سمير محمود ناصر
الحوار المتمدن-العدد: 1642 - 2006 / 8 / 14 - 10:36
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
إن الإرهاب الدولي لا يقتصر على الجانب السياسي والعسكري فقد امتد في ظل المتغيرات الدولية الجديدة ليشمل الجوانب الإعلامية والفكرية بشكل عام والاقتصادية بشكل خاص, فقد برزت في هذا الصدد العديد من أساليب الترهيب الاقتصادية منها القديم الجديد كالاتفاقات الاحتكارية ومنها الحديث المعاصر المترافق مع عصر العولمة كالمضاربة وافتعال الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية وصولاً إلى الحروب الاقتصادية التي مارستها وتمارسها في معظم الحالات الدول المتقدمة الرأسمالية الصناعية على البلدان الضعيفة النامية بهدف فرض إرادتها عليها.
يُظهر "بول هيرست وجراهام طومبسون" في كتابهما, مالعولمة – الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم" أن هناك عدة مستويات للتحكم الاقتصادي العالمي, ومن آليات التحكم القائمة حالياً في الاقتصاد العالمي, التحكم عن طريق الاتفاق بين الكيانات السياسية الكبرى, وخاصة الثلاث الكبار (وهي أوروبا واليابان وأمريكا الشمالية) لتنسيق السياسات المالية والنقدية "الاقتصادية", بالإضافة إلى التحكم من خلال قيام عدد كبير من الدول بإنشاء هيئات عالمية لضبط بعد معين من النشاط الاقتصادي, أو سلطات أخرى ممكنة لمراقبة الاستثمار الأجنبي مثلاً.(1)
وقد قام الثلاثة الكبار بتشكيل كارتلات وتكتلات الهدف منها التصرف بشكل جماعي ومتماسك تجاه الدول الأخرى وصولاً للضغط عليها وتهديدها بفرض العقوبات والجزاءات عليها إذا لم تمتثل لرغباتها, وقد تحولت هذه التجمعات إلى منابر للترهيب والتهديد. فمجرد تشكيلها ومعرفة أعضاءها وغاياتها يثير الكثير من التساؤلات التي تدل على ممارسات وأساليب جماعات الضغط الاقتصادية الدولية. ومن أبرز هذه التكتلات:
1- الكارتلات المالية "نادي باريس ونادي لندن".
2- الكارتل النفطي "وكالة الطاقة الدولية".
3- كارتل رؤوس الأموال الأجنبية "الاتفاقية متعددة الأطراف للاستثمار".
1- الكارتل المالي (ناديي باريس ولندن):
كانت الدول الصناعية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة ترفض ولفترة طويلة اتخاذ إجراء عام بشأن تخفيف أزمة الديون (عن البلدان النامية). زد على ذلك فإن الدول الصناعية أخذت تسعى إلى تجميع الدائنين من مصارف ومؤسسات غربية في نواد مثل نادي باريس ونادي لندن. وكان الهدف من هذا التكتل هو التصرف بشكل جماعي ومترابط تجاه البلدان النامية, مما يتعارض أصلاً وقوانين الاقتصاد الحر "الذي تدعو إليه هي نفسها".(2)
أ - نادي باريس: يضم نادي باريس الذي يجتمع برئاسة مدير الخزانة في وزارة المالية الفرنسية, الدائنين من القطاع العام في البلدان المتطورة, كما يضم, بصفة مراقب, الهيئات الدولية (البنك الدولي, وصندوق النقد الدولي).
عقد أول اجتماع مع دولة مدينة عام 1956 عندما وافقت الأرجنتين على الاجتماع بدائنيها العموميين في باريس. ويبلغ عدد أعضاء النادي 19 عضواً دائماً هم: النمسا واستراليا وبلجيكا وكندا والدنمارك وفنلندا وفرنسة وألمانية وايرلندا وإيطاليا واليابان وهولندا والنرويج وروسيا الاتحادية وأسبانيا والسويد وسويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. أما الدول المدينة فعددها 77 دولة في أفريقية وآسيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية.
