|
-ثيودور الثانى- مأساة إمبراطور أراد ردم النيل الأزرق
داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ
(Dahlia M. Saad El-din)
الحوار المتمدن-العدد: 6950 - 2021 / 7 / 6 - 16:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
فى حديث سابق عرضنا لفترة عصيبة من تاريخ دولة إثيوبيا، عرفت بعصر الفوضى، وخلال تلك الفترة كان هناك فترة عرفت بالفوضى الكبرى التى امتدت لأكثر من سبعين سنة، تبدأ بنهاية حكم الإمبراطور "تكلا هيمانوت الثانى 1769 – 1777"، حتى بداية حكم الإمبراطور "ثيودور الثانى" سنة 1855، وفترة حكم الأخير ومن بعده "يوحنا الرابع" هما موضوع حديثنا هذا والقادم، ذلك أن فترتى حكمهما تداخلا جزئيا بتاريخ الدولة المصرية آنذاك، كما أن فترتى حكميهما كانتا الارهصات الفعلية لنهاية عصر اللامركزية فى إثيوبيا أو ما يعرف بعصر الفوضى وحكم الأمراء.وتروى الأسطورة الشعبية عن "كاسا هايل جورجيوس" الذى اصبح الأمبراطور "ثيودور الثانى"، بأنه عرف أيضا بكونه "كاسا هايلو" التى هى بمعنى "السلطة" فى اللغة "الجعزية القديمة"، كما تقول الاسطورة بأنه كان ابن بائعة "الكوسو" فى "جوندار"– والكوسو هو علاج شعبى إثيوبى من الأعشاب كان يستخدم لتطهير الأمعاء من الديدان؛ ذلك المرض الذى كان منتشرا نظرا لأكل اللحم النيىء، تلك العادة التى اعتاد عليه شعب الهضبة منذ حروب "أحمد الجران" ضد مملكة إثيوبيا خلال القرن السادس عشر. إلا أن والدة الطفل "كاسا" كانت من النبلاء، غير أنها اضطرت لبيع "الكوسو" فى أسواق "جوندار" العاصمة بعد طلاقها من والد "كاسا"، وانتقالها وابنها للعيش فى "جوندار"، لكن هناك من يقول بأن تلك القصة ملفقة من أعداء الإمبراطور "ثيودور" نفسه، لأنه لم يكن من سلالة الأسرة السليمانية ليكون له حق اعتلاء العرش باعتباره "نجاش ناجوشت – أى ملك الملوك" على كل أمراء إثيوبيا، خاصة وأنه كان متزوج من الأميرة "ياتامانو" التى كانت زوجة أحد أمراء الأورومو المسلمين؛ إذ كانت ذات جمال وذكاء خلابين، الأمر الذى أوقع الإمبراطور "ثيودور" فى غرامها، مما دعاه لأسرها ووتقديمها لمحكمة كنسية أعلنت خلالها اعتناق الديانة المسيحية، ومن ثم تم له الزواج منها. إلا أن "ثيودور" نفسه لم يذكر إطلاقا كونه من سلالة "الأسرة السليمانية"؛ إذ كان يعتبر كونه من مليشيات "الشفتا" أمر يدعو للفخر، ذلك أنه كان يحارب طغيان الإقطاعيين الإثيوبيين وكل من هو عدو لشعب التيجراى فى شمال الهضبة الإثيوبية، حتى دان له كل أمراء الشمال بالطاعة، وتم له اعتلاء العرش فى 7 فبراير 1855، متخذا لقب "ثيودور الثانى" الذى تنبأ به "يسوع" فى الإنجيل الإثيوبى المعروف باسم "فيكّارى لياسوس" أى "حب يسوع" ، الذى سيكون هو منقذ إثيوبيا والشرق من الشرور والفوضى، وهكذا فهو "المختار" من قبل الله نفسه ليكون "المنقذ والمخلص"، ومن ثم فهو أعلى شأنا من "السلالة السليمانية" نفسها، وهو من سيقوم بردم "آباى – النيل الأزرق" ليتم له التحكم والسيطرة على "مصر" فى الشمال من خلال تجفيف