|
زُهرة: أو كيف تعلّمت أن أحبّ وأكتب الجسد
مومينا مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 6959 - 2021 / 7 / 15 - 08:39
المحور:
الادب والفن
في كل مرّة، تحمل معها القرآن من غرفتها، قبل أن تأتي. هذه ليست غرفتها تمامًا، فأمّها تلجأ إلى سكينة تلك الغرفة للصلاة. معظم الوقت، تستلقي هناك متدثّرة بغطاء الفراش رغم الحرّ، بينما تصلّي أمها في زاوية الغرفة. في هذه الأثناء، يجلس أبوها خارجًا، يدردش مع النساء الأصغر سنًا عبر الكمبيوتر، ولا يأتي أحد على ذكر ذلك. توقفت عن جلب قرآنها إلى الخارج. لست أدري ماذا يعني لهم الجنس؟ بماذا نفكّر عندما ننتشي بمفردنا؟ كلّ منّا، في غرفته/ا، وحيدًا/ة على الدوام، مقبلا/ة على شاشة تعكس وجوهًا زرقاء اللون.أحيانًا، أمسح أصابعي على حائط غرفتي لأسجل موقفًا. لا أعلم لماذا. يشعرني ذلك بالشجاعة.
[سألتني مرّة امرأة إذا كان هناك حرب في باكستان، عندما قلت لها من أين أنا] ولكن، ماذا يعني أن تكون كويريًا/ة بلغتي الأم التي لم أعد أتذكرها؟ [قالت إني جميلة] صديقتي اسمها زهرة، ونحن دائمات التلاقي. هي أيضًا تحبّ البنات، ولكنّنا لا نتكلّم عن ذلك؛ وهي دائمة الانشغال بالحديث عن الديلدوز التي تكتشفها عبر المواقع الإلكترونية، وتحلم بشحن صندوق كامل منها. كنت لأرضيها بقبضتي أو أحد أطرافي، ولكننا نحب بطرق أخرى وأكثر وحدة.
[إنها قصيدة]
*
لم أشعر يومًا بحاجتي إلى جسد آخر. ولكن، تحتشد فيّ رغبة جامحة لدرجة أنّي لم أعد قادرة على لمس أطراف أصابعي معًا. نلتقي أنا وزهرة من وقت إلى آخر. تحبّ أن تمرّر أظافرها على ذراعي، بينما أنظر إليها. أحيانًا ترتدي حجابًا فيما تخبرني عن برنامج تحبّه لم أسمع عنه قبل ذلك. نعبّر باللغة الإنكليزية عندما نكون معًا. لم يسبق أن كنت عارية أمام أي كان.
قضيت حياتي أحاور بصمت أجسادًا في مخيلتي. لم أعرف يومًا إذا كنت أرغب لحمًا ودمًا أم مجرد لغة، فلا أملك لغة تحضّني على الرغبة، ورغبتي ليست لي، فمن دون الكلمة، هل يكون ضيق حنجرتي حقيقيًا. تتكلّم زهرة الأوردو بطلاقة، وتعبّر عن رغباتها بوضوح، فطعم المرفق له كلمة. أما أنا، وجودي بين اللغات، ورغبتي وليدة الصمت والكلمات الأجنبية. عندما أزرع إصبعي على خديك، أتنفس ببساطة.
لا كلمات لنا باللغة الأوردية. فلا زلنا نستخدم كلمة "دوست" بينما نخاطب بعضنا بحضور الآخرين، ولكن تخذلنا اللغة عندما نكون مع بعضنا. فتبدأ كل عباراتنا بكلمة "suno" (إسمع/ي).
*
عندما كانت زهرة في السابعة عشرة من عمرها، وضعت قرطًا في أنفها، وأفصحت عن ميولها لزملائها/زميلاتها في الجامعة، إلا أن أحدًا لم يعتبر ذلك جديًا. فيما بعد، أحبّت صبيًا من خلال الإنترنت. "أتمنّى لو كنا مثليات فعلًا، حتى أوسع ضربًا البنات اللواتي ينكدّون عيشنا في صف السيدة أنجوم". زهرة تحبّ كيف يتقوّس جبيني، وتقول إنّه علامة الحظ السعيد.
في المدرسة، يعاقبون الذين/اللواتي يتمشّون ممسكي/ات أيدي بعضهم/ن. كانت تمسك بمرفقي، وتمرّر أصابعها على ذراعي من الداخل من تحت القميص. أحيانًا كنت أحرّك يديها نحو شعري، فتدّعي أنها تجدله، بينما تنساب أصابعها حول رأسي. وجدت مرة شامية فوق صدغي الأيسر، لكنها لم تعرف ماذا يعني ذلك.
