهائي في العالم المتناهي، معناه التألم. لقد كان يقيس الأمور بمقياس اللامتناهي، لهذا ظل طوال حياته في جزع دائم، جزع ميتافيزيقي على الكينونة بأسرها بوصفها كينونة متناهية ناقصة، بينما هدف الإنسان أن يبلغ اللامتناهي، لأنه كان يؤمن بهذا اللامتناهي الذي يتوق للوصول إليه، روحيا وفكريا. سورين كييركجارد يعتبرعالم لاهوت وفيلسوف بروتستانتي معاصر لهيجل ومعارض شرس لفكره العقلاني المجرد. في أعماله ودراساته المتعددة يتساءل عن مكانة الحقيقة ويدافع عن الذاتية la subjectivité. عمله لا يضع الإنسان في نظام نظري صارم، كما يفعل هيجل، ولكن في منظور ديناميكي حيث يكون الفرد هو سيد بناء وجوده. يعتبر أن الفلسفة يجب أن تكون تأملًا في الحياة، وتوضيحًا للوجود البشري وفهم "قدس أقداسه". وهذا بالضبط هو المكان الذي فشلت فيه جميع الأنظمة العقلانية : فهي تثني الفرد عن التركيز على نفسه وإتباع دعوته الأصلية المتمثلة في أن يكون كائنا موجودً وجودا حقيقياا، أي فردًا يحب ويتألم ويخاف وينتابه القلق. هذا المفهوم للحقيقة الإنسانية الذي يفترض أسبقية الداخلية l’intériorité، وأولوية الوجود، مقابل التفكير المجرد، يجعل من كيركجارد في نظر الكثيرين من مؤرخي الفكر الفلسفي كمؤسس للوجودية المثالية، إن صح مثل هذا التعبير. ظهر كتاب "مفهوم القلق - Le concept de l’angoisse" في عام ١٨٤٤ تحت الاسم المستعار Vigilius Haufniensis، وهو الاسم الذي استعاره كييركجارد لهدف فكري وجمالي، والذي أشتقه من مصطلح الذي Vigil يعني اليقظة والحراسة والمراقبة. هذا المصطلح يشير في اللغة الفرنسية إلى مهنة مراقب أو حارس في الشرطة أو في أي منظمة مدنية أخرى، وهي مهنة يمارسها عادة العمال الأجانب مصحوبين بالكلاب المدربة، وعموما هو مصطلح سيء السمعة. ولكنه في صيغته الإسمية يشير أيضًا من الناحية الفسيولوجية إلى حالة اليقظة والتنبه والحذر، لذلك فإن الفكرة التي يجب تذكرها ستكون فكرة المشرف والحارس، أي مراقب ومتابع لظاهرة القلق. يحدد كييركجارد مفهوم القلق في جانبه المزدوج، النفسي والوجودي. من الناحية النفسية، يرتبط القلق بمشاعر الذنب، وهو ما يوضحه كيركجارد من خلال تحليله لقصة السقوط la chute في سفر التكوين la Genèse. على المستوى الأنطولوجي، يرتبط القلق بهذا المزيج الغريب من الرهبة والفتنة التي يثيرها العدم والموت لدى الإنسان، وهو حدس مذهل سيطوره سارتر وهايدجر، دون نسيان "الدين" الفكري للمفكرالدنماركي رغم إختلاف تفسيرهم الوجودي للقلق. بالنسبة لكيركجارد، فإن نقطة الالتقاء بين هذين البعدين للقلق هي فكرة الحرية. في جنة عدن الخرافية، يشعر آدم بالملل ولكن أيضا بالضيق والقلق بسبب حريته تجاه الممكن، لأنه يمكن أن ينتهك النهي الإلهي في أي وقت لعدم وجود ضوابط غير إرادته تمنعه من القيام بأي فعل يشاء. المفارقة التي لا تطاق التي أثارها كيركجارد هي أن القانون الأخلاقي الذي يسمح للكائن الحر بإرتكاب الخطيئة، هو في نفس الوقت قانون ضروري لانتزاع الإنسان من الحياة الحيوانية. في تجربة القلق تجاه العدم، يختبر البشر إحساسًا بنوع من الدوار الأنطولوجي vertige ontologique في مواجهة الاحتمالات اللانهائية التي تولدها حريتهم. في تجربة الدوار الجسدي، ننجذب بالفراغ الذي يخيفنا، بينما في الدوار