نهر النيل الذى يدعى شعبه بأن بلادهم هى "هبته"، ومن خلال خرابه لمصر وسيطرته عليها، سوف يتجه نحو "فلسطين" لتطهيرها وتخليصها من حكم المسلمين. هنا يتضح جانب من بقايا التصور الأوروبى خلال فترة ما عرف بالحملات الصليبية فى القرون الوسطى، وما يعكسه من تسلط أفكار القرون الوسطى على السلطة الحاكمة الإثيوبية خلال خمسينات القرن التاسع عشر الميلادى، كما يوضح جانب من النعرة الإثيوبية المتعلقة بالتراث الدينى الذى يؤكد كون "الشعب الإثيوبى" هو "شعب الله المختار"، مما يجعل السلطة الدينية والسياسية الحاكمة لإثيوبيا ترى علو شأنها عن شأن الكنيسة المرقسية الأم فى مصر، ومن ثم الحق فى انتماء الكنيسة المرقسية للكنيسة الإثيوبية وليس العكس، رغم كون الديانة المسيحية نفسها دخلت للهضبة الإثيوبية عن طريق المسيحيين الأقباط من الرهبان الذين هربوا نحو الجنوب نتيجة لما اعترى مصر من اضطهاد دينى خلال القرن الرابع الميلادى، عموما ذلك التراث الدينى الإثيوبى سوف نتعرض له بالتفصيل فى حديث أخر. على كل حال فبعد اعتلائه العرش لم يكن العائق فى توحيد أمراء وملوك الهضبة إلا حاكم واحد من سلالة الأسرة السليمانية المقدسة، ذلك الذى كان يحكم مقاطعة "شوا" فى أقصى الجنوب الشرقى للهضبة، وكان هو الملك "هايل ملكوت"، فاتجه "ثيودور" بجيوشه صوب "شوا" لإخضاع ملكها، غير أن الملك "هايل ملكوت" كان قد توفى وترك على عرش المملكة ابنه الصغير "ساهلا ماريَم" – "منليك الثانى" فيما بعد - الذى لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره، وكادت المقاومة ضد حكم "ثيودور" أن تنهار لولا وصول الأخبار بأن الملكة "زينبيورك" جدة الملك الصغير، قد آثرت الخضوع للإمبراطور حفاظًا على المملكة من الدمار والمصادرة، وقد سيق الملك الصغير مع والدته وعمه حيث أمر الإمبراطور بإيداعهم إحدى القلاع بمقاطعة "مجدلا"، وذلك بعد أن أصدر أوامره بدفن الملك الراحل "هايل ملكوت" فى موكب كبير، وقد أحاط الإمبراطور"ثيودور" "ساهلا ماريَم" بالرعاية والاهتمام، حتى إنه زوجه من ابنته الوحيدة "أليتاش"؛ إذ كانت تلك هى سياسة الإمبراطور "ثيودور الثانى" تجاه الزعماء والأمراء الإثيوبين، ومن قبله كانت سياسة أسلافه من الأباطرة، حيث كان يأخذ أبناء الأمراء ليعهد بتربيتهم إلى حاشيته فيشبون فى كنفه فلا يكون لهم ولاء لأحد سواه، ومن ثم يعيدهم بعد أن يشوبوا عن الطوق ليحكموا مقاطعاتهم تحت لوائه ووفق سياسته. هكذا استطاع "كاسا هايلو" توحيد أمراء وملوك إثيوبيا خلال خمسينات القرن التاسع عشر وترسيخ نوع من الاستقرار السياسى فى الهضبة، إلا أنه لابد من الإشارة أنه لولا المساعدات الأوروبية عن طريق كل من التجار الإنجليز واليونانيين على حد سواء ما كان "لثيودور" أن يواصل حروبه لإخضاع كل أمراء وملوك الهضبة الإثيوبية، ورغم أن التجار اليونانيية كانوا يسعون لتحويل ولاء الكنيسة الإثيوبية من الكرازة المرقسية المصرية إلى الكنيسة اليونانية ذلك أنهم مثله يتبعون نفس المذهب "الأرثوذوكسى"، غير أن علاقته