أياد الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 6941 - 2021 / 6 / 27 - 14:53
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الاله في الأديان القديمة في الشرق الأدني 11-ج2
( البوذية, التاوية, الكنفوشيوسية)
ذكرنا في الجزء الأول من حلقة 11 من سلسلة الاله في الأديان القديمة في الشرق الأدنى في الجزء الأول , الى أن شعوب هذه البلدان عبدت آلهة متعددة , وقد ذكرنا بعض أسماء هذه الالهة, ولكن من المعروف أن تاريخ هذه الشعوب ينبأ عن أعتقاد عام بأنهم يؤمنون بأله السماء الذي يسمى بأسم (تيان) , وقد يأتي بأسماء أخرى مختلفة ولكن بنفس المعنى , ومن هذه الأسماء , ملك السماء, ورب السماء, سيد السماء , أمير السماء ,أمبراطور السماء , دوق السماء, لواء السماء, الاله الملك , وللأطلاع هناك كتب تضم قوائم , وسلاسل هرمية للآلهة , ومن ضمنها كتاب (السجل الكامل للآلهة والخالدين) , وكتاب (السير الذاتية للآلهة والخالدين) الذي ألفه (جي هونغ) .
في الجزء الثاني سنتناول الديانة التاوية (الطاوية) بعد أن تناولنا الديانة البوذية في الجزء الأول , وهي ديانة نشأت تحديداً في الصين على يد رجل يُدعى (لاوتسو) وهناك من يدعوه (لاوتسي) في القرن الرابع قبل الميلاد , وهناك مصادر تقول في القرن السادس قبل الميلاد . ففي الوقت التي تدعى بالديانة التاوية , فهي بنفس الوقت مدرسة فلسفية لأنها تعبر عن وجهة نظرها بالكون والحياة , والأخلاق والسياسة , ولاتزال لهذه المدرسة بصماتها الواضحة في الثقافة والحياة الصينية , ونحن كسابق عهدنا في الحلقات السابقة سيكون محور بحثنا هو الاله , وهذا ما سوف نركز عليه.
أن نظرة الصينيون القدماء للاله بأنه مفهوم ذو طبيعة غير مرئيه , ولا مشخصه, ويدعوه ب (تي-يين) وتعني قوة السماء , ويرون أن اله السماء هذا له أرادة أودعها في الطبيعة على شكل نظام , وقد أطلق علية الصينيون في عهد أسرة شانغ ( 1500-1100 ) ق م ب ( شانغ تي) أي الحاكم الأعلى , ويتصوره كقوة تشغل قبة السماء , ولكن بعد 1100 ق م أُطلق على الألوهية الكونية أسم (تي يين) والذي يعني مسكن الروح الكبرى , وهذا الأسم يذكرنا بأسماء مقاربة أطلقته عليه أديان أخرى قديمه من شعوب وحضارات في أنحاء أخرى من العالم , فالهندوس أطلقوا عليه أسم (برهمان-أتمان) والهنود الحمر ب(الكائن العظيم) أو الروح العظيمة , وأقوام الديولا الأفريقية أسموه ب (القوة الحيوية) وهكذا و ولكن هذه القوة العظمى في نظر الصينين تنطوي تحتها قوى جزئية أقل شأن منها , وهي تعتبر كآلهه ثانوية . هذا المفهوم الصيني القديم يلتقي مع المفهوم الطاوي الذي يدعى التاو , وهو كذلك مفهوم مجرد , وأن يشوبه شيء من الغموض لأقترابه من مفهوم وحدة الوجود في بعض مفاهيم الديانه الهندوسية لأن الطاوية تقول في أحد مقالاتها بأن التاو موجود في كل شيء , فهو موجود بالجبال والماء والشجر والحيوانات ووو , وهو مفهوم أقرب للنظره الحلولية , ولكن من ناحية أخرى تأخذ هذا المفهوم الى حالة مجردة تماماً , حيث تطلق مفهوم أخر يدعى بالمبدأ الأول , وهو مبدأ يسبق مبدأ التاو , وهو الأصل لكل الأشياء , وهو الذي يحكم الأمور الكونية , فهو العلة, وأما التاو فهو المعلول , ولكن من الأمور التي تخلق حالة من البلبة الفكرية , وتضفي حالة من الضبابية , هو أنهم يصفون التاو بصفات تشبه صفات المبدأ الأول , فهم يقولون أحياناً أن التاو عبارة عن الحقيقة المطلقة عن الكون , ووجوده متعال على الزمان والمكان , وأنه لا نهاية له , ولا بداية , وهو عبارة عن أصل الكون وراعيه ,وعلى الأنسانية أن تتناغم مع التاو لكي تعيش معه بتوافق , وأن كل ما بالوجود فهو من التاو وفيه ومنه , وأنه أصل الأشياء , لذا تحث الطاوية على التوافق مع النظام الكوني لأنه يعكس المشيئه السماوية , وهنا يتبين أن الطاويه تدمج بين نظرية وحدة الوجود ونظرية الله الخالق , الذي يمثل عندهم بالمبدأ الأول , والأمر لم يتوقف عند هذا الحد , بل أنهم يؤمنون بوجود آلهه ثانويون , وكل منهم له مهامه ووظيفته , ولكن أنا شخصياً أرى بأن الطاويون يميلون بفكرة الله (المبدأ الأول) أكثر من نظرية وحدة الوجود , والدليل ما نجده فيما كتبه مؤسس الطاوية نفسه (لاوتسو) في كتابه ( هناك شيء بلا شكل, موجود قبل السماء والأرض , صامت وفارغ, قائم بنفسه , شأنه الدوران بلا كلل , مؤهل لأمومة هذا العالم , لا أعرف أسمه فأدعوه الطاو , ولا أستطيع وصفه فأقول هو العظيم, وعظمته هي أمتداد في المكان الذي يعني أمتداد وبلانهاية, ويعني العودة الى نقطة البداية). وفي مكان آخر يصف الطاويون الطاو بالحقيقة المطلقة عن الكون ووجوده , وأنه لا نهاية له ولا بداية , وهو عبارة عن أصل الكون وراعيه , وعلى الأنسانية أن تتناغم مع الطاو لكي تعيش معه بتوافق . هذا الوصف يبتعد كثيراً عن نظرية وحدة الوجود بأعتبار أن هناك كائن أكبر ومتسامي ولا محدود , وبلا شكل في حين أن الوجود له شكل وحيز من الوجود , وهنا تكمن ضبابية الرؤيه أو الخلط بين المبدأ الأول والذي ندعوه بالله كمسلمين وبين الطاو الذي بالحقيقه أفسره بالنظام الطبيعي الذي أودعه الله في الكون , والدليل على رجاحة هذه النظرة , هو قول الطاويون أنفسهم , حيث يقرون بوجود المبدأ الأول قبل الطاو , وهو أصل كل الأشياء ( الطاوية المنشأ والجذور والعقائد الروحية) صبري المقدسي. كما أن هناك من المقولات الطاوية التي تؤكد ما ذهبنا اليه , وهو أن الطاوية تقول بأن الطاو يخلق الحياة ثواباً لفعل الخير , ويخلق الموت لأخافة الشر , وأن الاله يُمكنه أن يعلن عن نفسه في القوة الخيرة والقوة الشريرة , قوة النور وقوة الظلام . كما أن الطاويون يعتقدون بأن الكون يمثل وحدة واحدة , ومنسجمه وعالية الأتقان , لذا ينبغي التوافق معها لكي ننسجم مع الكون , وهذا يتطلب نظام أخلاقي ينسجم مع المسيرة والنظام الكوني . كما أن كتاب (القوة والفضيلة) الذي كتبه (لاو تسو) والذي يدعو فيه الى عبادة الالهه والى فعل الصلاح والخير في العالم , والتقرب الى الطبيعة والأبتعاد عن الملذات بكل أنواعها. كما تقول الطاوية في موقع آخر , أن النظام الأخلاقي الذي تدعو اليه الطاويه , هو أن يكون الأنسان صادقاً ويتصف بالأخلاص والتواضع والأبتعاد عن الحقد والغضب وأن يمارس الرحمة والمحبة مع الآخرين وأن يكون صالح مع الجميع , وأن الأنسجام مع الطاو هو عن طريق مراعات النظام الأخلاقي الذي يشكل أنتهاكه خطيئة بحق السماء. يتضح أن هناك نظام كوني ونظام أخلاقي تصدر من المبدأ الأول (التاو) , ونرى أحياناً هناك فصل بين المبدأ الأول و مبدأ التاو وأحياناً يُدمج وهذا نتيجة لحالة التداخل التي أوجدها الطاويون أنفسهم من خلال ما طرحوه من أفكار في مدرستهم الفلسفية. طبعاً لا يقول الطاويون بوجود واسطه بين التاو والناس كالأديان السماوية , ولكن بنظرهم يتحقق ذلك من خلال التنجيم والسحر والأستخارة والتعلم من الطبيعة. السؤال الذي يطرح نفسه , وهو من الذي يطرح النظام الكوني والأخلاقي الذي من ينتهكه يقترف خطيئه , الله أم الطبيعة؟ فأكيد فكرة الله هي الأقرب لهذا التنظيم الكوني والأخلاقي , وهذا أستنتاج منطقي , يضاف اليه ما جاء بالفلسفة الصينيه القديمة وخاصة كتاب (التغيرات) فكل شيء يجري دون توقف كماء النهر كما يقول كونفوشيوس ,( ولكن هذا التغير الدائم يقوم على أرضية ثابتة غير متغيرة, هذه الأرضية هي (التاو) الوحدة الجوهرية الكامنة وراء الكثرة المتبدية, والواحد الذي يعطي للمتعدد الأساس والمعنى, انه البداية العظمى لكل الموجودات) (موسوعة تاريخ الأديان-ج4 فراس السواح) , وهنا يتبين أن المادة هو تبدٍ لشيء خفي غير مادي ,وأن اله السماء كما يسميه الصينيون القدماء هي من تشكل عالم الأفكار فوق العالم المادي.
سبق وأن قلنا أن الضبابية تصطبغ بها الطاوية ولم تتخلص منها , وقد عمدنا للتوضيح أعلاه الى الفصل بين المبدأ الأول والتاو , وأعتبرنا أن المبدأ الأول المقصود به الخالق والتاو هو النظام الكوني الذي وضعه الخالق , وهناك نص للاوتسو يبين معى ذلك , وهنا نذكر ما قاله في الفصل الأول :
التاو الذي يمكن التحدث عنه
ليس التاو السرمدي
والأسم الذي يمكن اطلاقه
ليس الأسم السرمدي
هو السابق على السماء والأرض.
هذا التاو الثاني الذي يقصده لاو تسو والذي أيضاً أسماه بالتاو هو المبدأ الأول الذي سبق التاو الذي يمثل القوانين الفيزياوية والحيوية , ويعود لاوتسو في الفصل ال 25 ويوضح أكثر فيقول
هناك شيء بلا شكل
موجود قبل السماء والأرض
صامت فارغ
قائم بنفسه لا يَحَول
شأنه الدوران بلا كلل
مؤهل لأمومة العالم
لا أعرف اسمه فأدعوه: التاو
لا أستطيع وصفه فأقول : العظيم.
أن ما تطرحه التاوية في مجملها , أن هناك مبدأ لا يمكنها وصفه , وهو مجهول الطبيعه لها , ولكنه يمثل علة الأشياء , وهنا ننقل قول لتلميذ لاو تسو , وهو ( تشوانغ تزو) جواباً لتسائل من (تونغ كاوتزو) حيث يؤكد له هذه العلة المحركة التي تقف وراء ما يحدث , حيث يقول ( في السماء حركة دائبة وفي الأرض ثبات, هل يتنازع القمر والشمس مجريها؟ ( وهذا ما يذكرنا بالآية القرآنية) ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) , ويستمر نص تشوانغ تزو هل هناك قوة خفية تجعلها على ما هي علية؟ هل يتحتم على الأجرام السماوية أن تجري على هذا النحو ولا تستطيع غير ذلك؟ ....رياح تنطلق من الشمال وتهب غربية وشرقية, وأخرى تنطلق نحو الأعلى دون وجهة. أي أنفاس تحركها, ومن بلاجهد يدفع هبوبها؟ ما هي العلة؟) ( موسوعة تاريخ الأديان ج4 ص311 ., يكشف هذا النص أن هناك قوة متعالية حكيمه , قادرة , هي من وراء هذا التنظيم الكوني , وهذا ما يرجح بأن مبدأ التاو المقصود هو القوه الحاكمة والعاقلة , وأن الكون لا يمكن في نظر التاوية أن يأتي بشكل تلقائي , لأن تشوانغ تزو يقول ( عليك أن لا تسأل عن أشياء محددة يوجد فيها التاو, لأنه لا وجود لأي شيء بدون التاو). يتبع.
#أياد_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