الميتافيزيقي، نحن مفتونون بالعدم الذي هو في نفس الوقت مصدر هذا القلق. لكن محنة القلق هذه هي بالضبط بالنسبة لكيركجارد ما يجعل البشر يعيشون تجربة أصالة الحرية. عبدالرحمن بدوي في كتابه "دراسات في الفلسفة الوجودية" حدد عدة عناصر من إهتمامات وتوجهات كييركجارد، أعتبرها جديدة في حقل الفلسفة وأثرت تأثيرا كبيرا في الفلسفة الوجودية اللاحقة: ١ - الدعوة إلى الإشادة بالفردية، وتقويم الشخصية الإنسانية، وإحترام القيم الإنسانية الخالصة. ٢ - العناية بتحليل المعاني الأساسية في الوجود الإنساني: من قلق، وخوف، وخطيئة ويأس وفناء ووحدة فردية لا سبيل إلى تمويهها بالمجموع، وحرية أساسية لا سبيل إلى إستلابها. ٣ - في تمجيد الوجدان والإنفعال إلى جانب العقل، بل وفوق العقل، بوصف الوجدان أقدر على أن "يحيا" الحياة من العقل الذي "يتأمل" الحياة من خارج، ولا يعيشها من باطنها. ٤ - في إتخاذ التجارب الحية موضوعات للتفسير والتأمل الفلسفي، بدلا من الإقتصار على التصورات العقلية المجردة، مما يحتم على الفيلسوف أن يعاني ويعيش مشاكله من الداخل، بدلا من معالجتها من الظاهر. في الحقيقة، كل هذه العناصر تجعل كييركجارد في تناقض واضح مع هيجل والفكر الفلسفي عموما، ويجعله مجرد مفكر عاطفي مركزا كل جهوده على تناقضاته الداخلية، أما من الناحية الفلسفية، فإنه من الصعب تصنيفه من بين الفلاسفة، ليس لأنه لم يقدم أي جديد في هذا المجال، وإنما لأن إهتمامانه الفلسفية كانت مركزة على قضية واحدة لا غير. وتكمن أهميته كمفكر لاهوتي، تكمن في تركيزه على أهمية التحليل النفسي وضرورة الإهتمام بالعواطف والأحاسيس المتناقضة داخل الفرد. والفلاسفة الوجوديون من بعده مثل هايدجر وسارتر وجابرييل مارسيل وأونامونو وغيرهم الذين نظموا فلسفيا شذرات كييركجارد ونقوها من شوائب تجربته الفردية الخاصة، ورتبوا إرهاصاته الذاتية في أنظمة فلسفية متناسقة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكلمات فقدت سطورها
-
الشرخ في ذات الله
-
السفر مع أليس
-
الكلمات الغائبة
-
عن الفن والدولار والرأسمالية
-
تمتمة الشفاه المعقمة
-
الله والقلق
-
فلتحترق الملائكة
-
شيلنج وقلق الله
-
ونجرجر هزيمتنا
-
ذوبان الملل
-
القلق الفردي
-
الحروف المسطولة
-
الوقت من ذهب
-
السقوط الحضاري
-
الله والفراغ والذرة
-
عيون الكلاب
-
ظاهرة الوحي والهلوسة
-
الفكر بين العقل والإيمان
-
إشكالية الحرية والموت
المزيد.....
-
لاستعادة زبائنها.. ماكدونالدز تقوم بتغييرات هي الأكبر منذ سن
...
-
مذيع CNN لنجل شاه إيران الراحل: ما هدف زيارتك لإسرائيل؟ شاهد
...
-
لماذا يلعب منتخب إسرائيل في أوروبا رغم وقوعها في قارة آسيا؟
...
-
إسرائيل تصعّد هجماتها وتوقع قتلى وجرحى في لبنان وغزة وحزب ا
...
-
مقتل 33 شخصاً وإصابة 25 في اشتباكات طائفية شمال غرب باكستان
...
-
لبنان..11 قتيلا وأكثر من 20 جريحا جراء غارة إسرائيلية على ال
...
-
ميركل: لا يمكن لأوكرانيا التفرّد بقرار التفاوض مع روسيا
-
كيف تؤثر شخصيات الحيوانات في القصص على مهارات الطفل العقلية؟
...
-
الكويت تسحب جنسيتها من رئيس شركة -روتانا- سالم الهندي
-
مسلسل -الصومعة- : ما تبقى من البشرية بين الخضوع لحكام -الساي
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|