أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الباتع - خداع النفس















المزيد.....


خداع النفس


محمود الباتع

الحوار المتمدن-العدد: 1639 - 2006 / 8 / 11 - 04:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


بحسب علم النفس، فإن خداع النفس (Self Deception) هو تلك الطريقة التي نتبعها لتضليل أنفسنا بغرض قبول ما هو زائف أو غير موجود على أنه حقيقي. وهو باختصار طريقنا لتبرير المعتقدات الخاطئة.

يقول الفيلسوف الأميركي مايكل نوفاك " لا حدود معروفة لقدرة الإنسان على خداع نفسه". كما يقال أيضاً أن أقدم وأسوأ أشكال الخديعة هو أَنْ نخدع أنفسنا".

تقبع داخل كل منا شمعة داخلية تعمل على إنارة دواخل نفسه و سبر أغوارها. وبقدر ما تتوهج هذه الشمعة يكون اتساع نورها ليضيء أركان النفس الخفية لكل منا. تشكل هذه الشمعة أحياناً مصدر إزعاج لنا عندما تكشف لنا جوانب من أنفسنا لا نحب أن نراها، ونعمدُ إلى تجاهلها و أحيانا إلى نفيها، رغم أنها جزء لا يتجزأ من كياننا، فنقوم بخفض شدة إضاءتها فينحسر نورها وتتسع ظلالها، و تختفي الأركان البغيضة لأنفسنا تحت جنح الظلام الداخلي. تبقى موجودة، لكننا لا نراها ونعتقد أنها اختفت. و هكذا يخدع الإنسان نفسه.
يبدو لي أن هذه طبيعة بشرية، و لا سبيل إلى إبعادها، و أن وجود تلك الشمعة الداخلية لدى المرء، لكفيل بالحد من سلبياتها، فهكذا هي تركيبة البشر، مزيج من كل شيئ و نقيضه، بتوازن دقيق إذا اختل، تختل معه الفطرة الإنسانية التي لم يقدر أحد على تفسير أسرارها.
من منا لم يختبيء و لو مرة، بشكل أو بآخر مِنْ، ضيائه الداخليِ ؟ من لم يقدم يوماً على التنصل من حالة تسكن فيه، أو أن يتمثل صفة ليست به؟ من منا يزعم أنه لم يحاول، ولو مرة واحدة أن يستعير ذاته. يستعيرها إما أن من نفسه و إما من غيره. وهنا يوجد الفارق المهم

عندما تستعير من جهدك الخاص تكون أقدر على تفسير ذاتك، أما إذا استعرت أو سرقت من غيرك فأنت مضطر إلى التبرير، و التبرير يقتضي إبداء الأعذار، و كلما زادت الأعذار، تراجعت احتمالات الحقيقة. هكذا يقول المنطق.

لا يقتصر خداع النفس على إخفاء الحقيقة الداخلية، بل يطال محاولة تزييفها.. فكم من الناس يحاول أن يقدم نفسه في صورة لا تتفق مع حقيقته، بل أحياناً تتناقض معها.
قد يكون انتحال صورة زائفة، أو إخفاء صورة حقيقية نابعا عن وعي وقصد وتصميم، فهنا يكون الغش، وهذا هو الكذب.
أما تقديم صورة زائفة بدون وعي، أو باقتناع كامل بحقيقتها، و العمل على تسويق هذه الصورة على الناس، فهذا هو خداع النفس، و هذا هو المرض!

كيف يكون الحال إذا انتشر المرض بين عدد كبير من الناس في مكانٍ واحد، ألا يصبح ظاهرة مرضية؟ و ماذا إذا امتد ليطال شريحة بعينها من البشر، ألا يكون وباءاً؟
وإذا استفحل المرض بين مجاميع بشرية كبرى على امتداد قارات أو مجتمعات بأكملها، ألا يصبح كارثة إنسانية؟
في الأمراض العضوية، يتطلب الأمر جهوداً طبية واجتماية، قد يلزم أن تكون خارقة، وقد يستدعي حملات موسعة من الاستنفار الإنساني، ويكون تعاون المريض ورغبته في الشفاء أمراً بديهياً.

