|
على هامش الحرب
مها حسن
الحوار المتمدن-العدد: 1638 - 2006 / 8 / 10 - 10:33
المحور:
الادب والفن
ولا يمكن لأحدنا في هذه الحالة من العجز والدهشة أن يحتل مكانا أوسع من الهامش ، حيث الكبار يلتهمون الوجبات الدسمة ، الثقيلة ، المضرجة بالدم ، الذين يسحقون الطفولة وجنائن الورد وصوت فيروز ، ويضحكون بأفواه تعشق طعم البارود والجثث ، هؤلاء لهم الصفحات الواسعة في التاريخ ، ولنا ، عشاق الكلمة ، الهامش ، وبعض الحسرة والصمت . يبدو أنني كائن يعجز عن التعبير في المصائب ، كأن المصيبة تفقدني جدوى الكتابة ، تسقطني في اللامعنى ، إذ أن قوة الفعل أكبر بكثير من قوة الكلمة ، ومن قال في البدء كان الكلمة . حين فقد سمير قصير أنفاسه مغتالا ، تجمدت حنقا وحزنا ولم أتمكن من الكتابة ، فأنا لا أجيد البكاء أو الرثاء ، وكأنني أتكابر على ألمي . أما حين اتصلت بي صديقتي باكرا على غير عادتها وهي تبكي ، سألتها برعب " قتلوا من هذه المرة ؟" وهي من زفت لي خبر مقتل جورج حاوي ، فقالت : لم يتأكد الخبر بعد ، اتصلوا بنا من لبنان وقالوا أنه جبران تويني . قفزت إلى الانترنت ، وقرأت الخبر العاجل . لم أصب بالحزن ، بل كانت الدهشة وعدم التصديق ، لم أسمح لمشاعري بالحزن ، لا بد أن ثمة خطأ ما ، جبران كان في باريس منذ أيام وحضر مؤتمرا صحافيا ، ووجه له سؤال فيما لو كان تواجده في باريس كتدبير احتياطي خوفا من الاغتيال وأجاب بالموافقة ، كان بيننا ، يهاجم وينتقد ويشرح آلية الاغتيالات ، فكيف وقع جبران في الفخ ؟ ولكن رغم رحيل سمير وجبران ، فالأمل بربيع لبنان لم يمت ولم يذوي ، كنا " نحن السوريين " نشارك اللبنانيين فرحهم بربيع لبنان بعد انتفاضة آذار ، وجاء توقيع إعلان بيروت دمشق كأحد أدلة التضامن والمشاركة السورية لأمل اللبنانيين وطموحهم لبناء بلد مستقل قوي ديمقراطي حر . وبدأت أزاهير الأمل في لبنان ، عاد المهاجرون ، ومال الغياب إلى الاستقرار في الوطن وإعادة بنائه ، واتسعت أحداق الأمل باقتراب نتائج برامرتز والقضاء على كل أوجه تهديد استقرار وأمن واستقلال لبنان ، فجاءت قانا ! لا أزال أعاني من العجز ، فإن ما رأيته على شاشة التلفزيون كان أقوى من الصدمة ، في اللحظات الأولى ، رأيت الخبر المكتوب عن مجزرة قانا ، وظننته من الأرشيف ، وكأن عقلي لم يستوعب مجددا ، بعد أن فقد قدراته الاستيعابية ، عن أن قانا ثانية ممكنة الحدوث ؟ إذن لا شيء مستبعد ، ولا حدود لشيء ، لا ضمانات ، كل شيء وارد ، ممكن تكرار اغتيال الحريري ثم قصير وتويني ، يمكن تهديم لبنان واجتثاث ربيعه ، يمكن للزمن أن يعود إلى 1982 زمن الاجتياح ، أو 1996 قانا الأولى ، رباه ، هل يكرر التاريخ ذاته ؟ ليست من عادتي الصراخ والنواح ، فأنا أمقت كل هذه المشاهد الهزيلة على الشاشات العربية التي تدور في دائرة مغلقة . أمقت كل ما يمكن وصفه بفعل عاجز أو مريض أو سلبي . كيف يمكن أن نكون فعالين ؟ نحن نندب والحرب دائرة! نرسل شعارات التضامن ، والناس يموتون! نرفع رايات العز العربي والصمود والأطفال يقتلعون بفعل تعجز اللغة عن وصفه ، فالجريمة بحق هذه الزهرات البشرية كلمة لطيفة وأنيقة ، القذارة أيضا كلمة مهذبة ... الإبادة ؟ ربما ... كيف يمكن إبادة الطفولة ، من أجل من ؟ ومن يمكنه مسامحة أحد على قطرة دم وردة بشرية ، على إراقة حلم بشري ؟ من يملك الحق في التفاوض على حق هؤلاء الصغار بالإصرار على العودة إلى طفولتهم ، وقراهم ، من يوقف صراخهم في ليالي رجال التفاوض ؟ من ؟ وعن من دفع هؤلاء حياتهم ؟ لا بد أنني دخلت في الهذيان العربي ؟ الكلام والإنشاء ، والصراخ في وادي لا يسكنه ولا يفهم لغته غيرنا ؟ أمن يترجم لهم بعض هذياناتنا ؟! سأغير اللهجة وأتحدث عن طارق .
