مدخل:
يشكل مقال الاستاذ ابكر آدم اسماعيل ؛ والموسوم جدلية المركز والهامش واشكال الهوية في السودان http://madarat.org/writers/abbakar/identity.html والمكتوب في القاهرة ؛ في ديسمبر من العام 1999؛ والذي نشر في جريدة الصحافة السودانية؛ واحدا من اهم المقالات التي كتبت عن موضوع الهوية ؛ واشكالات الصرع الاجتماعي الثقافي السوداني. وفي المقال فوق التحليل الشافي لصيرورة الاشكال وصراع المفاهيم حول هذه الثيمة؛ اشارات عبقرية لمآلات االصراع السياسي والاحتماعي في السودان ؛ بما فيه الثورة الحالية في دارفور.
يذهب استاذ ابكر في تحليل تاريخي سياسي فكري عميق ومبتكر؛ مدعم بالكثير من المراجع والوقائع التاريخية والرصد السوسيولوجي؛ الي أن الدولة السودانية متحيزة لكيان إثني ثقافي يقوم باستثمارها إقصائيا ويفرض توجهاته ضد كيانات إثنية ثقافية أخرى. ويقول ان هذا الكيان – المتركز والمسيطر في المركز - قد بني لنفسه هوية ايدلوجية هي الاسلاموعربية؛ وبعد ان يحلل مكونات هذه الايدلوجية؛ يذهب الي انها قائمة علي نزعتي الهيمنة والاقصاء؛ تجاه هويات ومصالح المناطق والكيانات الاخري؛ الامر الذي ادي الي الصدام القومي؛ والمتجلي في صورة الحرب الاهلية الدائرة حاليا في مناطق مختلفة من السودان؛ علي محور الهامش- المركز.
لا مجال هنا لعرض كل افكار استاذ ابكر وتحليلها؛ ولا تقديم الاختصار الكافي لها؛ فليرجع لها من يود في مصدرها؛ حيث ان غرضي من هذا المقال ليس عرضها او الحوار حولها؛ وانما الخروج منها بتحليلات سياسية. في المقاربة الحالية اذن؛ انطلق من افتراضات وتحليلات الاستاذ ابكر؛ لادرس بالتفصيل ما اجمله في نهاية مقاله؛ والمتعلق بالمآلات المحتملة للصراع وافاق الحلول.
في مقاله يطرح استاذ ابكر ثلاثة مآلات رئيسية للصراع وللاشكال القائم ؛ وآفاق حله ؛ حيث يقول :
"كما ذكرنا، أن جدلية المركز والهامش، هذه الوضعية التاريخية المأزومة قد وصلت أزمتها (في السودان) إلى قمة تجلياتها بتفشي الحروب الأهلية. ومنهجياً، ليس بمقدورها إعادة إنتاج نفسها واستمرارها مرة أخرى، وتبقى مآلاتها في الاحتمالات التالية"
ثم يسرد استاذ ابكر الاحتمالات؛ وهي الثورة ؛ والمساومة التاريخية ؛ والانهيار.
المآل الاول: الثورة :
بكتب استاذ ابكر في سيرورة الاحتمالات والمآلات :
" قيام الثورة: وذلك بتشكل كتلة تاريخية Historical Mass عبر تحالف الكيانات المهمشة مع قوى الوعي والتقدم في (المركز) للإطاحة بهذه الوضعية التاريخية التي باتت تضر بغالبية الناس في السودان بمن فيهم السواد الأعظم من أبناء المركز أنفسهم. وبالتالي تأسيس الأوضاع بشروط جديدة تستند على حقيقة التعددية وتلتزم بتوجهات العدالة والمساواة والتعايش السلمي، والارتفاع بقضية الهوية المشتركة ـ هوية الدولة ـ من الظرفية إلى التاريخ (أي لكل هويته والدولة للجميع) حتى يحكم التاريخ في مسألة (الذاتية السودانية) جيلا بعد جيل."
اما هذا المآل ؛ قتقف مع احتماليته ظروف توسع رقعة الصراع الاجتماعي – السياسي – العسكري ؛ علي مستوي المركز – الهامش؛ الي رقعات جديدة؛ قمنذ منتصف التسعينات انتقل هذا الصراع الي شرق السودان؛ وتوسع في الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الازرق ؛ وانتقل مؤخرا الي دارفور.