[يشعر عنقي بدفء يديك، ولكنك في مكان آخر]
في إحدى المرّات، ضاجعت صديقتي المفضلة بأصابعها إحداهن في ممر الجامعة. وبينما كنا نسلتقي هنا، وأصابعك تدور في شعري، أتخيل شعوري فيما لو انتشيت كصبي على سرير بسيط وعلى رأسي وردة. "ہے الوحدة عجیب"، لا نقول الكثير، وأنا لا أعرف ماذا أقول، لذا أضع كفي على بطنك.
*
لطالما كان حبّي ومعرفتي بجسدي علاقة وحيدة. وكلما تتبع إصبع مسارات انحناءة، شريانًا، أو فتحة، أحاول أن أحب بعيدًا عن طفرة نفسي، طفرة الدماء واللحم والعصب، الاعتراض على كل شيء، رعب الجسد الصامت والغريب. "لم أعتد يومًا على دورتي الشهرية"، وفي إحدى المرات قالت زهرة، وهي مستلقية على سريري وواضعة وسادة بين رجليها: "يدهشني دائمًا كم أنزف، كم أحمل في داخلي، وكيف لم يقتلني ذلك حتى الآن".
زهرة تحبّ أن تمرّر أصابعها على شعر رجليّ، تثبته ومن ثم تدفشه إلى الأعلى. تقول أن ذلك يبث الهدوء في نفسها. عندما كنت أصغر، قررت أن أتوقف عن الحلاقة لأنني شعرت أني متسخة بعد ذلك، كما لو أنني خنت نفسي ورضخت للعار. رفضي للحلاقة وتركي شعري لينمو كان سبيلي للتقرب من الجسد الذي حلمت أن يكون لي يوماً ما، جسد مختلف، جسد آخر، بشعر أكثف ولحم أقلّ، جسد يحيلني رجلًا يرغبه الرجال، ترغبه زهرة، وكل الأماكن التي تسكنها، ترغبني هي وهو وهم/ن، كل زهرة، وكل جزء من زهرة، الرجل والمرأة، والأيام التي لم تكن أي منهما، بل مجرد لحم. الجسد لا يكفي، ولكنه كثير جدًا، إنه..
أن أُحبّها يعني أن أكون وحيدة أيضًا. في تلك الليلة عندما دعيتني إلى الرقص، شعرت فجأة أنني صغيرة جدًا على ملابسي المبهبطة. وقفت وشاهدتك تتحركين وحسب. والآن، في عتمتي، أحاول أن أتخيّل خطوطك، ثقل جسدك إلى جانبي، شعرك يترقّق بينما تكبرين وتتلاشين، وأنا أتلاشى أيضًا. ["كيف نقوى على الاستمرار؟"] رقصت مع الصبية المرتدين بلوزات مفتوحة، وصدورهم الكثيفة الشعر، وسلاسلهم الثقيلة على الأعناق، والرذاذ البراق على جفونهم. "رأيت؟ يمكنك أن تكوني مثلية وغير تعيسة"، قال أحد الصبية وهو يمايل خصره على أنغام أغنية أجنبية. "إسمعي" بدأت أقول "إسمعي" "إسمعي..."
*
يسأل "إلى أين سنمضي"، عندما ينتهي كل شيء. تتلامس ركبنا بينما تتدلى أرجلنا من الجسر، وتنظر إلينا أفعى ساحرة من الرمل تحتنا. يزداد صخب أصدقائنا من حولنا، ويضحكون على كيف تتلو فرقة راني مخريجي غزال لبعضهم، في حين تمر الأكواب ذهابًا وإيابًا فيما بينهم. [أولئك هم من وُعدت بهم. هم لسوا لي. أخسرهم طوال الوقت]. خلعت زهرة حذاءها وقفزت إلى الرمل، معلنة أنها تريد جمع صدف البحر لأخذهم إلى بيتها. أشعر به يتنفس بقربي، شالي على كتفيه، الأحمر الملطخ على شفتيه. ينظر بحزن إلى أحد أصدقائنا، صبي آخر يلبس كورتا (kurta) حمراء فاقعة، وينحني ضاحكًا وهو يتكلم عبر هاتفه. أحاول ألا أحسد السهولة والعفوية التي يضحكون بها مع بعضهم، متجاهلة النظرات المحدقة، وشعرهم المبعثر بالأزرق والأرجواني، والأصابع متشابكة. نقول لبعضنا أشياء لا يعرفها أحد، قصص علاقات عابرة سرّية، انكسارات القلوب، إجهاض، فحوصات. يقترح أحدهم/ن أن نكتب جميع الكلمات المؤذية، الإهانات والشتائم، الأسماء التي أطلقها علينا الناس خلال حياتنا؛ يقولون إنه عندما نكتبهم نقدر على استعادتهم، وجعلهم أقلّ أذى. وبالتالي، نقوم بذلك، ونمرر أوراق بيننا، نضحك بتوتر، ونسأل بعضنا عن معنى كلمة معينة. مَن استخدمها ومتى. وإذا أصبحت كلمة أقل أذى فيما بعد، لا أحد يعرف حقًا.