ومنذ عام 1956 أبرمت الدول الدائنة الأعضاء في النادي ما يزيد عن 343 اتفاق تتعلق بي 77 دولة مدينة, وتلتقي الدول الدائنة من 10 إلى 11 مرة في العام للتفاوض أو التباحث فيما بينها بشأن موقف الديون الخارجية للدول المدينة أو القضايا المنهجية الخاصة بديون الدول النامية, وتعقد هذه الاجتماعات في باريس.
يجتمع الأعضاء في النادي للتوافق على إعادة جدولة الالتزامات المالية للحكومات المدينة حيال الدائنين, وعلى تقاسم الجهود التي يجب بذلها من قبل كل طرف من الدائنين. وتفرض قواعد محددة حدوداً ضيقة يجب أن تتحرك ضمنها عملية إعادة الجدولة.
ففي المقام الأول, لا يقبل النادي الاجتماع لبحث شأن بلد مدين إلاّ إذا وقّع اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي لتنفيذ برنامج التصويب الاقتصادي, ولا يمكن خرق هذه القاعدة, التي فرضت منذ عام 1966, إلا إذا لم يكن البلد المدين عضواً في صندوق النقد الدولي, كما كان الحال مع بولونيا في العام 1981. (من هنا لا تعقد إعادة الجدولة إلا في حدود التزام البلد المدين باتجاه إجراءات تصحيح المسار الاقتصادي).
وفي المقام الثاني, لا يتناول البحث إلا اعتمادات المصدر العام, (وتستفيد الاعتمادات التجارية من ضمانة حكومية أيضاً). وفضلاً عن ذلك فلابدّ من موافقة المدين على الأقل, على وضع جهوده لسداد الدين على صعيد واحد حيال الديون المقدمة من قبل المصارف التجارية. (ومن الديون العامة تعتبر الديون المقدمة من قبل الهيئات المالية الدولية غير قابلة للبحث). كما أن المباحثات لا تتناول من حيث المبدأ إلاّ استحقاقات سداد الدين الأساسي, وليس دفعات الفائدة.(3)
إن قمنا بحساب الديون التي تثقل كاهل "دول عالم الجنوب النامي" فإننا نلاحظ أن نادي باريس يدين غالبية تلك الدول بمبالغ طائلة تصل في بعضها إلى ما يزيد عن مئة وعشرون مليار دولار, كالمكسيك على سبيل المثال.
كما تمكن نادي باريس من السيطرة على اقتصاديات كبريات الدول المنتجة للنفط بما في ذلك (نيجيريا والمملكة العربية السعودية والجزائر وغيرها), فهي مدينة له بمئات المليارات من الدولارات, وأصبحت ودائعها في المصارف التابعة له رهينة لسداد الديون, أو بالأحرى فوائدها, بحيث بقيت مبالغ تلك الديون على حالها, ولا تبدو بارقة أمل بإمكانية تناقصها إلاّ في حالات قبول شروط سياسية واقتصادية في مراحل معينة تحددها الدول المسيطرة على ذلك النادي.(4)
بـ - نادي لندن: على عكس مثيله الباريسي, ليس لنادي لندن وجود صريح, فتحت هذا الاسم, وفي بعض الأحيان, تجتمع لجان خاصة تضم المصارف الرئيسية الدائنة في الحالات التي يدفع فيها الوضع لبلد مدين الجماعة المصرفية الدولية للبحث معه في عقد اتفاق ينظم التزاماته المالية.
