أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بروين حبيب - عن الحب المطلق















المزيد.....

عن الحب المطلق


بروين حبيب

الحوار المتمدن-العدد: 6972 - 2021 / 7 / 28 - 17:31
المحور: الادب والفن
    



أغلب الأدباء أوفياء لطفولتهم، إنها مخزن كبير لتغذية أعمالهم الأدبية، وهي المكان الفريد الذي يجعلهم يشعرون بفرادتهم عن غيرهم، خارج تلك الطفولة تلتقي دروبهم في محطّات متشابهة، وإن اختلفت في بعضها، فإنّها تمضي في طريق مشتركة يسلكها البعض معا، لكنّ المتفق عليه، أن فضاء الطفولة ذاك، يبقى مثل أرض خصبة تكلّله الأمهات بعنايتهن وطيبتهن، وتضحياتهن وسلوكهن الذي يقرر مصائر أبنائهن.
لنقل إنه الحب الأول والدّائم والأخير لكل كاتب وشاعر وفنان. وهو حب لا يمكن اختصاره في النصوص المراهقة التي تشهد على تغيرات أجسادنا لدخول مرحلة البلوغ. حب الأم وما يحيط بها من مكوّنات الطفولة يصبح درعنا الحقيقي وربما الوحيد لمواجهة حياة بأكملها.
يختلف الأمر حين يعيش الشخص في كنف أمّه وعالمها، عن العيش في عالم بعيد عنها. كُتّاب كثر ظلّوا في طفولتهم وهم في عمر متقدم، وكتبوا نصوصا طويلة تكريما لأمهاتهم، خاصة عند اصطدامهم بالشعور باليتم وقد تجاوزوا الخمسين أو حتى السبعين.
الأكيد أن ارتباط الأدباء بأمهاتهم فيه سرُّ كبير معقّد، بيولوجي وروحي. وحين يكتبون في هذا الموضوع فإنّما يعيدون النظر في ماضيهم، يفكّكون شيفراته، ويحاولون فهم كل ما حدث لهم في تلك المرحلة المبكرة من حياتهم، ومن الغرابة أن خبايا كثيرة تطفو على السطح، وتصبح واضحة ومفهومة، حتى أن بعضهم يتحرّر من سطوة طفولته عليه، فيخرج من معتقله الطويل بعد عملية الكتابة تلك. البعض الآخر يجد مواساة لنفسه، فيما قسم كبير يرمم خساراته وفق ما عاشه من حياة مشتركة مع تلك الحبيبة الأولى …
ثمة اعتبارات مختلفة للكتابة عن الأم والطفولة العميقة. إنّها تمرين غير عادي لخوض الكتابة، أو لنقل أقسى تلك التمارين على الإطلاق. وأستعيد هنا تجربة الكاتب النسماوي بيتر هاندكه، التي أودعها في روايته “الشقاء العادي” (ترجمة بسّام حجار)، في خريف 1971 تبلّغ الكاتب خبر وفاة والدته انتحارا، كان في التاسعة والعشرين من عمره، وكانت في الواحدة والخمسين. انتحرت بعد حياة من الكدّ والوحدة. إبنة مزارعين سلوفينين متواضعين، حلمت بالتعلّم، ولكن الأقدار رمتها في مطابخ أحد الفنادق.
عدة أسابيع موت موتها، جلس هاندكه إلى نفسه، وأعاد بناء حياتها البسيطة. كانت تلك أولى محاولاته لمنحها صوتا هي التي عاشت حياتها عاجزة عن الكلام والتعبير. ما جعل الشعور بعدمية وجودها يلازمها إلى لحظة إنهائها حياتها.
تركت رسالة مؤلمة تقول فيها: “أنا أتحدّث إلى نفسي لأنّه بخلاف ذلك لا يمكنني قول أي شيء لأيّ شخص…” ويبدو أن للأمّ لغة أدبية جميلة، وما كل عجزها عن التعبير شفهيا سوى أحد أسباب تفوقها في الكتابة، وهي البذرة التي زرعتها في ابنها، وأثمرت بشكل فاق توقعه.
في مقطع آخر تقول: “أحسّني وحيدة لا رفقة لي سوى الأفكار المحبطة، كنت أودّ أن أكتب عن أشياء أكثر جمالا ولكني لا أعثر على أثر منها”.
ولكي يتوضّح جانب من صورة هذه الأم علينا أن نرى طفولة هاندكه في بيت تتجاذبه الطّاقة السلبية لزوج أمه القاسي في غياب تام لأي حضور لوالدته. جوٌّ عائلي ثقيل غير محتمل، يليه انتقال إلى مدرسة داخلية، ومكتبة فتحت آفاقا مضيئة له.
اهتمام هاندكه بشخصيات الهامش له مرجعية وثيقة بوالدته، بل إن وقوفه ككاتب في المشهد الأدبي أوحى طويلا لقرائه ونقاده ومنتقديه أنّه هو نفسه على الهامش، هذا قبل أن يعيد ترتيب العالم في أدبه وفق وجهة نظره، ويمنح لنفسه ولشخصياته أمكنة مرموقة ذات سلطة قوية فرضت نفسها فرضا.
على عكس والدة هاندكه، كانت والدة رومان غاري لا تكفُّ عن إلقاء دروس النجاح لطفلها، كونها كانت خبيرة في الفشل، وعرفت جيدا كيف يتنكّر للحالمين ويقطف ثمار أحلى فترة من عمرهم.