أما إذا انتقل المرض بالتواتر الوراثي من جيل إلى جيل وترسخت أعراضه واعتادها المريض باعتبارها أمراً طبيعياً حتى ينصهر معها في كيان واحد يكون غيابها عنه مرضًا، هنا يبلغ الداء مبلغاً خطيراً و يصبح المرض داءاً إنسانياً متوطناً، يلزم لاستئصاله معجزة، بعد أن انتهى زمن المعجزات. ناهيك عن رفض المريض المطلق للعلاج، من منطلق رفضه فكرة مرضه من أساسها.

نحن العرب، و المسلمون منا على وجه الخصوص، نمثل نموذجا حيا لهذه الحالة على وجه غير ملتبس، و ربما لم يستوطن وباء إنساني عبر التاريخ والجغرافيا بين مجموعة من البشر، كما استوطن فينا خداع النفس. علينا أن نعترف بهذا، إنه داء متأصل فينا وأول خطوة على طريق العلاج هي معرفة المرض والاعتراف به.

أهم أعراض خداع النفس لدينا، هو إحساسنا الزائف بالعظمة، كيف لا وقد أخبرنا الله بعظمته و جلاله أننا خير أمة أخرجت للناس! هكذا إذن، نحن حقا خير الأمم، فليس من داع لأن نعمل فالأمم كلها تعمل من أجلنا و تسهر على خدمتنا و تشقى لإسعادنا، طبعا فنحن نستحق أكثر من ذلك. دعهم يخترعون لنا الأدوية و الأغذية و السيارات و الطيارات، و ليصنعوا لنا الأجهزة و أدوات الحلاقة والشامبوهات و حفاظات الأطفال ونكاشات الأسنان. يللا يا كلاب هاتوا التلفزيون و الدي في دي و الساتلايت لأسيادكم خير البشر. لا تظنوا أنكم تمنون علينا بشيء، فهذه بضاعتنا تردونها إلينا. ألم نخرج لكم في زماننا الرازي و ابن بطوطة و أبصر مين ليعلمكم هذه العلوم؟ ألا ندفع لكم من أموالنا حاراً و ناراً ثمن هذه البضاعة؟ إذن هيا و لا تنسوا أن تفصلواا لنا بعض القوانين والأخلاقيات و النظم الإدارية التي علمناكم إياها زمان حتى نمشي حالنا فيها، و خلوا الباقي عشانكم فنحن لا نحتاجه، أوكي؟ فنحن خير أمة أخرجت للناس....

وما دمنا كذلك، فنحن لا نعاني من أية عيوب ولا نحتاج إلى أي إصلاح. وماذا نصلح ونحن (عين الله علينا) في أحسن تقويم؟ و ليصلح الآخرون من شأنهم، وليصيروا مثلنا إن استطاعوا، فما أحوجهم إلى الإصلاح والترميم، بل إلى الهدم الكامل و البناء من جديد (ياحرام!)، هكذا...

تسمى هذه الحالة لدى الأفراد في الطب النفسي باسم جنون العظمة (Paranoia) ، و هي حالة نفسية مرضية يعاني فيها المريض من أوهام غير حقيقية عن كونه مضطهد من الآخرين، و أن سبب اضطهاده هو أنه شخص بالغ الأهمية، ولذلك يعمل الآخرون على الحد من أهميته و الحط من قدره من خلال الاضطهاد المستمر.
يولد شعوره الزائف بالعظمة و من ثم بالإضطهاد، إحساساً دفيناً بعدم الثقة في من حوله، يجعله شديد المراقبة و التربص لكل ما يحيط به، ويستحوذ عليه إحساس عارم بالعدائية يدفعه إلى يفسر كل تصرف غير مقصود على أنه يستهدفه ولا يرمي إلا إلى إيذائه.
يصبح هذا الوهم مع الوقت شديد التنظيم بحيث يبدوالمريض شديد الإقتناع و الاقناع به لدرجة تصل إلى حد الإعتقاد، و يجعله ذلك يبدو طبيعيا سليماً لا يعاني من المرض.