وتعتبر المباحثات في شؤون الديون مع المصارف الخاصة أحدث بكثير من تلك المباحثات التي جرت في نادي باريس، ولم تصبح ذات أهمية جادة إلاّ في الثمانينات غير أنها الآن تحمل رهاناً كبيراً يعود ذلك لسببين على الأقل:
السبب الأول: هو أن المبالغ المعنية أكبر بكثير من المبالغ المتباحث في شأنها في نادي باريس... وأصبحت إعادة البحث في الديون مع المصارف ضرورة مطلقة بالنسبة, لعدد كبير من مديني العالم الثالث, بسبب الارتفاع الشديد لأعباء الفائدة على هذه الديون.
والسبب الثاني: هو أن تعاون المصارف في ما بينها في المباحثات مع المدينين العاجزين كان أساسياً للوصول إلى توازن مقبول من وجهة نظرهم.
ورغم أن إعادة البحث للديون ذات طابع خاص تماماً, فإنها مستقلة عن عمل المؤسسات المالية الرسمية. ويعود ذلك إلى واقع أن المصارف تطلب في الغالب من مدينيها الحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي, مما ينطوي على إتباع سياسة (إعادة هيكلة اقتصادية) مقبولة من هذه الهيئة. وفضلاً عن ذلك, كان تدخل المؤسسات المالية الدولية في المباحثات المصرفية, إثر "مبادرة برادي",(5) بشكل نصائح "ومساهمات بتحويلات جديدة إضافية", يصبح واضحاً أكثر فأكثر, وأصبح الدائنون من القطاعين العام والخاص بالتالي مدعويين حتماً للتناقش أكثر فأكثر.(6 )
وهكذا إذا تعثرت الدولة المدينة في السداد لأسباب داخلية أو خارجية تكون أمام خيارين كلاهما مرّ: فإما إنكار الدين والتوقف عن السداد, وهو أمر في غاية الخطورة على الجدارة الائتمانية والسمعة الاقتصادية للدولة, وقد يعرضها لعقوبات اقتصادية وسياسية وربما لتدخل عسكري ضدها. أو اللجوء إلى عملية إعادة جدولة للديون الخارجية, وتعني قيام الدولة بطرق أبواب الصندوق والبنك الدوليين للاتفاق مع الدول الدائنة على كيفية وشروط إعادة الجدولة إذ تلجأ الدول الدائنة إلى الصندوق والبنك للقيام بدور الوسيط بينها وبين الدول المدينة فتذهب إلى نادي باريس حيث تبدأ رحلتها مع شروط جديدة تختلف تماماً عن الشروط الأصلية التي تمت على أساسها هذه الديون ويتم وضع هذه الشروط والاتفاق عليها خلال خطوتين هما:
- اتفاق الدول المدينة على برنامج إصلاح اقتصادي وتصحيح هيكلي مع صندوق النقد الدولي.
- الحصول على موافقة جماعية من الدول الأعضاء بنادي باريس على شروط إعادة الجدولة.
بعد أن يقدم البلد المدين طلباً بإعادة جدولة ديونه تتولى سكرتارية نادي باريس جمع المعلومات عن الحالة الاقتصادية لهذا البلد من سلطاته العامة ومن الدول والمؤسسات الدائنة. وتحتوي المعلومات على تحليل دقيق للوضع الاقتصادي والمالي وحجم الديون الخارجية وتقسيماتها حسب مصادرها وتواريخ استحقاقها, كما تتأكد السكرتارية من تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي, ثم يوجه رئيس النادي دعوة إلى ممثلي الدول الدائنة وممثل الدولة المدينة لحضور الاجتماعات وبعد مفاوضات لا تستغرق أكثر من ثلاثة أيام يتخذ الدائنون قرارهم بتوافق آرائهم. ويتضمن هذا القرار, الذي يعرض على ممثل الدولة المدينة للموافقة عليه, تفاصيل إعادة جدولة الديون, ولكن هذا الاتفاق هو في الواقع "توصية" تدعو حكومات الدول الدائنة إلى عقد اتفاقات ثنائية مع حكومة البلد المدين فعلى سبيل المثال بعد أن قرر النادي في تموز 1995 إعادة جدولة 7320 مليون دولار من مديونية الجزائر لمدة 15 سنة مع فترة سماح لمدة أربع سنوات, عقدت الجزائر اتفاقات ثنائية مع الولايات المتحدة وكندا واليابان و14 دولة أوروبية.