طارق شاب فرنسي لبناني ، أو بالأحرى لبناني فرنسي ، فهو فرنسي الجنسية والتفكير ولبناني العاطفة . تعرفت على طارق لأساعده في تعلم اللغة العربية ، وكان أن اخترت له مواضيع تتعلق بالشرق الأوسط ، ، لأساعده في تعلم اللغة وفي الوقت ذاته للاقتراب من النبض المحلي ، مع أنه مثقف وقارئ إلا أنه يقرأ بالفرنسية ، وكان علي أن أقدم له نماذج من التفكير العربي . كنت قد اخترت له موضوعا حول اختطاف الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط ، وأنا أحاذر الاقتراب من الموقف الشخصي ، حيث أن في بلاد كهذه ، يفضل عدم الدخول في حساسيات السياسة والدين . قال لي ببراءة معلّقا على اختطاف الجندي الإسرائيلي " حرام " وكان متعاطفا بشكل إنساني بريء وخالي من الأدلجة مع إنسان " إسرائيلي " . واندلعت الحرب : تشن إسرائيل حربا على لبنان ، وتدمره ... طلبت منه مثالا عن جواب ليت ، فصاغ لي عبارة أدهشتني : ليتني كنت في لبنان ، لساعدت المصابين . فسألته بحذر : هل هذا مثال لغوي ، أم هي مشاعرك فعلا ؟ قال لي : إنهم يدمرون لبنان ، وياريتني كنت هناك لأفعل شيئا للشعب اللبناني . تفاجأت من وجه جديد لطارق ، حيث كانت عمته تلحّ علي أن لا أتركه يلفظ الصاد سينا ، أو الضاد دالاً ، كيف يتحول الفرنسي الرقيق ، إلى عربي ، كان في البارحة ينتقد حماس وحزب الله ، ولكنه اليوم يقول : المهم لبنان ، لا وقت للتفاصيل ، حزب الله أو غيره ، المهم أنهم يدمرون لبنان ، أنا لبناني وعلي أن أدافع عن لبنان . قلت له : تذكر ، كنت متعاطفا مع جلعاد شاليط " ، فقال " بلى شاليط بلى جلعاد ، البلد كلو عم يتقتل ، إسرائيل تدمر كل شيء " . انقلب خطاب طارق ، وكأنه فقد تراثه العقلاني واستعاد وجها واحدا ، وجه الحب للبنان الذي لم يره سوى في العطل ، ومنذ سنوات قريبة فقط . أدركت أنها بمثابة غريزة ، حب الوطن لا يمكن اجتثاثه ، ولا تنفع كل الصرامة والعقلانية أمام مشاهد انتزاع الأوطان . طارق الذي يحاول التفريق بين لفظتي نازح ولاجئ ، الذي يصر على استخدام فعل " حلم " كبديل عن " صبر " بعد أن عرف أن حليم هو الصابر ، ولا يهمه أن فعل "حلم " هو : رأى مناما . طارق الذي يرهقني في دقته وحساسيته اللغوية ، فيسألني : ما أهمية - قد - هنا ، ممكن حذفها ، فلا يتغير المعنى ؟ طارق الذي يخلط كثيرا في الكلمات المتشابهة ، بين البطالة والبطولة مثلا ، طارق الآن " بعد الحرب " يعرف كلمات أغنية بحبك يا لبنان " قلتلهم بلدنا عم يخلق جديد ، لبنان الكرامة والشعب العنيد " . لبنان ليس وطنا اللبنانيين فقط ، بل وطن الكثير من التائقين إلى الحرية : صديقة لي مسلمة وقعت غي غرام شاب مسيحي ، فقررا العيش في لبنان ! ترفض الرقابة في سوريا طباعة كتبنا ، نفكر في لبنان ! لا نستطيع النشر في الصحف السورية المحجوزة للمصفقين والتابعين ، نذهب إلى لبنان ! لا أحد يشعر بـ " تميزنا الفني " في سوريا ، هيا إلى لبنان ! لبنان المخلوط بالنسبة لجيلي ومرحلتي برائحة تبغ زياد ونكاته وحسه الساخر والـ " فاجر " ، لبنان التمرد الفني والأدبي والاجتماعي .
