|
تداعيات الحروب و اثرها على قيم المجتمع
لميس جهاد الحجلي
الحوار المتمدن-العدد: 6975 - 2021 / 7 / 31 - 14:16
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
يعيش الإنسان وفق منظومة أخلاقية و معايير قيمية ، كنهج ضابط لسلوكه ، يطبقها و يسعى إليها ، و تعد القيم التغذية الراجعة ، و مرجعية أخلاقية و موجه للسلوك و العمل . لكن اللافت هو ما تعاني منه مجتمعاتنا العربية من انهيار منظومة القيم الأخلاقية التي كانت تعد مرتكز و موجه للسلوك ، ولعل في زمن الحروب هي إحدى إفرازاتها و نتائجها الخاسرة. فالقيم صفة مكتسبة و متغيرة نتيجة تفاعل الإنسان مع بيئته و تغيرات الوسط المحيط به ، و في أجواء الحروب و حالة الفوضى العارمة ، يسود العنف و يصبح سلوك طبيعي غير مستنكر و ربما مبرر لدى البعض ، و قانون للبقاء و الاستمرار، أي شرعنة العف . فلماذا تختفي الأخلاق في زمن الحروب ؟! في الوقت الحرج الذي تكون المجتمعات و الأفراد في أمس الحاجة للتمسك بالقيم و الأخلاق ، و المعول عليها لأعادة بناء الإنسان و النسيج الاجتماعي في مرحلة ما بعد الحرب . تهدف الحروب إلى خلخلة اللبنات المجتمعية المتمثلة بالأخلاق و التعليم ، و زعزعة الاستقرار الأمني ، و يبدأ تدمير الأخلاق بتشويه صورة الدين ، و إفساد التعليم ، من خلال صرف نظر الناس عن تعلم أي شيء بناء من شأنه الارتقاء بالمجتمع و تطوره و نمائه ، و العبث بالنسق الاجتماعي بنزع الاحساس بالمسؤولية لدى المجتمع ، و تسفيه عقول الشباب بتصديرأفكار و مفاهيم دخيلة على ثقافة مجتمعاتنا ، تعمل على تغيير قناعاتهم و توجهاتهم ، و تضعف حسهم الوطني و الولاء لبلدهم و رموزهم ، و لعل العولمة خير دليل على ذلك . و العمل على تذكية النعرات الطائفية و العصبيات ، لزعزعة الاستقرار الأمني و المجتمعي و صرف نظره عن الأمور المهمة و البحث ، و إفقاد الحس بأهمية احترام الوطن و أسسه و رموزه . إن انهيار منظومة القيم الاجتماعية خاصة بعد سنوات من الحرب ، نتيجة طبيعية و حتمية ، لكن ما يثير الاستغراب و القلق هو الاستجابة السريعة و تسارع وتيرة الانهيار و اختلال القيم في المجتمع ، و الإشارة هنا عموما لكل الدول و المجتمعات التي عانت و ما تزال تعاني تبعات الحرب في دول الربيع العربي ، و في سوريا خصوصا ، فحسب تقارير منظمة حقوق الإنسان ، أصبحت سوريا مركزا للخطف و الدعارة و خطف و بيع الأطفال و الأيتام و الاتجار بالأعضاء البشرية و تداعي المشافي الحكومية و الكشف عن استعراض لعصابات تهريب الأطفال تدار من قبل ممرضين و أطباء كذلك ارتفاع معدل البطالة بين الشباب . كل ذلك أدى إلى فقدان الفرد ثقته بمجتمعه ، و أصبح بنظره مجتمعا مفككا هشا يعاني من انحلال بناه الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و الثقافية ، و وكرا للفساد و الفوضى العارمة و بالتالي عاجزا عن نقل مطالبه للسلطة ، فتتحطم صورة المواطنة في مجتمع متماسك له دولة ، و يلمس المواطن أن دولته منسلخة عن المجتمع ما يؤدي إلى خيبة أمل المواطن في حكومته الخاذلة له و الهاضمة لحقوقه ، العاجزة عن ضمان الحد الأدنى من أمنه و سلامته و توفير الحد الأدنى من العدل و القضاء النزيه كضمان لحقوقه ، فيلجأ الفرد بالضرورة إلى سلوكيات و ممارسات تؤثر سلبا على النظام الاجتماعي ، كظواهر العنف و الفساد الاخلاقي و السرقات و فلتان أمني و اجتماعي خطير . و أضحت قيم التماسك الأسري