وتستند إعادة الجدولة على مبدأ كل حالة على حدة, فالاتفاق الخاص بدولة معينة لا يسري على دولة أخرى، وإن تشابهت أحوالهما التجارية والمالية، والقرار المتخذ بشأن دين معين لا يسري على دين آخر لنفس الدولة, كما لا يستخدم نادي باريس طريقة موحدة لإعادة الجدولة فهناك (البنود التقليدية, وبنود هيوستن لعام 1990, وبنود نابولي لعام 1994, وبنود كولونيا لعام 1999) ونادي باريس لا يوافق على إعادة الجدولة إلاّ إذا استفحل العجز في ميزان مدفوعات الدولة المدينة أو ازدادت متأخرات ديونها، وتبرم الاتفاقات بعد تطبيق البرنامج الإصلاحي المقترح من صندوق النقد على الدولة, ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد, فلا بدّ من الاستمرار ببرامج الإصلاح قبل وطيلة فترة الاتفاق على إعادة الجدولة, ففي المغرب مثلاً البرامج مطبقة منذ عشرين سنة.
يهتم نادي باريس بمصالح الدول الدائنة, فجميع أنماط إعادة الجدولة نابعة عن قرارات اتخذتها قمة الدول السبع الكبرى, والتي في أغلب الأحيان تعتمد مفهوم الديمقراطية (الذي يعني ملائمة أنظمة الحكم في البلدان النامية مع تطلعاتها السياسية ومصالحها الاقتصادية)، وهكذا أخذ نادي باريس يلغي ديون بعض الدول ويعيد جدولة ديون دول أخرى بشروط مختلفة أو يرفض القيام بهذا أو ذاك وانطلاقاً من حالات إلغاء ديون البلدان النامية نستنتج أن الدول الصناعية الكبرى تسعى إلى استفحال المديونية الخارجية لهذه البلدان بطرق عديدة, منها بيع الأسلحة وتمويل مشاريع غير إنتاجية, ثم يجري إلغاء قسط من الديون يتناسب حجمه مع المكاسب السياسية والاقتصادية للدول الدائنة, فلو كانت هذه الدول حريصة فعلاً على سلامة مالية البلدان المدينة وعلى مستوى معيشة مواطنيها لبذلت الجهود في سبيل إزالة العقبات أمام صادرات البلدان النامية.(7)
وفي السنوات الأخيرة بدأنا نسمع عن شروط لمكافحة الفساد, وتوفير مبادئ الديمقراطية أو مبادئ الحكم الرشيد, وحماية حقوق الأقليات السياسية أو الدينية وبعد أحداث 11 أيلول بدأت هذه الدول تلوح بإجراءات مكافحة الإرهاب التي تقوم بها الدول كشرط لتدفق رؤوس الأموال إليها سواءً في صورة معونات أو قروض, وقد جسّد الرئيس بوش هذه الشروط في خطابه أمام مؤتمر الأمم المتحدة لتمويل التنمية الذي عقد في المكسيك في الفترة 18 – 22 آذار 2002 حيث أكد أن "تدفق رؤوس الأموال إلى الدول النامية والفقيرة سيتوقف على احترام هذه الدول لحقوق الإنسان واتخاذها إجراءات فعّالة لاقتلاع جذور الإرهاب والفساد فضلاً عن فتح أسواقها.. وإن الولايات المتحدة ستتعامل بشكل صارم مع ذلك".