اما في شرق السودان ؛ ورغم انخراط قوي مدينية ثحسب ضمن القوي الثورية مثل التحالف الوطني السوداني -قوات التحالف السودانية ؛ الحزب الشيوعي السوداني – مقاتلي الجبهة الديمقراطية (مجد)؛ وقوي تميل فكريا وسياسيا للمركز ( حزب الامة - جيش تحرير الامة ؛ الاتحادي الديمقراطي - قوات الفتح – القوي الثورية ؛ التجمع الوطني الديمقراطي – القيادة الشرعية ) ؛ الا ان جغرافية موقع الصراع ؛ والدعم الاقليمي له (اريتريا) ؛ واشتراك قوي من الهامش في هذه الجبهة – لواء السودان الجديد ؛ التحالف الفيدرالي ؛ تجعل الثورة في الشرق ثورة للهامش في ذلك الاقليم ؛ وترفع من اسهم التنظيم الاساس هناك ؛ والكيان الذي يعبر عنه – واعني هنا مؤتمر البجة وجماهير البجة ؛ بل انه مثير للاهتمام كيف ان دهاقنة المشروع الاسلاموعروبي قد استعدوا حتي بعض الجيوب الثقافية الاسلامية العربية في الهامش؛ كما فعلوا مع قبيلة الرشايدة؛ والتي انضمت لمشروع الثورة ؛ وكونت تنظيمها السياسي العسكري – الاسود الحرة ؛ ورفعت شعار السودان الجديد .
من الجهة الاخري؛ فمشروع ثورة الهامش يكتسب دفعا جديدا؛ باذدياد الدور السياسي لمناطق جبال النوبة وجنوب النيل الازرق؛ والتي ربطت نفسها بالثورة في جنوب السودان؛ وخلقت قياداتها المحلية – القائد الراحل يوسف كوة مكي؛ القادة عبد العزيز الحلو ؛ مالك حقار؛ الخ وهي قيادات اثبتت القدرة ؛ بالتضامن مع الثوار في الجنوب او بمعزل عنهم – كما تم في الاعوام 1991-1997 ؛ ان تقود كفاحا مسلحا وسياسيا فعالا ضد السلطة المركزية. ان تفويض موتمر النوبة الاخير في كادوبا للحركة الشعبية لتحرير السودان للتفاوض باسمهم؛ انما هو دلالة جديدة علي ترابط التيار الثوري في الهامش؛ وعمله الدؤوب عن طريق الآليات العسكرية والتفاوضية؛ علي تفكيك سيطرة المركز وتوحيد الخطاب والموقف الثوري عن طريق ربط قضايا الهامش مع بعضها البعض.
اما الثورة في دارفور؛ والتي بدات كمفاجاة للجميع ؛ رغم ان دارفور كانت تعيش حالة ثورية مستمرة منذ اوائل التسعينات ؛ كانت حركة بولاد بعض ارهاصاتها؛ والتي استطاع "الانقاذ" ان يحيدها بالصراع القبلي والاجتذاب الي مواقع السلطة والتاثير الايدولوجي عن طريق القاسم المشترك – الاسلام – فان انطلاقها العارم اليوم؛ يشكل دفعة جديدة للمآل الثوري.
الثورة في دارفور تبدو مدركة لدورها واتجاهها ومكامن ضعفها وقواها؛ و نرصد ذلك في سعي قواها المختلفة – حركة تحرير السودان ؛ العدل والمساواة ؛ التحالف الفيدرالي- الحثيث للوحدة او علي الاقل التنسيق السياسي فيما بينها ؛ ويناء التحالف علي مستوي الكيانات – القبائل العربية والافريقية ؛ وكذلك ا في التنسيق العسكري ؛ كما تبدي في انطلاقة الثورة بثلاثة مناطق وبمشاركة ثلاثة مجموعات عرقية – الفور والزغاوة وميليشيات الجينجويد العربية الخ الخ ؛ من الجهة الاخري سعيها للتنسيق مع قوي الهامش الاخري – الحركة الشعبية لتحرير السودان حاليا - وقوي الهامش والقوي الثورية في المركز مستقبلا.
