|
مشرحة بغداد.. بين الصورة.. و وثيقة الإدانة. . لبرهان شاوي. .
صباح هرمز الشاني
الحوار المتمدن-العدد: 6936 - 2021 / 6 / 22 - 16:41
المحور:
الادب والفن
معظم الروايات العراقية، إن لم تكن كلها، إثر سقوط النظام السابق العام 2003، ومجيء نظام المحاصصة على الحكم، إتخذت من الأحداث الكارثية التي شهدها البلد نهجا لمتنها الحكائي، بهدف الكشف عن سرقة كبار مسؤوليه لأموال الشعب، وتعرية الفساد الناخر في مفاصل الدولة، والجرائم التي حصلت في هذا العهد من خلال القتل على الهوية، والعمليات الإرهابية التي تقوم بها الأحزاب المعادية مع بعضها البعض، من خلال الخطف والاغتيال وزرع العبوات الناسفة وغيرها من الوسائل التي يندى لها الجبين والتي لا يكون ضحيتها سوى الإنسان الكادح الذي يبحث عن قوته اليومي.
أتخذت معظم الروايات العراقية هذا النهج لها، إبتداء من روايات عبدالخالق الركابي ونجم والي، مرورا بروايات أحمد خلف ومحسن الرملي وعبدالهادي سعدون، وانتهاء بروايات دنيا ميخائيل وأزهر جرجيس وشهد الراوي، وصولا الى الرواية التي نحن بصددها (مشرحة بغداد) لبرهان شاوي الذي تصدى لها بجرأة لا مثيل لها، اللهم روايات أحمد خلف التي تبزها في هذ المجال.
تدور أحداث هذه الرواية في أحد مستشفيات بغداد التي تحفظ فيها جثث الموتى التي تتعرض للعمليات الإرهابية بهدف تشريحها والإطلاع على الأسباب التي أدت الى وفاتها. سواء بفعل تعرضها لإنفجار الأحزمة الناسفة، أو القصف العشوائي، أو نتيجة الصراعات القائمة بين القوميات والأحزاب، علاوة على عمليات الإغتيال التي تنفذها الأحزاب والجهات المسؤولة في الحكم والدولة ضد الشباب التشريني الثائر على الفساد والظلم المستشريين في أرجاء البلاد.
تقع هذه الرواية في (209) صفحة من الحجم المتوسط، وتتوزع على (12) فصلا، معززا كل فصل بعنوان، شارعا الفصل الأول تحت عنوان (الذبح بسكين المطبخ في البانيو) في إشارة الى الفيلم الذي يشاهده الحارس الخاص بذبح جماعة أحد الأحزاب لأحد الشباب، بمسوغ مراقبته لمقرهم، ينتمي الى أنصار المهدي المعادي لهم. والفصل الأخير تحت عنوان (صباح الجثث) في إشارة أخرى الى أن كل الساكنين في بغداد قد تحولوا الى (جثث)، وإن شئنا التأويل باعتبار بغداد عاصمة العراق، فإن كل الشعب العراقي أمسى كذلك. وأنا أقرأ هذه الرواية، لتعويلها على اللقطة السريعة الأقرب الى الصورة السينمائية، لم أشعر بأنني أقرأ نصا مكتوبا على ورق، أو نصا روائيا، بقدر ما تراءى لي أنني إزاء لما يكاد أن يدنو من قطعة فن عظيم لقصيدة أو سمفونية، تتسم بلغة شاعرية وجمل موسيقية شبيهة بكتابة سيناريو، تنشطر فيه المشاهد الى خطة إخراجية متقنة، ذلك لتصدي هذه المشاهد للأحداث المثيرة التي أعقبت سقوط النظام السابق، بصيغة وأسلوب مغايرين للروايات التي سبقت أن تعرضت للأحداث ذاتها، ما جعلني أن أتابعها بشغف، لا يخلو أحيانا من الرعب الذي تحدثه أفلام ألفريد هيتشكوك. تعتمد الرواية في نقل صورة الأحداث الجارية فيها على ثلاثة مصادر، وهي عينا حارس المشفى، وحركته بين الطوابق الثلاثة، وصوت الشخصيات (الجثث) المودعة في مشرحة المشفى، والعين السحرية لباب غرفة الحارس (آدم). وتلعب هذه المصادر دورها الرئيس في إشاعة الرعب بالجو العام في الرواية من خلال انعكاسه على محور الشخصية الرئيس (آدم الحارس) الذي ينقله بدوره الى المتلقي.