أحيانًا، عندما أرافقهم/ن، أشعر أن ما من أحد حقيقي بينهم/ن. فالفتاة التي ترتدي الكورتا الخاصة بأخيها تقول أن لا شيء يناسبها غير تلك الكورتا؛ أما الصبي الذي يرتدي البلوزة ويصبغ شعره أخضر ويريد قرطًا جديدًا – لم أظن أن بوسعهم/ن أن يكونوا حقيقيين/ات، أو أن يوجدوا/ن، ليس هنا. أحيانًا أشعر أنني اختلقت كل ذلك في عقلي.
"أشعر بالسكينة بقربك"، يقول. والآن، بينما أشعر بالتقزّم في ملابسي. ألوم البحر.
*
زهرة تعاني من الأرق، وتتنهّد باستمرار وهي مستلقية بقربي. أقترح أن نصعد إلى فوق. إلى السطح، تمشي بعيدًا عني وتضع قناعًا طبيًا. [لا زلت أخسرك] أتنفس من خلال الدوباتا2 (dupatta) وأشعر بك تقتربين خلفي، تريحين رأسك على ظهري. وتتدلى يداك. لا أرى قمرًا، إنما أجد ضوءًا. [لست غير سعيدة] المدينة ليست استثنائية ولكن هناك كمية عمارة مهجورة لا يستهان بها. ربما نجد هذا في جميع المدن. "يمكننا أن نعيش هنا"، أشرت مرة إلى برج، ربما كان مركز تسوق. وأفكر في كل مرة أمرّ في طريقي إلى العمل. ستكون الأمور هكذا على الدوام. 2. شال تقليدي باكستاني
يرجرج هاتفي، أحدهم يريد مواعدتي، نتبادل الرسائل إلى أن يأتي. لم ترغبي باللقاء اليوم. أنا يقظة في هذه المدينة. في الخارج، يطلَق عيار ناري من دون سبب. على الانستغرام، ينشر أحدهم صورة لنفسه/ا مرتديين الشال الذي استعاروه مني. أنقر مرتين، أعلّق: ملكة قوية،3 ويد تصلّي، يد تصلّي، يد تصلّي. 3. A fierce queen
*
سيخرجون من المدينة يومًا ما، عندما ينفذ الهواء منها. سيجد من يملك المال مهنة في الخارج، وبعضهم سيتزوج وسيكون له حسابًا سريًا على غرايندر، وآخرون سيلازمون منازلهم ليشهدوا على ما بعد نفاذ الهواء. "لا أقوى على الرحيل"، أخبر زهرة خلال واحدة من زياراتها الأخيرة. لا تريد أن تجادل، تقول، بل تتمنى أن أحاول أكثر. [قلت لامرأة أميركية مسنّة إن الوضع في باكستان ليس سيئاً للغاية، وإنه كأي مكان آخر، وصدّقتني] المكان الآخر ليس مكانًا. [إلى أين سنمضي؟] كنت وحيدة في حبّهم دائمًا، أود لو أخبرهم/ن، ولكنني لم أفعل. زهرة، كلها، كلهم/ن، الكثير منهم/ن، لم يجعلوا الحب صعبًا. ربما لأنهم/ن فهموا أن الصمت ليس غيابًا، إنما هو بحد ذاته، وهو يكفي، وهو بسيط، وهو جيد. أحاول أن أتصور زهرة، ووجهها الأزرق نتيجة الهاتف، ترسل ميمًا من الغرفة ذاتها، وصوتها عندما يتغير عندما تتأثر بشيء ما، والطريقة اللاواعية التي تقوقع نفسها فيها مع تعابير وجه غريبة. [كلّما أكتب أكثر، أنسى أكثر، كل يوم] وأتابع. لا يزال الصبية في كراتشي هناك على البحر، يتصاحبون حتى يصيروا كتلة غير معروفة، ويحاولون بيأس بعث شيء إلى الوجود.
[لا زلت أخسرك] قدنا في العاصفة بينما كانت المدينة تتهاوى من حولنا [إلى أين سنمضي عندما ينتهي كل شيء] قلت سأتذكرك إلى الأبد [متى سيمضي كل هذا] نحن لسنا غير سعيدات، لا يهم [متى سيمضي كل هذا] لطالما كان على ما يرام [متى كل هذا]
إسمعي إسمعي إسمعي إسمعي إسمعي
[إنها مجرد قصيدة]
#مومينا_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زُهرة: أو كيف تعلّمت أن أحبّ وأكتب الجسد
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|