والقيم الأخلاقية في زمن الحروب ضربا من ضروب التخلف و قد لعبت العولمة و البث الفضائي و الانترنت و الهواتف الجوالة دورا كبيرا في ذلك ، ما أدى إلى استقبال الأبناء لأفكار هدامة من الكثير من المواقع المشوهة للقيم ، و الذي أدى إلى هدم الالتزام الأخلاقي بين أفراد الأسرة التي تعد عماد تماسك المجتمع . كظاهرة العلاقات العلنية و المساكنة خارج مؤسسة الزواج ، والزواج من خارج الملة ، شرب الدخان و الكحوليات للفتيات و الفتيان في عمر صغير ، الدعارة و المخدرات و غيرها الكثير من القصص التي تدل على انهيار اجتماعي مرعب كظواهر غير مسبوقة ، كل ذلك أدى إلى اضطراب قيم التنشئة الأسرية . و تتوالى النتائج الهدامة ، فمن الملاحظ تزايد نسبة الطلاق في مجتمعاتنا العربية ، و يرجع الباحثون أسباب ارتفاع نسب الطلاق و انخفاض نسب الزواج إلى تعرض المنظومة القيمية والأخلاقية في المجتمع لهزات خطيرة تركت أثرا سلبيا في سلوك الأفراد ، و أن معظم أسباب الطلاق ناجمة عن تحول غير مسبوق في عادات و تقاليد و أعراف المجتمع في زمن الحرب ، و شيوع البطالة و صعوبة تأمين لقمة العيش و انعدام الخدمات و تردي الحالة الأمنية ، و المشكلة الأكبر هي نظرة المجتمع للمطلقة و صعوبة تقبلها و دمجها في المجتمع ، كذلك الأبناء الذين هم ضحية هذه الظاهرة المقلقة سيصبحون جيلا مفككا . و لم ينج الوسط التعليمي من أذى الحروب ، فقد وصلت حالة انهيار منظومة القيم في المجتمع خاصة الأخلاقية منها إلى تجاوزات غير مقبولة ، من عدم احترام المعلم إلى التطاول عليه بالكلمات البذيئة و الضرب و التهديد و التهميش ، و الأكثر إيلاما فقدان فئة المعلمين لغطاء يحفظ حقوقهم و يرد اعتبارهم سواء من الحكومات المتمثلة في النقابات التعليمية أو من المجتمع كرادع أخلاقي ، ما أدى إلى فقدان هيبة و قيمة المؤسسات التربوية و التعليمية . و تبرز في زمن الحروب و غياب الغطاء القانوني ظاهرة الفساد و الغش و الرشوة المتفشي في مجتمع متهالك و منخور في الصميم بفعل الفساد الإداري و انهيار المرتكزات الأخلاقية و الاجتماعية التي يقف عليها المجتمع ، و هذه عملية ممنهجة في سبيل ضرب أركان المجتمع في أخلاقه و قيمه لتحقيق النتيجة المرجوة و هي انهيار منظومة الأخلاق في المجتمع و في قراءة إحصائية ، فقد حددت الأمم المتحدة بالإضافة إلى المركز السوري لحقوق الإنسان سلسلة من الأرقام لجرد حصيلة حرب لم تنته حتى العام 2021 ، تسببت في نزوح و تشريد و تجويع الملايين ، و ألحقت أضرارا هائلة بالبنى التحتية و استنزفت الاقتصاد و قطاعاته المنهكة ، ودمار منازل و مرافق و منشآت طبية و تعليمية . فحددت الإحصاءات : 1 – 388 ألف خسائر بشرية ، قتل و اختفاء قسري و تهجير . 2 – قرابة 5,6 مليون نسمة فروا خارج سوريا ثلثهم من الأطفال من عمر 11 و ما دون بحسب إحصاءات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين . 3 – 6,7 مليون سوري فروا من منازلهم على وقع المعارك و الهجمات المتكررة و يعيشون في مخيمات وفق الأمم المتحدة . 4 – أكثر من 2,4 مليون طفل سوري خارج النظام التعليمي و تقدر المم المتحدة أن مليوني سوري يعيشون في فقر مدقع . 12,4 مليون شخص لا يجدون طعام يسد رمقهم وفق برنامج الأغذية العالمي . 5- %60 من الأطفال في سوريا يعانون الجوع ، بحسب منظمة " أنقذوا الأطفال " . 6- 13,4 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية ، وفق الأمم المتحدة . 