أن كل شخصيات الرواية من الذكور تعرف باسم (آدم)، والنساء (حواء)، في إشارة الى أن إغواء حواء لآدم كان سببا في إخراجه من الجنة، أو كما يقول آدم العراقي، أثر ممارسة العملية الجنسية مع حواء البغدادية، وهو ينزع الحزام عن بنطلونه وأخذ يضربها، ويصيح: (يا حقيرة . . يا سافلة. . أنتن النساء. . بنات حواء الحقيرات. . أخرجتمونا من الجنة. . أنتن أصل البلاء والخطيئة. . عاهرات. .). وإذا كانت الشخصيات الرجالية للرواية تنضوي كلها تحت لواء إسم واحد، وكذلك الشخصيات النسائية، للدلالة على أن الكل يتحمل مسؤولية الخطأ الذي أدى بالبلد الى المنزلق الخطير الذي بلغه، فإن بناية مشفى مشرحة بغداد تتكون من ثلاثة طوابق، الطابق العلوي، والطابق الأرضي، والطابق الواقع تحت الأرض، موحية الطوابق الثلاثة الى تقسيم المجتمع العراقي الى ثلاث طبقات. فالطابق العلوي يمثله المسؤولون والمتنفذون في الحكم والدولة، والطابق تحت الأرض، الحارس وجثث المشرحة، والطابق الأرضي الموظفون والإداريون. أي أن الطابق العلوي يتكون من الطبقة البورجوازية التي ظهرت بعد الاحتلال، بحكم سيطرة قادة الاحزاب التي جاءت بالقطار الأمريكي على دست الحكم، وسطوتها على ثروات البلد النفطية ومنافذ الحدود. والطابق الأرضي من الطبقة المتذبذبة الساعية لتحسين وضعها الاقتصادي والتي تكاد تخلو من أي نشاط، أو دور فعال ومؤثر في أحداث الرواية، لتلقيها ضربات الممانعة والحجب من جانب الطبقة الأرفع شأنا منها، خوفا من صعودها الى مرتبتها، وخشية حصولها على جزء من المال السحت الذي تسرقه من قوت الشعب. والطبقة الواقعة تحت الأرض من أبناء الخائبة المتمثلة بجثث المشرحة والحارس. بقصد إتباع السارد صيغة تختلف عن صياغة الروايات الأخرى، ألا وهي إثارة الخوف والشفقة لدى المتلقي، الخوف من المكان، والشفقة على ضحايا الجثث، سعيا الى إشاعة هذين العنصرين، ولكن ليس بهدف تطهيره الأرسطي، وإنما لحثه على أن القادم سيكون الأسوأ. يسعى الى التزاوج بين هذين العنصرين المتناقضين مع بعضهما البعض لمحاكاة المتلقي لبطل الرواية، وتقمص شخصيته للتعاطف مع الجثث رغم خوفه من المكان وبغضه له، بهدف أن يتحلى بعزيمة السارد، ليس للكشف عن غموض الشخصيات الثلاث فحسب، وإنما للتأكيد على أن أمثال شخصية الحارس هم المضحين الوحيدين في البلد أيضا. بدليل أن المشرحة تعج بجثثهم، وشوارع بغداد تكتظ في نهاية الرواية بجثثهم الهاربة، سواء كان من المشفى، أو من أي مكان آخر. كما أن الموت يلف الحارس أيضا، ذلك أنه لا يدري إذا كان حيا أو ميتا، وهو يطرح هذا السؤال على الصبي الجثة، ويرد عليه قائلا: (أنا لا أستطيع أن أجيبك هل أنت حي أم ميت). . ومعنى الرد واضح، وهو أنه مثل كل الهاربين على الجسر (جثة)، لأن الحارس وإن لم يتعرض الى أي عملية من العمليات الإرهابية، إلا أنه عاشها، ربما أكثر من ضحايا المشرحة، عبر حراسته للرعب الذي تحسسه فيها وحطم حياته: (دمرت هذه المهنة حياة آدم، إذ لم يعد يرى الناس سوى كتلة شحم وجيف. .).