من طرف أخر؛ فان اضعف حلقات المشروع الثوري؛ تبدو في الوسط. وقد كانت قوات التحالف السودانية؛ عند الكثيرين؛ هي طليعة القوي المدينية التي يمكن ان تبني حلفا ثوريا تاريخيا؛ مع كيانات المهمشين؛ يساهم بالقضاء علي السلطة المركزية بمشروعها الاجتماعي – الثقافي القديم ؛ ويبني "السودان" الجديد؛ بتحالف فونجي- عبدلابي جديد؛ يكون قائداه هم عبدالعزيز خالد وجون قرنق. الا انه يبدو ان قوات التحالف قد عجزت عن االقيام بهذا الدور؛ رغم محاولتها المتفردة في توحيد خطابها واشكال نضالها مع خطاب ونضال قوي الهامش.
الواضح الان؛ ان القوي الثورية في الوسط؛ هي في حالة ضعف وتفكك؛ والدليل مشروع الوحدة بين الحركة الشعبية وقوات التحالف السودانية؛ والذي هو بحيثياته مشروع لتكبير كوم الحركة الشغبية؛ اكثر منه بناء لحلف جنوبي – وسطي جديد. كما ان الاطراف الاخري التي يمكن ان تنخرط في مشروع الحلف المقترح؛ مثل الحزب الشيوعي؛ حركة حق؛ حركة جاد ؛ الخ لهي من الضعف والتشتت؛ بحيث انها لا تشكل رفيقا مؤتمنا وقويا يمكن ان تعول عليه كيانات الهامش في سعيها لاختراق الوسط وهزيمة قواه المسيطرة.
المأل الثاني : المساومة التاريخية:
يكتب الاستاذ ابكر: "إن لم يتيسر قيام كتلة تاريخية ناضجة وقادرة على إنجاز فعل الثورة لأي أسباب أو تداخلات أخرى، فتبقى المسألة مرهونة بمقدار التنازلات التي يمكن أن تقدمها النخبة الإسلاموعربية (يمينها ويسارها) واستعداد قوى الوعي والمهمشين للتضحية للاتفاق على برنامج حد أدنى مثل (ميثاق أسمرا للقضايا المصيرية) والالتزام به مما قد يؤدي ـ على المدى الطويل ـ إلى التحولات الضرورية، وإنجاز ما كان يمكن أن ينجزه فعل الثورة."
يحتل هذا المآل اهمية فائقة؛ وخصوصا اذا ما علمنا بان احتمال الثورة قد يؤدي الي احترابات حادة؛ والي تمترس مختلف القوي التي تنتمي الي النخبة الاسلاموعربية ضد القوي الثورية القادمة من الهامش؛ وتجييشها للجماهير في الوسط والمتاثرة بالايدولوجية الاسلاموعربية دفاعا عن "حرائرها" واسلوب معيشتها و "هويتها" ؛ ولكيلا يشرب قرنق القهوة في المتمة ؛ بل علي الاكثر في ملكال.
والمساومة التاريخية مفهوم نحت في وقت الحرب الباردة؛ في ايطاليا وفرنسا؛ وكان المقصود به احداث اتفاق يكفل للقوي الاجتماعية – العمال واصحاب العمل – والسياسية- اليمين واليسار ؛ والتيارات الايدلوجية – الليبرالية والماركسية - الوصول الي اتفاق؛ يمكنها من تجاوز حالة الاستقطاب الحادة في المجتمع؛ ووجود قوي تجتماعية وسياسية مؤثرة؛ من موقع اليسار؛ خارج االسلطة وخارج دائرة التاثير.
بهذا المعني؛ فان المساومة التاريخية تتجاوز كونها مجرد اتفاق علي اقتسام السلطة؛ او ما يعرف بالمساومة الانتهازية؛ لتصل الي حدود ارساء اتفاق تاريخي؛ او قل عقد اجتماعي جديد؛ يكفل لقوي متضادة ومتناقضة ومتصارعة ان تصل لاتفاقات لا تؤدي الي تدميرها معا واهدار طاقات المجتمع؛ كل ذلك في ظل تنازلات متبادلة تقدمها الاطراف المتنازعة.