كل ما أملته من تعليمات لإبنها قبعت في رأسه، وتحوّلت لخارطة طريق، لكن عكس هاندكه تماما، انتحر غاري وليست والدته. وصف حبّه لوالدته بالحب المطلق، في كتابه “وعد الفجر” والذي كتبه لوضع نهاية للماضي الذي رافقه طيلة حياته مع عيني والدته، التي كتب عنها قائلا:” كانت لديها عينان حيث كانت الحياة جيدة لدرجة أنني لم أعرف إلى أين أذهب منذ ذلك الحين”
الكتاب الذي كرّسه لسيرته مع والدته وكفاحها الشرس للصمود رغم قساوة الظروف، حوّله المخرج الفرنسي إيريك باربييه العام 2017 إلى فيلم من أروع الأفلام التي شاهدت.
“مينة” أو “نينا” كما يسميها الفرنسيون، يهودية من أوروبا الوسطى، أفنت زهرة شبابها من أجل تربية ابنها بمفردها، امرأة طريفة، مضحكة أحيانا وساخطة أخرى، مزاجية، ناقدة لاذعة، حققت كل أحلامها بشأن ابنها رومان، فقد تمنت أن يكون كاتبا بحجم فيكتور هيغو، وبوشكين، ونيغينسكي، وسفيرا وبطلا وكان كل أولئك، حتى أنه ابتكر أسماء مستعارة وقّع بها وحقق النجاح نفسه في كل مرة.
عظمة هذه المرأة لا يمكن استخلاصها حتى من خلال المشاهد المؤثرة في الفيلم. بدون أدنى شك كانت في الواقع أكثر عظمة. عانت من مرض السكري، وقبل موتها بفترة كتبت له 250 رسالة ليتلقاها تباعا كما لو أنها حية، إلى أن عاد فعرف أنها ماتت منذ أكثر من ثلاث سنوات” من بين الجمل المؤثرة التي قالها:” في كل مرة تعانقك فيها امرأة يكون ذلك مجرّد عزاء لفقدانك أمك” .
يمكنني الآن أن أنتقل بكم إلى الضفة الأخرى ضفّة أدبنا العربي، حيث الجنّة تحت أقدام الأمهات، وحيث الأم وطن، والأم مدرسة إن أنت أعددها أعددت شعبا طيب الأعراق…
تقريبا نجد الصورة نفسها، وكأن الأمهات صُنعن وفق قالب واحد، فخرجن مثل الدمى متشابهات. من المعرّي إلى كتابنا الشباب، ووصفهن أو توظيف شخصياتهن في السرديات والنصوص الشعرية، كأنّه مُتفق عليه سلفا، خال من أي اقتران بتجراب الطفولة.
تنطبع في ذاكرتنا الصورة الدرامية المقدمة في السينما العربية، بدون تفصيلات، غير تفصيل مشترك “الأبناء يذاكرون والأم تحضر لهم الشاي والساندويتشات”.
تسقط سهوا سنوات طويلة من علاقة وطيدة تربط الفرد منا بأمه وطفولته. ربما تعددت الأسباب لإخفاء هذه المرحلة الحساسة من حياة أدبائنا، لكن نادرون من توقفوا عند تلك العلاقة، حتى في أسوأ صورها.
تروي مارغريت دوراس حكايات عن أمها يستحيل أن يرويها كاتب عربي. إذ يتبيّن لنا ونحن نقرأ نقمتها على أمها، وكراهيتها لها، أنّها دنّست إحدى مقدساتنا. وأذكر في حديث عابر أن أحد الشعراء العرب عبّر لي عن تحوّل حبه لأدب دوراس إلى كراهية منذ قرأ وصفها لوالدتها.
اختصرت دوراس والدتها في أربع كلمات: “مصيبة، حب، ظلم، رعب”. حياتها معها هي وأخويها كانت تدريبا شاقا. وقد انتهت حين أصيبت بالجنون. آني إيرنو تقريبا كتبت شيئا مشابها في كتابها “امرأة”، تجاوز دوراس في وصف بشاعة والدتها. إيرنو وصفت أمها بالخنزيرة، والمتسخة، والمقرفة.
وفيما نقرأ تلك الأوصاف نصاب بألم يخترق قفصنا الصدري ويستقرُّ في قلوبنا. أمهاتنا لسن هكذا، فهناك شيء سحري يحوّل قسوتهن إلى أمر قدري مقبول، طيبتهن تأخذ أشكالاً هلامية يصعب تحديدها، سذاجتهن لا توصف، جهلهن تفصيل في الغالب يغذي قصصنا الفكاهية. أنيقات في الأعراس والمناسبات العائلية، “مبهدلات” كثيرا باقي أيام السنة، يطبخن وينفخن ويسهرن على تنظيف وترتيب البيت وأهل البيت، فيما لا يجدن وقتا لأنفسهن. كنا سببا مباشرا لشقائهنّ. يا للحسرة !
هل سُرقت طفولتنا؟ أم أمومتنا؟ أم أنّ إنسانيتنا شوهت في مجتمعاتنا والسلام؟



#بروين_حبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيّدة المدن الساحرة
- صوت المرأة لتصحيح مفهوم الحب
- مأزق الكاتب مع ال”سوشيال ميديا”
- الكورونا في الزمن الرقمي


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بروين حبيب - عن الحب المطلق