أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان! (3- 3)















المزيد.....


حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان! (3- 3)


عقيل الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 6969 - 2021 / 7 / 25 - 02:05
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان!(3-3) ***
حاوره رئيس التحرير، الدكتور صالح ياسر

الثقافة الجديدة:
من بين القضايا التي احتدم الصراع حولها بعد ثورة 14 تموز هي القضية الزراعية وضرورة تغيير شكل الملكية الذي كان سائدا حين ذاك في الريف العراقي. وعند طرح قضية تغيير شكل الملكية في الريف عبر تطبيق الاصلاح الزراعي دارت معركة سياسية وفكرية عاصفة بين خطين متناقضين: خط يريد تطبيق اصلاح زراعي جذري (اجتثاث القاعدة المادية للإقطاع في الريف)، وخط يريد تطبيق اصلاح زراعي يقوم على تحديد سقف الملكية وتعويض مالكي الاراضي من الاقطاعيين؟
وبعبارة اكثر تبسيطاً يمكن القول إن جوهر الصراع، في حقل المسألة الزراعية بعد ثورة 14 تموز 1958، كان يدور حول سؤال حاسم قوامه: أي إصلاح زراعي يحتاجه الريف العراقي آنذاك؟
نطمح الى مزيد من التعمق في هذه النقطة.
د.عقيل الناصري:
في الحقيقة يلعب الاصلاح الزراعي الجوهر في كل ثورة وطنية تحررية، ويستهدف تغيير العلاقات الانتاجية في الريف. وهذا ما نص عليه قانون الاصلاح الزراعي، ويرمز للعدالة الاجتماعية وارتباطاتها المحورية.
اما اهداف الاصلاح الزراعي فتتجلى بـ: القضاء على الملكية الاقطاعية؛ اقامة نظام تعاوني على أساس الملكية الخاصة والصغيرة؛ السماح بإقامة قطاع خاص متوسط على أن يوجه من قبل الدولة لمنع ابتلاعه للقطاع التعاوني؛ والهدف الأخير هو انشاء قطاع دولة. وهذا مقترن بزيادة وتجديد قوى الانتاج في الزراعة وتعميم المكننة واستخدام الاسمدة الكيماوية.
وعيوب الإصلاح الزراعي: بعضها بسبب القانون ذاته، وبعضها الآخر متعلق بالوضع السياسي وتناقضاته التناحرية ومدى انعكاساتها في أجهزة ومؤسسات الدولة. ولهذا انقسمت القوى والأحزاب السياسية في النظر إلى القانون، فسيطرت القوى اليسارية على مديرية الاستيلاء، وقد شمل على أكثر من 1147 ملاكا، يملكون حوالي 7,5 مليون دونم، أي حوالي ثلثي المساحة المؤمل خضوعها للاستيلاء. وبالعكس سيطرت القوى اليمينية على مديرية التوزيع، وتلك تريد ابطاءً في إنهاء الاقطاع. وانعكس هذا الصراع على الاقطاعيين وبعض الأوساط من البرجوازية العقارية حيث قاوموا الاصلاح الزراعي. وهذا ما اخل بالإصلاح الزراعي ذاته، ورافقه بمستويات متعددة: عدم الاستقرار السياسي، وتلكؤ الوحدة
الوطنية، وولاء بعض الأجهزة التنفيذية في المرحلة الملكية، والمسؤولية الجماعية من قبل أحزاب جبهة الاتحاد الوطني إزاء الثورة، وتدخل الزعيم قاسم في تعديل بعض بنود القانون.