ما هي احتمالات المساومة التاريخية في السودان؛ وما هي القوي التي ستنجز تلك المساومة؛ وما هي القوي الحريصة علي تلك المساومة؛ واي القوي قد تعمل علي افشال هذه المساومة؟
يبدو لنا ان قوي الهامش راغبة في انجاز مساومة تاريخية؛ وبعض القوي المنتمية تاريخيا المركز؛ والمستندة علي المشروع الاسلاموعربي؛ او تلك التي تتنائي عنه نظريا؛ ولكتها تظل محسوبة عليه او غير قادرة علي مجابهته. ان محاولة لانجاز تلك المساومة بين تلك القوي قد تمت في عام 1995 في مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي في اسمرا؛ المعروف بمؤتمر القضايا المصيرية. جمع ذلك المؤتمر وقتها القوي التقليدية التي تنتمي للمشروع الاسلاموعربي في السودان؛ مثل حزبي الامة والاتحادي الديمقراطي؛ والقوي المعبرة عن مناطق الهامش؛ مثل الحركة الشعبية ومؤتمر البجة ؛ والقوي المدينية المراوحة بين المركز والهامش؛ مثل الحزب الشيوعي والقيادة الشرعية؛ والقوي المدينية الجديدة المرتبطة والمتحالفة مع قوي الهامش؛ مثل قوات التحالف السودانية.
انجز المؤتمر محاولة لتلك المساومة؛ عندما اجاز مبدأ قيام الدولة علي اساس المواطنة؛ ودعا ال فصل الدين عن السياسية؛ واقر مبدأ حق تقرير المصير للمناطق المهمشة؛ وفي راسها الاقليم الجنوبي؛ كما دعا الي التوزيع العادل للثروة؛ واقر صيغة الفيدرالية حلا لمشكلة توزيع السلطات والعلاافة بين محتلف التكوينات الادارية والاقليمية في السودان.
ما يقلل من وزن تلك المحاولة؛ هو غياب احد الاطراف الرئيسية فيها؛ وهو كتلة الحركة الاصولية – الانقاذ؛ وهي القوي الاكثر تطرفا في التعبير عن المشروع الاسلاموعربي في البلاد؛ وبذلك فان المساومة تفقد احد لاعبيها الاساسيين. من الجهة الاخري يقلل من قيمة المساومة؛ انها جرت بين قوي معارضة؛ يجمع بينها هم واحد؛ هو القضاء علي النظام؛ ومن ثم لا ضمانة هناك علي التزامها بنص ما اتفقت عليه؛ حالما تتغير الظروف السياسية ؛ وموازين القوي. ويسترعي الانتباه هنا موقف القوي الطائفية؛ والتي لها تاريخ طويل في نقض العهود؛ وقد بدات بعض اطرافها فعلا في التنصل من اتفاقات اسمرا(حزب الامة).
من الجهة الاخري؛ فان اكثر طرفين وضوحا وجذرية في وقوفهما مع وضد المشروع الاسلاموعوبي في السودان؛ اي الحركة الاسلامية – الانقاذ ؛ والحركة الشعبية لتحرير السودان؛ قد خاضا مفاوضات مباشرة طيلة ال14 عاما الاخيرة؛ بغرض الوصول الي شكل من اشكال المساومة؛ بما يوقف الصراع في صورته الاكثر حدة؛ اي الحرب الاهلية؛ وبما يفتح الطريق امام شكل من اشكال المساومة؛ من باب آخر.
في هذا الصدد يمكن ان ننظر الي مفوضات الايقاد؛ ومفاوضات ابوجا؛ ومفاوضات ميشاكوس الحالية؛ باعتبارها محطات علي طريق الوصول الي هذه المساومة في حدها الادني؛ وايقاف حالة الحرب بين الطرفين الذين يقفان علي مستوي النقيض؛ في جدل المركزالهامش وفي اشكال الهوية وفي مجمل الصراع الاجتماعي السياسي في السودان.
اننا ننظر الي مفوضات الايقاد باعتبارها الاكثر تقدما في كل هذه المحطات؛ وذلك لان اعلان مبادئها قد نظر الي المشكلة في عمومها؛ باعتبارها مشكلة العلاقة بين الدين والدولة؛ وبين المركز والهامش؛ وضرورة وجود الديمقراطية لحلها. ان الايقاد بهذا المقدار قد كانت اكثر تقدما من مفاوضات ابوجا ومشاكوس؛ الذين يختصران الصراع في صورته التقليدية؛ اي محور شمال – جنوب؛ ويبدو ان الهدف منهما هو الوصول الي ايقاف الحرب فقط؛ والوصول الي مساومة انتهازية بين الطرفين؛ وليس مساومة تاريخية.