من منا لا يعشق لبنان ؟ من لم يداعب لبنان أحلام يقظته كبوابة نجاة من التعصب الاجتماعي والخنق السياسي والديني ؟ من منا لم يدمن قهوة الصباح مع فيروز " وزياد ، عادتي الجديدة " ؟ كنا نؤلف النكات باللهجة اللبنانية متأثرين بأبو الزوز ، وكأنه " رامبونا " الذي يفجر فينا الرغبات المجنونة في التمرد والثورة على كل شيء ، حتى أن زياد " ورّط " ربة الرصانة ، السيدة فيروز ، فراحت تجن مثله ، فلم تقل إبداعا عما قبل زياد. لبنان ذلك الحلم الجميل ، تلك الصبية المبهرجة ، العصرية جدا ، التي تظهر ساقيها ، وترتدي الشورت ، ترقص بالمايوه ولا تهتم بتعليقات الشباب . هذا هو لبنان ، صبية أنيقة ، متحضرة ، خارج السياق " بالقياس مع الدول المجاورة المحجبة والمغلقة " ، لبنان حرية الصحافة والنشر والتعليقات السياسية والحفلات المفتوحة ، بل ومكاتب سياسية لأحزاب ممنوعة في بلادها . كأن ثمة مغفل سري ، مريض ، معتوه ، كلما مرت أمامه تلك الصبية برائحة عطرها ، ولكنتها الفرنسية ، وملابسها القصيرة ، استفزت عدوانيته فرغب في اغتصابها ، لأنه عاجز بالتأكيد عن الحصول على عواطفها ومشاعرها ، لإيمانه بدونيته أمامها. كيف تتحول تلك الطفلة التي تعرضت لحروب مستمرة ، وأصرت على " مودرنتها " مدنيتها ورقيها ، لتحمل اليوم وجها شوهه الاغتصاب ، كيف يمكننا تحمل الاعتداء على طفلتنا المدللة التي كانت تشب وتخب لتزهر ربيعا ينقل عدواه إلى جيرانه " مجددا الدول المجاورة المحجبة والمغلقة " ؟ لو كان ثمة آلهة مستمرة ، لطلبت من كنعان وحدد وإنكيدو ، حمل لبنان على كفة عفريت " لطيف " ، ووضعه خارج السياق ، لأنهم لا يستحقون وجود لبنان بينهم " سواء الجيران أو حتى أقصى الجهات بعدا " . على لبنان أن يحيا بعيدا عن هذا الجنون والمرض في كوكب خاص به ، لا يدخله سوى التائقون إلى الحرية والمجد ، من يسمع أبو الزوز وفيروز ويعشق قهوة لبنان ونارجيلة لبنان وبحر لبنان ، يعشق طهارة لبنان وبراءة لبنان وطفولة لبنان . ستعود تلك الصبية بوجه مشرق ، يتجدد باستمرار ، فهي آلهة البعث والخصوبة ، سوف تستعيد نضارتها ، ولكنها لن تغفر للعالم ما حل بها ، ستبقى صور المجرمين البشعة تحتل ذاكرتها ، وسوف تمضي على شاطئ بيروت بشورتها وموسيقاها ولكنتها المتمردة ، وستعود لكتابة مغايرة وعيش مغاير ، كيف لا ؟ أليست هي التي تحمل في ثناياها عنقائها التي تشب من الرماد ، لتذروه في عيون كل المتواطئين لوأد طفولتها وتميزها وسحق ربيعها ؟
#مها_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خدام ... والمسألة الكردية
-
الدعارة السياسية، نعم أنا - ... - فهل يمكنك أن تثبت ذلك ؟
-
أمة فيروز-الجزء الثاني
-
عودة الحوار المتمدن،هل نحن حقا متمدنون
-
الديمقراطية والإصلاح السياسي
-
هل يصدق السيد الرئيس
-
جرائم الشرف إرهاب ضد المرأة
-
جلال الطالباني رئيسا للعراق، انتصار للأمة العربية
-
ثورة الطلاب في البصرة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|