وانقسمت رؤية المفكرين الاقتصاديين بين: خط يريد تطبيق اصلاح زراعي جذري (اجتثاث القاعدة المادية للإقطاع في الريف)، هذا الرأي ينطلق من الرؤية الاشتراكية بنموذجها الصيني، ولهذا لا بد من توفير شروط منها: جهاز تنفيذي قوي وولاؤه لسلطة الدولة، وهذا لم يتوفر بسبب انقسامه للأحزاب؛ وبسبب تخلف البنية الفنية للقطاع الزراعي؛ ولسياسة العلاقات القبلية القريبة من الأبوية؛ والعصبوية بين العشائر وسيادة القيم المعرقلة للانتاج؛ ولطبيعة الفترة الانتقالية المقترنة بالإضطراب والتخلخل الاجتماعيين؛ وغيرها من المسببات.
وخط يريد تطبيق اصلاح زراعي يقوم على تحديد سقف الملكية وتعويض مالكي الاراضي من الاقطاعيين.. ولكن التعويض فيه إجحاف وتجني على الفلاح ويدفعه من كدحه، على هذه الملكية القانونية للعشيرة قبيل تشكل النظام شبه الاقطاعي، وأيضا تحديد سقف للملكية للإقطاعيين فيه شيء من الإجحاف، بمعنى 120 دونما للفلاح، و2000 دونم للاقطاعي في الأراضي المطرية مقابل النصف في الأراضي السيحية، وهذا يزيد اكثر من 15 مرة، وهذه قسمة ضيزى.
وأعتقد أن كلا الخطين خاطئ، لأنهما لا يأخذان بطبيعة الظروف المادية التي تتوطن بالريف، من عشائرية وابوية. ويجب الأخذ بنظر الاعتبار الطبيعة الطبقية لثورة 14 تموز، وهي ذات نظرة إصلاحية وتسيطر عليها الطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة؛ ثم أن الزعيم قاسم صاحب النظرة الوسطية ويرى في ذاته تمثيلا للكل؛ وتخلف علاقات الانتاج الاجتماعية بصورة عامة، بخاصة في الانتاج الزراعي؛ وعدم وجود الأسس الموضوعية والذاتية لكلا الحلّيَن. وأميل الى الخط الثاني من بعض التعديلات بشأن الملكية والتعويضات، لأنه يتناسب والنظرة الطبقية لطبيعة السلطة الطبقية، وبما ساد العراق من العنف المتبادل بين الاحزاب رفاق الأمس، واضطرابات تهدد الاسس الاجتماعية والسلام الأمني في الريف والمدن. ولم يكتف الاقطاعيون بمقاومة الاصلاح الزراعي سلميا بل اقرنوها بالقتل المتعمد.
الثقافة الجديدة:
إن دروس ثورة 14 تموز 1958 غزيرة سواء في اندلاعها وتطورها وأيضا في انتكاسها. ومن بين كل دروس الثورة ثمة درس مهم هو ان هذه الثورة انتصرت لأنها اعتمدت على وحدة القوى الوطنية والديمقراطية التي ناهضت الحكم الملكي، وناصرت الثورة وساهمت في اندلاعها ونهوضها.. في حين كان من بين عوامل انتكاستها هو الصراعات التي نشبت بين هذه القوى حيث عجز العديد منها عن فهم طبيعة المرحلة التي دشنتها الثورة وترتيبها – أي تلك القوى- ترتيبا خاطئا للتناقضات بتغليب الثانوي منها على الرئيسي. علما ان النزعات الدكتاتورية لبعض قادة الثورة، وخصوصا قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، وعدم رهانهم على الجماهير الشعبية وتردداتهم كان من بين العوامل التي ادت الى انتكاستها، وتتويج ذلك بثورة الردة الفاشية في الثامن من شباط 1963. هل يمكنكم ان تقدموا لنا ولقراء المجلة قراءة مكثفة لدور الزعيم عبد الكريم قاسم في انجاح ثورة تموز، وفي انتكاسها ايضا.