معضلة المفاوضات القائمة؛ ان الشقة بين الطرفين جد عميقة؛ وان كلا منهما قد بني وجوده السياسي ودعايته الاساسية؛ علي ثيمة الهوية؛ في ازاحة متعمدة لقضايا الصراع الاجتماعية والسياسية الاخري. بهذا المعني فان جلوس هذين الطرفين الي مائدة المفاوضات؛ وامكانية وصولها الي شكل من اشكال المساومة؛ لا يرجع الي قناعات حقيقية وسط قادتهما؛ توضح ان هذه القيادات قد نضجت للوصول الي مساومة تاريخية ؛ بقدر ما يعبر عن حالة العجز علي القضاء علي الخصم؛ والضعف عن احراز نصر نهائي؛ واستجابة للضغوط الاقليمية والدولية المتزايدة. ان اي اتفاق يتم التوصل اليه في هذه الحالة؛ يظل مهددا بالخطر؛ في حالة تغير ميزان القوي؛ وشعور اي من الطرفين بفدرته علي حسم الصراع عسكريا لمصلحته.
من الجانب الاخر؛ فان الانقسام في وسط الحركة الشعبية لتحرير السودان ؛رائدة قوي الهامش؛ والانقسام وسط الحركة الاسلامية – الانقاذ؛ راس رمح المشروع الاسلاموعربي وفصيلته الاكثر صدامية ؛ والتصدع الذي اصاب التجمع الوطني الديمقراطي؛ وبروز لاعبين جدد علي ساحة الصراع مثل حركات دارفور المسلحة ؛ والعلاقات المتبدلة والمتغيرة ما بين القوي المختلفة في فسيفساء الصراع السوداني؛ تؤدي الي ابعاد احتمال الوصول الي مساومة تاريخية؛ والتي يكتب لها النجاح اذا ما تمت بين طرفين قويين؛ يضمنان الالتزام بها والزام قواعدهما بها. ان تعدد اطراف الصراع السوداني؛ وطبيعة المنافسة القائمة بين القوي التي تكون كل معسكر؛ والرغبة في اجهاض وضرب ما ينجزه الخصم السياسي؛ تجعل اي مساومة تاريخية مهددة بالاجهاض من مختلف القوي التي تقف خارج دائرة الاتفاق؛ والتي ستعمل لاثبات وجودها بكل جهدها علي اجهاضه.
المآل الثالث : الانهيار:
يكتب الاستاذ ابكر : " فإذا استمرت المساومات السياسية التي لا تعنى بجوهر المشكلة، واستمر العجز عن تشكيل كتلة تاريخية ناضجة (وعيا وقوة) وعجزت المركزية عن تقدير الواقع حق قدره وأصرت على مشروعها، فيبقى احتمال الانهيار على شاكلة الصوملة أو تفتت الدولة السودانية إلى أقاليم متحاربة. ولا تستبعد التدخلات الخارجية كنتيجة طبيعية لذلك. وقد يكون انفصال الجنوب البداية لهذا الانهيار، وربما ساعد ذلك في إعادة الإنتاج للأزمة في السودان الشمالي واستمرار الوضعية فيه إلى حين اكتمال نهوض قوميات الأخرى والدخول في مأزق جديد. مع احتمال نشوء نفس الأزمة في الجنوب إن لم يستفد الجنوبيون من الدرس التاريخي."
ان الاحداث الاخيرة في دارفور؛ وبداية الحرب الاهلية ضد المركز هناك؛ بشكل اكثر شراسة وتطورا عن بدايتها لعقدين خليا في الحنوب؛ او لعقد خلي في الشرق؛ ورد الفعل العيي الذي انتهجته الحركة الاسلامية- الانقاذ؛ بتعويلها علي الحل العسكري؛ وبمحاولتها نزع الطابع السياسي للنزاع؛ وتصويره وكانه نهب مسلح؛ او تحريفه لصراع قبلي ؛ او فوق- قبلي؛ انما تشير الي امكانية هذا المآل؛ وهو مآل خطير.
الاشارة الثانية الي هذا امآل؛ نجدها في الاتجاهات الايرة وسط التيار الانقاذي – الاسلامي؛ بالحديث عن الانفصال كحل للازمة؛ ومحاولة خلق اتجاه انفصالي؛ وسط الكيان الاسلاموعربي؛ ردا علي المخاطر التي تتهدد المشروع الاسلاموعربي في السودان؛ وامكانية انهاء سيطرة هذا الكيان والنخبة المتحدثة باسمه؛ علي مقاليد السلطة والثروة في السودان.