7- 244 مليار دولار خسائر الاقتصاد السوري وفق تقديرات نشرتها المم المتحدة في أيلول 2020 . %91,5 مليار دولار قيمة الخسائر التي تكبدها قطاع النفط في سوريا و 98% قيمة تدهور سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار في السوق السوداء خلال العقد الأخير . 8- عشرون دولار متوسط الراتب الشهري للموظفين في القطاع العام مطلع عام 2021 ، و خمسون دولار متوسط راتب الموظفين في القطاع الخاص . 10- 136 دولار كلفة السلة الغذائية الأساسية لأسرة مكونة من خمسة أفراد لمدة شهر وفق سعر الصرف في السوق السوداء . 11- 33 مرة هي نسبة ارتفاع أسعار المواد الغذائية في أنحاء البلاد مقارنة بمتوسط خمس سنوات قبل الحرب وفق برنامج الأغذية . 12- 60 ضعفا ارتفع ثمن كيس الخبز ذات النوعية الجيدة في مناطق الحكومة منذ اندلاع النزاع . 13- 300 ليرة سورية ثمن البيضة الواحدة مقابل ثلاث ليرات عام 2011 . 14- خسائر في البنى التحتية ، 70 % من محطات الكهرباء و خطوط إمداد الوقود توقفت عن الخدمة بسبب الحرب ، بحسب بيانات وزارة الطاقة في العام 2019 . تعقيبا على كل ما ذكر نجد أن أخطر دمار هو دمار الإنسان ، فدمار البنى التحتية و غيرها من المنشآت المادية يمكن إعادة بناؤه لكن بناء الإنسان هو الأخطر و الأكثر قلقا ، فعند انتهاء الحرب نقف أمام واقع مؤلم هو تمزق النسيج الاجتماعي ، و انهيار منظومة الأخلاق المجتمعية ،فتزداد الجريمة بكل أشكالها ما يستدعي التصدي لظاهرة فساد الأخلاق ، بإعادة المجتمع للأخلاق و الانتماء الاجتماعي وتعزيز القيم و إعلائها ، و السعي لبناء مجتمع مدني يهدف لخدمة الصالح العام و نشر المواطنة في المجتمع و تحقيق التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و إرساء قواعد الديمقراطية و نشر مفاهيمها و إشاعة الثقافة المدنية في المجتمع من خلال إرساء قيم الاحترام للعمل الجماعي و العمل التطوعي في شتى مناحي الحياة و قبول الاختلاف ، و عدم السعي للوصول إلى السلطة ، فالمجتمع المدني قائم على توحد أفراد المجتمع على مختلف مشاربهم و هويتهم و الابتعاد عن الطبقية و الفئوية على اختلافها ، و إعلاء كلمة القانون و إعادة بناء الأمن لاستعادة الثقة بين قطاعات المجتمع المتنوعة ، و التركيز على تنشيط العملية التعليمية وإعادة بناء التعليم العالي في عملية إعادة البناء في أعقاب الحرب .
#لميس_جهاد_الحجلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنهاء العنف ضد الاطفال ضرورة حتمية في خطة التنمية المستدامة
...
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في غزة.. نصر فلسطيني جزئي بعد خسائر لا يمكن
...
-
خواطر واعتراض واحدة من “أطفال يناير” على ميراث الهزيمة
-
الانتخابات الألمانية القادمة والنضال ضد الفاشية
-
م.م.ن.ص// رقم إضافي لقائمة حرب الاستغلال البشع للطبقة العامل
...
-
الجامعة الوطنية للقطاع الفلاحي تدعو إلى التعبئة قصد التنزيل
...
-
غضب صارخ عند النواب اليساريين بعد تصريحات بايرو عن -إغراق- ف
...
-
النهج الديمقراطي العمالي يحيي انتصار المقاومة أمام مشروع الإ
...
-
أدلة جديدة على قصد شرطة ميلان قتل المواطن المصري رامي الجمل
...
-
احتفالات بتونس بذكرى فك حصار لينينغراد
-
فرنسا: رئيس الوزراء يغازل اليمين المتطرف بعد تصريحات عن -إغر
...
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|