للجمل والعبارات في الأعمال الأدبية وعلى نحو خاص في الرواية طريقتها الشعرية الخاصة في محاكاة الحياة وتجسيد حركتها، لكنها عندما تترجم الى لغة الصورة بعين المتلقي وهو يقرأ النص، كأنما يشاهد فيلما سينمائيا، فلا يصبح السارد الضمني الذي هو الحارس السارد بمفرده، بل ينضم اليه المتلقي، ذلك أن مجال مشاركة الأخير لا يتوقف ضمن حدود قراءة النص، وإنما يتجاوزه الى مجال الرؤية، ذلك أن تأسيس إنتاج معنى النص، يتضاعف بإستخدام الرؤية الثانية الى جانب الرؤية الأولى، وفقا لمديات وعيه وإدراكه لتحليل وتفسير وتأويل الأحداث الجارية في الرواية. سواء جاءت هذه الرؤية عن طريق الشاشة الصغيرة، أو عيون الشخصيات الجثة، وكذلك عن طريق العين السحرية لباب غرفة آدم الحارس، فإن هذه العيون، إذا كان المتلقي قد أنضم الى جانب حارس المشفى، ليستولي على جزء من مهامه، فإنها تشارك السارد الضمني في سرد الأحداث التي مرت بها من خلال تعدد الأصوات (البوليفونية). ليأتي سرد الرواية مقرونا، بالسرد الموضوعي (هو) من قبل الحارس، والسرد الذاتي (أنا) شخصيات جثث المشرحة، والسرد الذي يخلو من الكلام، ويعول على القلق والرعب (الصامت) على العين السحرية. إن السارد الضمني من بداية الرواية يوحي من خلال عرض فيلم تسجيلي عن عملية نحر حقيقية للشاب (آدم المهدي)، حيث عثر على هذا الفيلم في بيت نائب، أثر مداهمة قوات الشرطة له، الى أنه سيسير على هذا النهج في كتابة روايته وسرد أحداثها، على نهج الرعب الكاشف لجرائم أزلام النظام الذين جروا البلد الى الهاوية؛ متمخضا هذا النهج المفعم بالتزاوج بين الكلمة والصورة عن فيلم سينمائي داخل رواية. أي أن السارد بالتعويل على نفح الروح في جسد الكلمة الهامدة، حاك بنية روايته، وشيد معماريتها الفنية لتتحول الى صورة متحركة. إن الرواية التي تتكرر فيها مفردات كالخوف والرعب والقلق أكثر من خمسين مرة، ومثلها مفردة المتاهة، ولكن بدرجة أقل، علاوة على تجسيد عملية الذبح وتشريح جسم الإنسان بصورة بشعة، إنتقاما من الضحية لمعاداة الأحزاب مع بعضها البعض، ولغرض بيع أعضاء جسم الإنسان الميت الموجود في المشرحة، لا بد أن مثل هذه الرواية، تسعى الى إدانة القائمين على الجرائم، وتحفز المتلقي من خلال الشعور الذي تولده عنده بالتقزز والاشمئزاز منها الى اتخاذ الموقف الصارم حيالها.
ولعل مواجهة السارد للمتلقي بأستقاء فكرة هذه الرواية عن الفيلم الأجنبي الذي شاهده الحارس والموسوم (الآخرون) أداء الممثلة (نيكول كيدمان)، سيناريو وإخراج (اليخاندرو أمينابار) بطريقة غير مباشرة وثعلبية، تدل هي الاخرى بأنه كتب هذه الرواية وقوعا تحت تأثير هذا الفيلم من جهة، بالإفادة من فكرة الفيلم لتوظيفها في روايته هذه، ومن جهة أخرى من سيناريوه وإخراجه أيضا للغرض ذاته، وهو يقول: (في تلك الليلة شاهد الحارس آدم فيلما أجنبيا اسمه (الآخرون) عن بيت تسكنه عائلة تتألف من أم مع طفليها وخادمتها الخرساء ومدبرة المنزل والبستاني، حيث تكشف الأم بأن هناك أرواحا تسكن المنزل الكبير الذي يقع وسط غابة بعيدة يغمرها الضباب، ويتضح فيما بعد أن الأم وطفليها والخدم جميعهم هم الأموات، وأن الذين كانت تعتقد الأم بأنهم الأرواح التي سكنت البيت ليسوا سوى سكانها الأحياء الذين جاءوا ليستأجروه. .). لقد تعاطى السارد مع هذا الفيلم بذكاء، عندما أناط شخصية الأم بحارس المشرحة، والشخصيات الذين يعيشون مع الأم بالموتى الموجودين داخل المشرحة، والأرواح التي تسكن داخل المنزل بالأشباح الثلاثة. حيث يكشف الحارس بأنه مع كل الجثث الموجودة في المشرح موتى، وأن الذين كان يعتقد بأنهم أرواح في المشفى، هم سكانها الأحياء، تماما كما يحدث في الرواية، مع بعض التغييرات الطفيفة.