هذه التوجهات الأمريكية جعلت البعض يصف هذه الشروط بأنها محاولة لابتزاز الدول النامية والفقيرة واستغلال ظروفها الاقتصادية الصعبة لإجبارها على انتهاج سياسات تحقق مصالح الدول الصناعية الكبرى.(8)
2- الكارتل النفطي (وكالة الطاقة الدولية):
لقد أقامت الدول الصناعية المستهلكة للنفط عام 1974 منظمة الطاقة الدولية بتخطيط من مهندس وزعيم "حركة التجمع الصناعي الغربي" لمواجهة دول الأوبك, وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر" ففي تشرين الأول 1973 اقترح هنري كيسنجر على دول أوروبة الغربية واليابان تشكيل منظمة تعنى بشؤون الطاقة والنفط لصالح الدول الصناعية الغربية الكبرى وتقف في وجه الأوبك لتحد من سيطرتها على سوق النفط العالمي. وعقد الاجتماع الأول لهذه الدول في العاصمة الأمريكية "واشنطن" في شهر شباط 1974 وأقرّ تشكيل مجموعة التنسيق في مجال الطاقة لتضطلع بمسؤولية إنشاء منظمة دائمة للطاقة تعمل على تحقيق الاقتصاد في استخدام الطاقة والبترول وإجراء البحوث والدراسات من أجل إيجاد بدائل للبترول وإيجاد نظام لتوزيع وتقاسم البترول في حالة الحظر البترولي.
ولدت المنظمة الدولية للطاقة في 15/تشرين الثاني/1974 باتفاق وقعه جميع الأعضاء المؤسسين في اجتماع واشنطن, بالإضافة إلى بقية الدول الغربية في منظمة التعاون الاقتصادي (حيث تعتبر المنظمة إحدى المنظمات المستقلة في إطار منظمة التعاون الاقتصادي).
أما التنظيم الإداري للمنظمة الدولية للطاقة فيتكون من المجلس الحاكم ,والمجموعة الخاصة بالحالات الطارئة, والمجموعة الخاصة بالتعاون طويل الأجل, والمجموعة الخاصة بسوق النفط, المجموعة الخاصة بالعلاقات مع الدول المنتجة والدول المستهلكة الأخرى, بالإضافة إلى اللجنة الخاصة بأبحاث الطاقة والتنمية.
ويتألف المجلس الحاكم من الوزراء أو ممثليهم, وتنقسم القوة التصويتية لكل دولة في المنظمة إلى قسمين: الأول, يعتمد على مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء والثاني, يعتمد على وزن الدولة في مجال استهلاك الطاقة.(9)
بناءً على ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية, تتمتع بأكثر من ثلث القوة التصويتية في المنظمة (47 من 100 صوت من مجموع الأصوات), وتملك بالتالي حق الفيتو بالنسبة للقرارات الهامة التي تتطلب أغلبية عالية. فعلى سبيل المثال يتطلب أي قرار يتعلق بإجراءات طارئة ستين في المائة من الأصوات, هذا يعني بشكل عملي أن القرار لن يمر بدون موافقة الولايات المتحدة الأمريكية... وهكذا يتضح إن سوق النفط العالمية اليوم لا تسوده الحرية الاقتصادية "التي يتذرع بها الغرب الرأسمالي" بل تسيطر عليه وتوجهه اليد الخفية للدول الصناعية الكبرى المستهلكة للنفط, فالمقولة الأمريكية والغربية, بأن سعر البترول تحدده عوامل العرض والطلب في سوق نفطية حرة ليس إلاّ غطاء تخفي تحته الدول الصناعية الباطنة المؤثرة في عمليات العرض والطلب في سوق النفط العالمي, وبالتالي على أسعاره. وهكذا يتم حصر حركة الأسعار ضمن حدود وضعت من أجل خدمة المصالح الاقتصادية الكبرى للدول المستهلكة للنفط على حساب الدول المنتجة والمصدرة له.