بهم كانت مستقرة نسبيا، بينما مشكلته الحقيقية كانت مع التجار والرهبان الإنجليز الذين لاحظ تزايد نفوذهم فى الهضبة بين الشعب الإثيوبى ومحاولة تحويل الشعب للكنيسة الإنجيلية البريطانية, مما حدى به لإن يرسل رسائل التهديد للملكة "ڤيكتوريا"، بل والقبض على بعض التجار والرهبان الإنجليز واحتجازهم ليكونوا بمثابة ورقة ضغط على الحكومة الإنجليزية لأن ترفع يدها عن التدخل فى الشأن الإثيوبى الداخلى. إلا أن القبض على هؤلاء التجار والرهبان واحتجازهم، كان سببا لغضب اعترى المجتمع الإنجليزى، مما دفع الحكومة لإرسال حملة عسكرية انطلقت من الهند بقيادة "اللورد ر. نابير" النائب الإنجليزى فى المستعمرة، التى وصلت إلى شواطئ البحر الأحمر فى منتصف شهر أكتوبر سنة 1867، وقضى اللورد "نابير" الفترة من أكتوبر 1867 وحتى أواخر مارس 1868 فى مفوضات مع الأمراء الإثيوبيين الناقمين على حكم الإمبراطور "ثيودور الثانى" الذى سلبهم إقطاعياتهم وثرواتهم؛ إذ أوضح لهم اللورد "نابير" أن القوات العسكرية البريطانية، والتى يبلغ قوامها الثلاثين ألف جندى لم تأت إلا لإنقاذ الرعايا الإنجليز المحتجزين، وأيضا لإنقاذهم وشعوبهم من طغيان الإمبراطور "ثيودور الثانى"، ومن ثم توصل "نابير" لتحييد هؤلاء الأمراء خلال حربه مع "ثيودور" الذى لم يتبقى معه من القوات إلا أربعة آلاف جندى إثيوبى واجه بهم القوات الإنجليزية فى 10 أبريل 1868 فى "مجدلا"؛ فمُنى وقواده بهزيمة، ارتد على إثرها نحو قلعة "مجدلا"، التى انتحر فيها بعد خمسة أيام من الهزيمة فى 15 أبريل، وبعد إعلان انتحار الإمبراطور، دخلت القوات الإنجليزية القلعة واعملوا فيها التخريب والنهب، حتى أنهم نهبوا التاج الإمبراطورى وبعض رسائل الإمبراطور، والكؤوس والسيوف الفضية، حتى أن كنيسة القلعة نفسها لم تسلم من عمليات النهب تلك، فتمت سرقة الصلبان والأثواب المطرزة بالذهب والفضة. وتعد الرسائل التى تم العثور عليها مؤخرا من الإمبراطور "ثيودور الثانى" لزوجته الأميرة "ياتامانو" من روائع الأدب الإثيوبى القديم، ناهيك عن كونها كنز وثائقى يعكس انطباعات ومشاعر الإمبراطور وما تعرض له من تأمر بوقوف الأمراء الإثيوبيين على الحياد خلال فترة حربه مع الإنجليز، وخاصة الخمسة أيام الأخيرة فى عمره، عموما بعد انتحار "ثيودور" حلت الفوضى السياسية مرة أخرة ربوع الهضبة الإثيوبية حتى استطاع الراس "كاساى مارتشا" فى إقليم التيجراى فرض سيطرته واعتلاء عرش إثيوبيا فى العاصمة "جوندار" فى يناير 1871 حاملا لقب "يوحنا الرابع"، ليعود الاستقرار النسبى مرة أخرى للهضبة الإثيوبية، ومن ثم استطاع مواجهة أطماع الخديوى "إسماعيل باشا" فى ضم الهضبة الإثيوبية للإدارة المصرية آنذاك، وذلك محور حديث أخر لنا .
#داليا_سعدالدين (هاشتاغ)
Dahlia_M._Saad_El-din#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإرهاصات الأولى للحضارة المصرية القديمة
-
إثيوبيا وعصر الفوضى
-
مصر فى الميراث الإثيوبى
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|