د.عقيل الناصري:
أنا لا اتفق عندما تصنف عبد الكريم قاسم بصفة نُوازع (دكتاتور)، لأن هذا الوصف يبعدنا على حقيقة وضع الزعيم قاسم، وافضل وصف الذي يتصف به (السلطة الأبوية وعبادة الشخصية) لأن هكذا كان المجتمع العراقي في القرون السابقة. كان الزعيم قاسم يرى في ذاته تمثيل الكل وهذه إحدى دعائم الطوباوية. ولهذا الوصف الدكتاتور مميزات نلخصها بـ: الدكتاتور يصل الى السلطة بطريق غير مشروع، فقد يغتصب الحكم بالمؤامرات أو القهر؛ ولا يعترف بقانون أو دستور بل تصبح ارادته هي القانون؛ يسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته الحسية والمادية؛ ولا يخضع للمساءلة ولا المحاسبة؛ ويقترب من الـتأله فهو يرهب الناس ويذلهم بالقهر والقوة. وهذا ما لا ينطبق على الزعيم قاسم، وينطبق على الدكتاتور الأول في تاريخ العراق المعاصر صدام حسين.
وان دور الزعيم قاسم في ثورة 14 تموز، كان هو المخطط للثورة، والمنفذ كان عبد السلام عارف، واختار الوزراء من بين مكونات المجتمع العراقي، تتجلى فيها الأبعاد القومية والمذهبية، وليلة 13/14 كان هناك تمرين ليلي أخرج اللواء التاسع عشر وسار به الى بعقوبة، وهذا لم يكن مصادفة وانما مخطط له.
وان الدراسات التي كتبت عن دور الزعيم متوفرة بما فيه الكافية، ولكن أنا اريد أن أسطر المزايا التي انفرد فيها الزعيم قاسم وأقول: له إيجابيات وسلبيات كأي فرد حاكم، ولو عدنا إلى إيجابياته في إدارته الصراع السياسي بين الفئات الاجتماعية في الوسط المتزاحم بالتناقضات المصلحية والايدولوجية/الفكرية، وبين كتل الضباط الأحرار والأحزاب السياسية وما إلى ذلك. وهذا الموقف والدور مستنبط من:
- دوره في تأسيس اللحظة التاريخية الخاصة بتطور العراق والسير به على طريق الحداثة وبصورة خاصة ما رسمه البيان الأول؛
- فرضته عملية الصراع الاجتماعي ليلعب الدور الحيوي النشيط بين الطبقات؛
- تراجع الهويات الفرعية عن مكانتها، ولتسمح لمكانة الهوية الوطنية التي ازدهرت؛
- والمنجز المتحقق لصيرورات التقدم الاجتصادي والسياسي والفكرية؛
- تبني مطالب الاغلبية الشعبية من الفقراء وذوي الدخل المحدود؛
- والربط الجدلي والعملي بين النزعتين الوطنية (العراقوية) والقومية (العروبية)؛
- وإبدال التغيير الجذري لفلسفة الحياة وغائيتها وقد ضعت المجتمع على طريق التطور والحداثة، وذلك باستبدال الطبقات المتضررة من الثورة، بالطبقة الوسطى بفئاتها المتعددة؛
- كانت الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها نظام 14 تموز مهمة أخلاقية في جوهرها، والتي أحدثت تأثيرات نوعية فاقت كل التغييرات الجوهرية للعراق المعاصر؛
- احترامه لاستقلالية القضاء، ولم يتدخل في اعمال القضاء. وللعلم كانت تصدر الاحكام باسم الملك، اما بعد الثورة فحلت كلمة الشعب محل الملك لتنسجم مع مبادئ الدستور المؤقت وجملة التشريعات التي سنتها حكومة الثورة؛
- أنقذ نظام 14 تموز على الأقل العراق من أن يكون سالبة في أيدي القوى الخارجية بخاصة الرأسمالية ومركزها وبالأخص بريطانيا والولايات المتحدة.