الاتجاه الانفصالي آنف الذكر؛ نجد جذورا له في مسلكيات الحركة الاسلامية – الانقاذية طول الوقت؛ وخصوصا بعد توقيعها لاتفاقية فرانكفورت؛ بين نظام الانقاذ من جهة؛ والمنشقين – الانفصاليين عن الحركة الشعبية من الجهة الاخري؛ والذي وقعه عن الطرفان لام اكول وعلي الحاج في عام 1991. هذا الاتفاق الذي مهد واسس لاتفاقية الخرطوم "للسلام"؛ والتي سجلت اعتراف الاسلاميين – الانقاذ بحق تقرير المصير لاول مرة؛ وطرح فكرة الانفصال علي اجندة الحوار والبحث.
الاتجاه الانفصالي وسط النخبة الاسلاموعربية؛ يستخدم سلاح الانفصال لهدفين: الاول هو الضغط علي كيانات الهامش؛ واضعاف موقفها التفاوضي؛ وكان لسان حاله يقول: اذا كنتم متعنتين؛ وتهددوا بالانفصال؛ فاننا نحن ايضا نطلبه؛ ولا داعي للثورة او المساومة التاريخية. السبب الثاني ظن هذا التيار؛ ان قسم السودان وانفصال الجنوب؛ سيتيح له التخلص من هم ثقيل؛ وتكريس سيطرتة علي المركز والهامش الموجود في الاقاليم الشمالية؛ وتصفية واضعاف القوي التقليدية الطائفية ؛ او جرها الي مشروعه بمساومة انتهازية؛ وتصفية الحساب مرة والي الابد؛ مع قوي الحداثة والتغيير المدينية الضعيفة؛ بعد عزلها بالانفصال عن حليفها الموضوعي في الجنوب.
خطل هذا التفكير؛ يتبدي في ان الهامش ما عاد نشطا فقط في الحنوب؛ فثورة الشرق التي تحدثنا عنها؛ وثورة دارفور اليوم؛ توضحان ان الاتفاق في المعتقد الديني؛ لسكان هذه المناطق؛ مع نخبة المركز ؛ لا يكفي لكيما تنضم وتستسلم هذخ الهوامش للمشروع الاسلاموعربي؛ بل ان تحركها يهدد هذا المشروع في اصله؛ بضربها لاحد اسلحته الايدلوجية الهامة؛ وهي استخدام الدين في الصراع السياسي.
من الجهة الاخري؛ فان تطورالثورة قي الشرق وفي دارفور؛ واستمراها في جبال النوبة والنيل الازرق؛ حتي لو تم انفصال الجنوب؛ ستنقل الصراع الي الاقاليم الشمالية؛ ما بين هامشها والمركز ؛ وستاكل من القاعدة الاجتماعية والعسكرية للمركز؛ كونه كان يعتمد في القتال اساسا علي جماهير تلك المناطق. ان المعركة ستنتقل اذن الي قلب المركز؛ وبقوي تتفوق عدديا وتحمسا ثوريا وروحا عسكرية بما يقارن؛ مع النخبة المدينية الاسلاموعربية؛ رغم تفوق الاخيرة في التسليح والسيطرة علي الموارد؛ وفي ظل توازن كهذا؛ فان الطريق الي التفتت واللبننة والصوملة جد قريب.
من المهم هنا؛ موقف قوتين ؛ وهي القوي التقليدية – الطائفية داخل المشروع الاسلاموعربي؛ وموقف قوي الحداثة والتغيير المدينية في الوسط . فالقوي التقليدية يمكن ان تحسم الصراع ؛ او تطول من مداه؛ اذا ما انحازت بصورة واضحة؛ الي التيار الاسلاموي – الانقاذي المتطرف الحاكم؛ ام الي قوي الهامش؛ والتي كانت مصدرا لدعمها وقاعدة لنفوذها السياسي عبر عقود. ان انحياز هذه القوي التيار الاقرب منها ايدلوجيا؛ وان كان اكثر تطرفا؛ والتمترس خلف ثوابت المشروع؛ اي تيار الاسلاميين –الانقاذ؛ يمكن ان يطيل من امد الصراع؛ ويقوي ويوحد من نخبة الكيان الاسلاموعربي؛ لكنها تخاطر بهذا الشكل بان تنعزل كلية عن جماهير الهامش؛ وان تفقد نفوذها القديم في تلك المناطق؛ وان تفقد تاثيرها في المركز ذاته؛ حيث القطاعات المدينية المتاثرة بالايدلوجية الاسلاموعوبية؛ ستبدو اقرب الي دعم الانقاذيون بايدلوجيتهم الواضحة والحديثة؛ منها الي دعم التقليديين باهتزازاتهم ومواقفهم المائعة.