والواقع أن هذا المرض مرض معدي، بل هو مرض وبائي بكل معنى الكلمة. هو ليس معدياً بالمعنى الفيروسي وإنما بالمفهوم السلوكي. يعني عندما يعيش شخص سليم مع شخص آخر مصاب بالبارانويا، في بيئة معزولة عن المؤثرات الخارجية، فإن أوهام الشخص المصاب تنتقل بالاقتناع إلى الشخص السليم فيتبناها ليصبح مريضاً هو الآخر. وكلما اتسعت دائرة المعايشة كلما انتشر الشعور بنفس المخاوف، وأصبحت تجمع الكل منظومة واحدة من الأوهام المشتركة (Shared Psychosis) و يطلق الأطباء على هذه الحالة إسم (National Paranoia) أو جنون العظمة الإجتماعي.

لا أريد أن أتفلسف أو أبدو أكاديميا، فلست طبيباً و لا أدعي ذلك ولكن من هذه القراءة المبسطة أقول بضمير مرتاح: نعم الأمة مريضة نفسياً، بداء عضال مستوطن، داء الكذب. و الكذب الممنهج على الذات!
نكذب على ذواتنا ثم نكذب عليها، ثم نكذب، حتى نصدق أكاذيبنا بل نعتنقها، ثم تجدنا نطالب الدنيا بتصديقها واحترامها باعتبارها ثقافتنا التي نعتز بها. ننحدر في هاوية الإزدواجية، بل قل سلسلة متشابكة من الإزدواجيات المضحكة المبكية. نحيل الأسود أبيضاً والباطل حقاً إرضاءاً لغرورنا الموهوم و عظمتنا الزائفة. وعبر الأجيال المتعاقبة، تدحرجت أوهامنا بالعظمة ككرة الثلج في نفوسنا، كبرت وكبرت ثم تضخمت بالتدريج حتى تواترت إلينا اليوم عملاقاً بحجم الكون.

نطمس الحقيقة بينما نقدس الخرافة، ننادي بالصدق ونعتنق الأباطيل، ندعو إلى العدل فيما نتداول التدليس، نبشر بالاستقامة .... و نقود الانحراف، نسب أميركا و نعبد الدولار، نسجد لله و نصلي للشيطان .... ولم لا يحق لنا، ألسنا خير أمة....؟

وبعد، إن لم يكن هذا مرضاً، فماذا يكون المرض إذن؟

نقول لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، و نقسم بعظمتنا أننا مؤمنون، و نعمد إلى نفس الجحر ندعوه ليلدغنا سبعين مرة. نغرف بمئة مكيال و نلوم كيلهم بمكيالين. نظلم أنفسنا ونطالبهم بالعدالة.

نصيح ملء كياننا: "لا يغير الله ما بقومٍ، حتى يغيروا ما بأنفسهم" ، وترانا نغير الله، و نأبى لأنفسنا أن تتغيير.

نعم مرضى، و المرض عضال، و عندما يأتي المرض، لا بد من الطبيب. بديهية بسيطة لا جدال فيها، و وجود الطبيب يقتضي العلاج. أما والحالة هنا متعسرة فالعلاج غير متيسر.

قالوا زمان "آخر العلاج الكي" أما اليوم فأخشى أن يقول الطب "أول العلاج ... الحرق"



#محمود_الباتع (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عملية الدكتور حسن نصرالله
- تحجيب الحضارة


المزيد.....




- أمسكته أم وابنها -متلبسًا بالجريمة-.. حيوان أبسوم يقتحم منزل ...
- روبيو ونتانياهو يهددان بـ-فتح أبواب الجحيم- على حماس و-إنهاء ...
- السعودية.. 3 وافدات وما فعلنه بفندق في الرياض والأمن العام ي ...
- الولايات المتحدة.. وفاة شخص بسبب موجة برد جديدة
- من الجيزة إلى الإسكندرية.. حكايات 4 سفاحين هزوا مصر
- البيت الأبيض: يجب إنهاء حرب أوكرانيا بشكل نهائي ولا يمكن الق ...
- نتنياهو: أبواب الجحيم ستُفتح إذا لم يُفرج عن الرهائن ونزع سل ...
- رئيس وزراء بريطانيا يتعهد بـ-الضغط- لإطلاق سراح علاء عبدالفت ...
- وزارة الدفاع السورية تتوصل إلى اتفاق مع فصائل الجنوب
- -ربط متفجرات حول عنق مسن-.. تحقيق إسرائيلي يكشف فظائع ارتكبه ...


المزيد.....

- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمود الباتع - خداع النفس