- وخلص البلد من الاحلاف العسكرية، من خلال تبنيه سياسة الحياد الايجابي؛
- (كان رجل الوسطية في عصر التطرفات، وبذا كان سابقا لزمانه. جاء ورحل قبل الاوان .. هذه تراجيديا شكسبيرية فريدة)، كما قال الأكاديمي الراحل د.فالح عبد الجبار؛
واستنتاجنا الأرأس المستنبط من ماهيات هذا التغيير الجذري/ الثورة، فقد سبق وان تمخض عنه اصطفاف طبقي وجملة من الغائيات والمصالح الاجتصادية والسياسية والفكرية، التي تحقق منها الكثير في الواقع العراقي، رغم قصرها الزمني. وانقسم المجتمع بين مؤيد لها أو معارض، بحيث طردت طبقات وفئات اجتماعية كل من: العوائل الملكية؛ طبقة الاقطاع؛ وفئة الكمبرادور؛ والنخب السياسية الأولغاركية؛ والضابط الشريفيين.
وكما قلنا سابقاً، لا بد من أخذ الطبيعة الطبقية لسلطة 14 تموز، وعدم اعتمادها على الجماهير الشعبية، لأنها {حكم لهم ولم تحكم بهم}، وفي ذات الوقت لعبت الجماهير دورا مسانداً في نجاح الثورة، ولولا هذه الجماهير الشعبية المساندة للثورة، بحيث احبطت التدخل الخارجي موقف عبد الناصر وتأييد الاتحاد السوفيتي. ولهذا ارسل رسول الثورة رشيد مطلك ليُخبر الحزبين الشيوعي والوطني الديمقراطي فقط، أنه في يوم 14 تموز موعد الثورة لتخرج الجماهير المساندة. ومن هنا عرف الحزبان الاستقلال والبعث المشاركان في جبهة الاتحاد الوطني.
وغالبا ما تتشظى الجماهير الشعبية (البروليتارية الرثة) المساندة للثورة في أكثر الثورات الجذرية، ويعود سبب ذلك إلى الظروف الموضوعية والذاتية لما لعبه شعار الوحدة الفورية. ولهذا فقد أخذت: الأحداث الواقعية والصراع غير المبرر لرفاق الأمس القريب، موضوعيا من تموز ونهجه؛ وبروز التأثيرات السلبية على الحركة الكردية؛ والتخفيض المتعمد لإنتاج النفط والاسعار؛ وكثرة المحاولات الانقلابية بالتعاون مع المراكز الرأسمالية؛ وغيرها من العوامل، التي يقف على رأسها تدخل الزعيم قاسم في كل صغيرة وكبيرة، مما أخذت دورها في احتواء قائد الثورة، ما ادى به إلى ممارسة غير مخطط لها، قدر كونها كانت تعبر عن مضامين ردود الافعال.
وهذا بالضبط ما قام به بشأن الجماهير الشعبية ودورها من شطط، والسيطرة على الشارع السياسي وأخذت تلعب لعبتها المفضلة الكامنة في إجراء تطبيق العقوبات بنفسها. بالإضافة إلى كتابة التقرير من مديرية الأمن العامة والاستخبارات العسكرية وتخويفه من بعبع الحزب الشيوعي. وهذه الظروف أفرغت الثورة من ذاتيتها إلى حد ما.
الثقافة الجديدة:
حول النشاط الامبريالي ضد الثورة، هناك الكثير من الباحثين الجادين من يرى ان من بين اسباب انتكاسة ثورة تموز، كان النشاط الامبريالي المحموم الذي لعب دورا مهما في عرقلة الثورة والوصول الى غاياتها المنشودة في تحرير العراق من الهيمنة السياسية والاقتصادية الأجنبية. هل يمكنكم – ولو بتكثيف – تحديد ابرز محاور واشكال هذا النشاط بالفعل، وهل كانت قيادة الثورة في مستوى هذا التحدي؟
د.عقيل الناصري:
من خلال استقرائنا لتاريخ 14 تموز، وأتفق مع آراء الباحثين المطلعين أن هناك مسارات، حاولت التدخل لكبح جماح الثورة:
- مسار التدخل المباشر ولما فشل في يوم الثورة بفضل التفاف الجماهير تحول:
- إلى مسار سياسة الاحتواء ولما فشل تحول إلى المسار الثالث:
- مسار التغيير بالقوة (انقلاب عسكري أو/ والاغتيال).