(10) فمن خصائص السياسة السعرية هذه (التذبذب بين حدين, حد علوي, وحد سفلي), هذان الحدان يتغيران حسب الزمان صعوداً وهبوطاً لكنهما يظلان السقف والقاعدة للنفق الذي أقامته منظمة الطاقة لأسعار النفط العالمية لمحاصرة أسعار النفط بين قاعدته وسقفه.. فحركة الأسعار الفصلية قد تخرج عن الحد السفلي أو العلوي ولكن لفترة تعود بعدها إلى داخل النفق, إن لم تعد الأسعار من ذاتها إلى داخل النفق عند انتهاء السبب لخروجها ستقوم منظمة الطاقة الدولية بمحاولة إعادتها إلى النفق لأن بقاءها خارجه يتعارض مع استراتيجيتها النفطية ومصالح أعضائها الاقتصادية. وهذا طبعاً على حساب الدول المنتجة والمصدرة للنفط.(11)
3- كارتل رؤوس الأموال الأجنبية (الاتفاقية متعددة الأطراف للاستثمار):
فبدعم من الاتحاد الأوروبي وبدعوة من أوساط التكنوقراطيين الاقتصاديين الليبراليين, اقترحت منظمة دول التعاون والتنمية الاقتصادية عقد "الاتفاقية متعددة الأطراف للاستثمار" وذلك بهدف تنسيق أعمق متعدد الأطراف في قضايا الاستثمار الأجنبي المباشر ولإيجاد وتطوير بنية مؤسساتية جديدة تعمل على ضبط الاستثمار الأجنبي المباشر في ضوء النمو الهائل لهذا الاستثمار وازدياد أهميته الاستراتيجية في المستقبل لصوغ الاقتصاد العالمي.(12)
فمنذ 1995 تم التفاوض بقيادة "إدارة العمل" في منظمة التعاون الاقتصادي حول حماية الاستثمارات الأجنبية. وقد بدأت المفاوضات لوقت طويل, وفي سياق هذه الاتفاقية تلتزم الحكومات بحماية الاستثمارات الأجنبية الخارجية (مثل شراء أو تأسيس مواقع للإنتاج, صفقات العملات, شراء الأسهم, ملكية وشراء العقارات, شراء الخامات). كما وتلحظ بعض نصوص العقود في الاتفاقية, على تعويض الشركات, من جراء الإجراءات السياسية, التي تقود إلى تخفيض الأرباح. ويعد رفع الضرائب على الشركات لأسباب اجتماعية, وقوانين حماية البيئة, أو جمعيات حماية المستهلك, إجراء لإنقاص فرص الربح, وبالتالي فمن حق المستثمرين المطالبة بالتعويض, وتلحظ البنود الخاصة حول "الحماية من الاضطرابات" تعويض المستثمر في حال "أحداث الشغب والاضطرابات السكانية" وعند المقاطعة والاضطرابات فالتكلفة الطبيعية للمستثمرين تعني أنه يمكن مقاضاة حكومات تلك البلدان لتعويض الأضرار. كما تنص الاتفاقية على أنه يجب معاملة المستثمرين الأجانب كما المحليين, ولا يسمح للحكومات عند بيع المصانع الحكومية للمستثمرين الأجانب ربط ذلك بمسألة التشغيل, فعندما يتم تخصيص الشركات العامة من خلال بيعها, لا يعود المستثمرون المحليون يتمتعون بالأفضلية حيال ذلك. وتشكل مدة نفاذ أو سريان الاتفاقية, هي الأخرى مثالاً فريداً من نوعه, فمن يكون عضواً فيها لمرة واحدة يستطيع أولاً بعد خمس سنوات تقديم طلب سحب عضويته, وبعد ذلك تبقى العضوية مستمرة خمس عشرة سنة وبعد الموافقة على الاتفاقية من المنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية سيسمح للدول النامية بالانضمام إليها, الأمر الذي سيقود إلى نتائج كاريثية على الصعد كافة في هذه الدول، ولو أن المستثمر شعر "بالضرر" لأمكنه مقاضاة ذلك البلد الذي حصل فيه الضرر, أمام محكمة دولية يختارها هو, ويصبح حق المواطن أو الاتحادات لتمثيل مصالح المواطنين مقابل الشركات الكبرى, مجرد حلم, إذ يمكن للمستثمرين رفع شكواهم أمام هيئة تحكيم لغرفة التجارة الدولية حيث القضاة "متميزون", وحيث يتأكد المستثمرون بحصولهم على تعويضات الضرر, مقابل شكواهم.