اما قوي الحداثة والتغيير؛ فان تبلورها في معسكر واضح؛ واذدياد دورها في المركز؛ يمكن ان يحسم الامر لصالح هزيمة التيار الاكثر تطرفا في المشروع الاسلاموعربي؛ وهو تيار الاسلاميين – الانقاذ؛ والانطلاق من بعد الي احد المآليين؛ الثورة او المساومة التاريخية؛ والتي ستتوفر لها حينذاك شروط واطراف اقرب الي قوي مؤتمر اسمرا 1995؛ الامر الذي يمكن معه الوصول اليها بصعوبات اقل..
المألات الاخري:
التفسخ؛ المساومة الانتهازية او محلك سر:
في راينا ان هناك مآلات اخري؛ لم يتطرق اليها الاستااذ ابكر آدم اسماعيل؛ وهي مآلات تبدو لنا اقرب الي التحقق؛ نذكر منها هنا ثلاثة؛ وهي التفسخ؛ والمساومة الانتهازية؛ ومحلك سر؛ نناقشها هنا باختصار؛ عسي ان نعود اليها بالتفصيل في القريب.
اما التفسخ؛ اي حالة استمرار الدولة السودانية علي ماهي عليه ؛ واستمرار سياسات المساومات الانتهازية والترتيق والتلفيق؛ واستمرار الحروب الاهلية بمنطق لا هازم ولا مهزوم ؛ وتفريغ البلاد تدريجيا من سكانها عن طريق الهجرة والتهجير الي معسكرات اللاجئين واعادة التوطين والاغتراب الخ الخ. فهو احتمال وارد؛ ويرجع ذلك الي القوة النسبية التي يتمتع بها النظام؛ وقدرته الفائقة علي اللعب حول التناقضات الداخلية والخارجية؛ والازمات الاجتماعية العميقة التي يعاني منها المحتمع السوداني؛ الامر الذي سيؤدي في النهاية الي تفسخ الدولة وسيطرتها علي المركز فقط ؛ وممارسة مهمتي الجباية والقمع دون غيرهما من المهام؛ ووقوع الاطراف في حالات من الاقتتال الداخلي العرقي والديني؛ وهي حالة كالانهيار او اشد سؤا.
اما المساومة الانتهازية؛ فهي اتفاقات سياسية بين اكثر الاطراف تاثيرا وقوة ؛ وفي اللحظة الحالية هذه الاطراف هي الاسلاميين – الانقاذ والحركة الشعبية لتحرير السودان؛ ويتم الاتفاق بينهما علي تقاسم السلطة الاستراتيجي ؛ وادماج القوي الاخري في هذه المساومة؛ اوقمعها؛ سواء كانت من القوي المدينية او قوي الهامش؛ ومن الطبيعي ان النظام الناتج من مثل هكذا مساومة؛ سيكون مليئا بالتناقضات؛ ويحمل من بوادر المرض والفناء ما يهدد بعودة الصراع من جديد؛ او تفسخ الدولة والنظام التدريجي تحت وطأة تناقضاتهما الداخلية.
اما الاحتمال الثالث؛ فهو ان يستمر الحال علي ما هو عليه؛ اي مآل محلك سر؛ وقطع طريق الثورة والمساومة التاريخية؛ وذلك عن طريق تدخلات سياسية وعسكرية حاسمة؛ من قبل دول الجوار ؛ وخصوصا مصر وليبيا؛ لانقاذ المشروع الاسلاموعربي في السودان ؛ واستمرار ضغط الهامش دون ان يحقق اي انتصارات؛ وفقدان اهتمام العالم الخارجي بما يدور في السودان. وتشكل زيارة حسني مبارك الاخيرة للخرطوم؛ وهي الاولي منذ مجي الانقاذ الي الحكم؛ ودعوة العقيد القذافي الي وحدة ثلاثية سودانية مصرية لبيية؛ مؤشرات واضحة علي امكانية هذا المآل.
10 مايو 2003