ولعبت الجماهير المحتشدة أمام وزارة الدفاع في يوم الانقلاب المشؤوم في التصدي لوقائع الانقلاب وهم يطالبون بالسلاح دفاعا عن ثورة 14 تموز، إلا أن الزعيم قاسم أبى أن يسلموهم السلاح، وهذه الخطيئة الكبرى للزعيم. بالإضافة إلى أخطائه الأصغر في إدارته للصراع السياسي في المجتمع.
رأت وكالة الاستخبارات المركزية الامريكية (C.I.A)، على إمتداد من اندنوسيا الى المغرب العربي، في كل زعيم مسلم لا يتعهد بالولاء للولايات المتحدة، هدفا مشروعا لـلعمل ضده. بمعنى آخر تكاثفت في الظاهرة السياسية للحكم الجديد صيرورة متكونة من ستة أبعاد، اعتبرت من محرمات السياسة الدولية على وفق المنطق الإمبريالي أثناء الحرب الباردة، وهي:
- حكم وطني مستقل في توجهاته، ذو نزعة اجتماعية إصلاحية تقدمية لمصلحة قاعدة اجتماعية واسعة؛
- سياسة نفطية مستقلة عن الاحتكار العالمي؛
- سياسة عربية ذات منطق تحرري لواقع انتمائه القومي؛
- سياسة خارجية بعيدة عن التكتلات والأحلاف الغربية وتبني مفهوم الحياد الايجابي؛
- القضاء على الحركات اليسارية وبخاصة الحزب الشيوعي وتصفية جماهيريته؛
- تدمير الأسلحة السوفيتية المتطورة كفكر عسكري، وإبعاد الاتحاد السوفيتي عن منطقة الشرق الأوسط.
ولا بد من الاشارة الى ان سلطة تموز النيرة تعرضت إلى 39 محاولة انقلاب، أي بمعدل محاولة كل 43 يوما، آخرها كان انقلاب 8 شباط 1963 المشؤوم. عند قيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 استنفر الاستعمار كل قواه واستعان بقوات الليفي وبالعملاء والمتآمرين وطلاب المصالح للإطاحة بالثورة وبمنجزاتها، وكل المشاكل التي يصادفها المجتمع العراقي تعود إلى جذور الانقلاب المشؤوم
للحركات الانقلابية الأولى، عندما قام العقيد عبد السلام عارف بمحاولة إغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، واشراك حكم عبد الناصر في المؤامرة الأخيرة.
علما بأن علي صالح السعدي لخصها عندما قال: جئنا بقطار أمريكي، وهذه العبارة تفسر العلاقات المشبوهة في حزب البعث من خلال أساطين البعث: وعلى رأسهم صالح مهدي عماش وأحمد حسن البكر ورشيد مصلح وحردان التكريتي وغيرهم من صغار الضباط وبخاصة في المؤسسة الأمنية. فقبل هذه الانتكاسة كان تسلم المسؤولية يعتمد، بشكل عام، على الكفاءة وليس العضلات، حيث استوزر الاقتصادي محمد حديد لوزارة المالية، والاستاذ إبراهيم كبه لوزارة الاقتصاد، ود. طلعت الشيباني للتخطيط، ود. نزيهة الدليمي للبلديات. ولكن بعد الردة أوكلت المسؤولية للأميين ورجال العنف المختصين الذين لم يمر إلاّ أشهر على انقلابهم حتى بدأوا "يتحاورون" بالمدافع والطيارات والقذائف لينهار حكمهم بعد حين، وليكشف حليفهم عارف جزءاً من جرائمهم في "الكتاب الأسود"، وآخر كتاب "المنحرفون".