وتشكل هذه الاتفاقية ومحاولة منع نقاش محتواها للتمهيد بالموافقة عليها, المثال الصارخ لخضوع العولمة للإمكانية السياسية فقط ومعها أيضاً المصالح التي تقبع خلف الشركات الاحتكارية الكبرى والنموذج الاقتصادي الليبرالي هذا. (13)
وهكذا يظهر مما سبق أن تشكيل الكارتلات والاتفاقيات الاحتكارية من قبل الدول الصناعية المتقدمة يؤمن لها تحقيق أهدافها في الوصول إلى أسواق البلدان النامية وبأرخص تكلفة, عبر ترهيب تلك البلدان وتهديدها من خلال تحكمها بالاستثمارات المباشرة في الدول النامية, وتحكمها بأسعار النفط والغاز, أو من خلال افتعال الأزمات المالية والاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية.
المراجع :
1 - انظر, بول هيرست, جراهام طومبسون, مالعولمة- الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكم، ترجمةالدكتور فالح عبد الجبار، سلسلة عالم المعرفة عدد 273 تلريخ ايلول 2001، المجلس الوطني للثقافة، الكويت, ص283.
2 - محسن فؤاد صيّادي, ديون البلدان النامية ومواقف الجهات الدولية والإقليمية منها, دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، 1991 ، ص88.
3 - انظر, جان كلود برتيليمي, ديون العالم الثالث,تعريب حسين حيدر، دار منشورات عويدات، بيروت، 1996 ، ص81, ومحمد عبد العاطي, نادي باريس, الجزيرة نت, بتاريخ 21/4/2002.
www.aljazeera.net/in-depth/arabic-depts/2002/4/4-21-4.htm
4 - انظر, د. زهير غزاوي, المؤسسات المالية الدولية..., الثورة, عدد11787.
5 - مبادرة برادي: في آذار 1989 (باسم وزير الخزانة الأمريكية) صاحب المبادرة التي حاولت إقامة الوسائل التي تتيح للمصارف تلبية حاجات التمويل للبلدان النامية دون أن تزيد المخاطر من جراء ذلك.
6 - انظر, جان كلود برتيليمي, مرجع سابق, ص 82– 83.
7 - انظر, د. صباح نعوش, إعادة جدولة الديون الخارجية, الجزيرة نت, بتاريخ 29/4/2002.
www.aljazeera. net/in-depth/arabic-depts/2002/4/4-29-4.htm
8 - انظر, مغاوري شلبي علي, شروط الديون الخارجية, الجزيرة نت, بتاريخ 4/ 5/2002. ود. صباح نعوش, إعادة جدولة الديون الخارجية, الجزيرة نت, بتاريخ 29/4/2002.
www.aljazeera. net/in-depth/arabic-depts/2002/4/4-29-1.htm
9 - انظر, عبد العزيز الدخيل, انهيار أسعار النفط لم يكن قضية اقتصادية فحسب, مجلة بحوث اقتصادية عربية, عدد 15, 1999 ، ص16.
10 - المرجع السابق, ص22.
11 - انظر, المرجع السابق, ص 15.
12 - انظر, بول هيرست, مرجع سابق, ص 316.
13 - انظر, جيرالد بوكسبرغر،هارالد كليمنتا، الكذبات العشر للعولمة بدائل ديكتاتورية السوق، ترجمة الدكتور عدنان سليمان، دار الرضا للنشر، دمشق, 1999, ص70.
#سمير_محمود_ناصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