إنّ الدور الذي قامت به السفارتان البريطانية والأمريكية بالتهيئة للانقلاب عام 1963، هو أنه (أهم اتصال أجرته السفارة البريطانية ببغداد مع البكر وعماش في الرابع والعشرين من كانون الثاني 1963، ابلغتهما فيه، أن بعض الكتل القومية وبالاتفاق مع حركة القوميين العرب سوف ينفذون عملية الاطاحة بالنظام في الاسبوع الأخير من شباط 1963. وبالاستناد إلى الوثائق نفسها ذكر بأن حزب البعث سارع إلى انتداب أعضاء من المكتب العسكري هم: صالح مهدي عماش وعلي صالح السعدي وعدنان القصاب ببحث المستجدات الأخيرة مع السفارة البريطانية لوضع خطة محكمة للانقلاب، لعلها آخر خطة تم الاتفاق عليها. وقد تم اللقاء بمبنى السفارة البريطانية مساء يوم السابع والعشرين من كانون الثاني 1963. حيث وضع هورد .هـ. أستفين أحد موظفي السفارة البريطانية خطة وموعدا لتنفيذ الإنقلاب، وأشار عليهم بضرورة اعداد الجناح المدني لحزب البعث وتجهيزه بالأسلحة الرشاشة من نوع بور سعيد المصرية الصنع ونزولهم إلى شوارع المدن الرئيسة حال سماعهم البيان الأول للانقلاب من اذاعة بغداد. وفي الشأن نفسه، ذكر أن البكر طلب من عماش في الثلاثين من كانون الثاني، الاتصال بالسفارة البريطانية لتحديد موعد له لغرض مناقشة تفاصيل الخطة (3).
وبصورة مكثفة لعب المحور الأنكلو/ امريكي في التآمر على ثورة 14 تموز دورا خطيرا، تتضح أهميته من الأدوار التي لعبها الحزبان: البعث والاستقلال من خلال تخريب أسس جبهة الإتحاد الوطني. أمسى انقلاب 8 شباط 1963 واحداً من أكبر النكسات في تأريخ العراق المعاصر: فالإنقلاب بالمعيار الأخلاقي سبة تأريخية وإنتهاك للذات العراقية الجمعية والفردية؛ وبمعيار التطور ارتداد وانتكاسة إلى الوراء؛ وبالمعيار السياسي العودة إلى التسلطية المتمذهبة؛ وبالمعيار الجمالي هو القبح بذاته؛ وبالمعيار البنائي هو التهديم والانحطاط؛ وبالمعيار الاجتماعي هو تفكيك للبنية الاجتماثقافية؛ وبالمعيار التوحيدي هو الانغلاق على الحزب الواحد دون بقية الأحزاب.
ساهمت في الانقلاب المشؤوم كل من القوى والاحزاب السياسية: حزب البعث، والحركات القومية من أمثال حركة القوميين العرب، وحزب الاستقلال، الرابطة القومية وغيرها، والحركة الكردية، والمؤسسة الدينية (الشيعية) والحركات الاسلامية السنية، وبقايا الاقطاع، وبقايا العهد الملكي، وعوائل الضباط الشريفيين وغيرها.
بصورة عامة، نخلص الى ان التغيير الجذري/ ثورة 14 تموز قد نقل الاوضاع الاجتصادية والفكرية والسياسية من مرحلة إلى اخرى أكثر ملاءمة للعصر الحديث، ووضعت الثورة العراق على سكة الحداثة والتطور. ومن الناحية العددية فأغلبية سكان العراق هم من المؤيدين للتوجه العراقوي القائم على الهوية الوطنية الموحدة، سواء كانوا من القومية العربية والكردية والتركمانية وباقي الاثنيات؛ ومن الأديان المسلمة والمسيحية والصابئة المندائيين والأيزيديين.
الهوامش
(1) عامر عبد الله، خواطر وذكريات، بمناسبة الذكرى 25 لثورة تموز المجيدة، (الثقافة الجديدة)، العدد 144، تموز 1983. كان ضمنها: الخروج من حلف بغداد؛ إجلاء القوات البريطانية؛ إلغاء اتفاقية الأمن المتبادل مع الولايات المتحدة؛ وبالتالي تصفية جميع الارتباطات والمواقع الاستعمارية؛ كما تضمنت ضرورة استئناف العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفيتي؛ وتوثيق التضامن مع مصر وسورية ودعم القضية الفلسطينية وثورة الجزائر.. الخ. وبالطبع جرى التأكيد في المطاليب على إطلاق سراح السجناء؛ وطائفة من المطاليب المتعلقة بتوزيع الأراضي على الفلاحين؛ وتلبية حقوق العمال ومكافحة البطالة؛ وحل مجلس الاعمار؛ وانتهاج سياسة وطنية مستقلة معادية للاستعمار.. كنا نؤكد على حق التنظيم السياسي والنقابي، وعلى شرعية الحزب الشيوعي والاحزاب الوطنية الأخرى".
(2) آخر مقابلة صحفية مع مراسل اللموند الفرنسية، تجدها في كتابنا، ثورة 14 تموز وعبد الكريم قاسم في بصائر الآخرين (دمشق: دار الحصاد، 2012).
(3) د. طارق العقيلي، بريطانيا ولعبة السلطة في العراق، التيار القومي والطائفية السياسية (بغداد: دار مرتضى، 2010)، ص 81.

*************

نشرت في العدد المزدوج 222- 223، الغراء الثقافة الجديدة بتاريخ تموز/آب 2021.
سيرة ذاتية مختصرة للدكتور عقيل الناصري:
* خريج كلية الاقتصاد والعلوم السياسية/ جامعة بغداد في العام الدراسي 1966 - 1967.
* خريج معهد بليخانوف بموسكو في عام 1978 - 1979، فرع اقتصاد العمل.
* عمل بالجزائر/ جامعة وهران خلال الأعوام 1979 - 1987.
* كاتب وباحث اكاديمي. ولديه أكثر من ثلاثمائة بحث منشور، ومحاضر في الكثير من النوادي الاجتماعية والعلمية.
* مختص بثورة 14 تموز وحياة عبد الكريم قاسم. وأصدر ما ينوف عن 20 كتاباً بهذا الخصوص. ولديه تحت الطبع كتابان:
- الأهمية التاريخية لثورة 14 تموز، ودور دول الجوار في تغييبها؛
- دور المؤسسة الأمنية في اسقاط ثورة 14 تموز من خلال تقاريرها الرسمية.



#عقيل_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان! (2- 3)
- حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان! (1-3) ***
- هياكلية الأمن العامة والاستخبارات العسكرية في الجمهورية الأو ...
- أحمد محمد يحيى/ وزير الداخلية الجمهورية الأولى:(2-2)
- أحمد محمد يحيى/ وزير الداخلية الجمهورية الأولى:(1-2)
- القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي : (6-6 ...
- القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي: (5-6)
- - القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي: (4- ...
- القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي: (3-6)
- - القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي: (2- ...
- لقاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي: (2-6)
- القاعدة الاجتماعية لسلطة 14 تموز مقارنة بالعهد الملكي : (1-6 ...
- الصفات الاساسية في إدارة الزعيم قاسم للصراع الطبقي في العراق ...
- من تاريخية صراع الهوية في العراق المعاصر (5- 5):
- من تاريخية صراع الهوية في العراق المعاصر (4- 5):
- من تاريخية صراع الهوية في العراق المعاصر (3- 5):
- من تاريخية صراع الهوية في العراق المعاصر (2- 5):
- من تاريخية صراع الهوية في العراق المعاصر (1- 5):
- من تاريخية الانتلجنسيا العراقية :( 8-8)
- من تاريخية الانتلجنسيا العراقية : (7-8)


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- الانسان في فجر الحضارة / مالك ابوعليا
- مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات ... / مالك ابوعليا
- مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا ... / أبو الحسن سلام
- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عقيل الناصري - حتى لا تتسربل ثورة 14 تموز 1958 بالنسيان! (3- 3)