يقول غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان، وهو يميز بين الطابق العلوي في البيت والطابق السفلي القائم تحت الأرض، أو بما يسميه هو بـ (القبو): ((في العلية يسهل (تعقيل) مخاوفنا. بينما في القبو، حتى بالنسبة لرجل أشجع من رجل يون فانغ (التعقيل) يكون أبطأ وأقل وضوحا، فلن يكون محددا أبدا. في العلية تمحو تجارب النهار دائما مخاوف الليل. في القبو تسود الظلمة ليل نهار. وحتى لو حملنا شمعة فسوف نرى الظلال تتحرك على الجدران القائمة.).1 ولو حاولنا تطبيق ما يقوله باشلار بصدد المكان في الطابقين العلوي وتحت الأرض في البيت في هذه الرواية، لوجدنا تقاربا كبيرا في تجسيد السارد للمكانين، مع مقولة باشلار. في الطابق القائم تحت الأرض، يعيش الحارس مع الجثث المزمع تشريحها، أو التي تم تشريحها، ويشاهد كيف يتم: (كسر القفص الصدري بالساطور، ويستخرج منها القلب والرئتين وبقية موجودات الصدر)، وتجري عملية التشريح التي جعلته في المرة الأولى: (أن يشعر برعب حقيقي وبغثيان، ومنذ ذلك الوقت قرر ألا يأكل اللحم.)، والرعب الذي شله، لفتح جثة الفتاة لعينيها، وهو منحنٍ عليها: (نظرت الجثة الى وجه الحارس، ثم أمسكت به من ياقة قميصه فهرول هاربا من القاعة مرعوبا.). فضلا عن الخطوات التي تقترب من غرفته وتدخل الهلع في نفسه، وتحرك باب المقبض الذي يشعره أن: (هناك من يقف عند الباب ويهم بالدخول لكنه لم يدخل.).
وفي مكان آخر ينعت السارد الطابق الواقع تحت الأرض على هذا النحو: (حين ينتهي الدوام الرسمي عصرا تقفر المشرحة، وتتحول الى موضع خارج الزمان والمكان، خارج التأريخ. يختفي الكون كله ويغرق في الظلام. الحياة تنتقل من أزقة بغداد الى المشرحة، فهنا في هذه المشرحة تتجلى كل صور الحياة والموت التي تعكس عالم هذه المدينة المظلمة.).
أما في الطابق العلوي، فثمة أصوات موسيقى: (تبعث الرهبة والاندهاش في الروح في الوقت نفسه.)، حيث تسرد جثث المشرحة، كل واحد منهم على انفراد حكايته التي أفضت به الى هذا المكان (جثة). يقول السارد عن هذا الطابق: (ومع أن المشرحة تكون خالية من الموظفين والأطباء في الليل، سوى الطبيب المناوب ليلا ومساعده، إلا أن الطابق الأعلى يضج دائما بأصوات غريبة وبحركة سرية، لكنها واضحة ومسموعة أيضا، وتستمر الأصوات والحركة من بعد منتصف الليل الى ساعات الفجر الأولى.).
ولو أجرينا مقارنة بين المكانين في الطابق العلوي للمشفى والطابق الواقع تحت الأرض، إتساقا مع تعريف باشلار لهما، لنجد كما يظهر في وصف السارد، أن الحياة في الثاني يسودها الخوف والقلق، وفي الأول الطمأنينة والاستقرار الى حد ما، لكون الثاني أقرب الى سجن، لا منفذ للخروج منه، حيث تتوزع في ثلاجاته الجثث التي تم بتر جزء من أعضاء أجسادها. والأول لانفتاح فضائه على كل الجهات المتمثلة بالأبواب والنوافذ؛ ما يسهل على الحركة وإزالة المخاوف، بعكس السفلي الذي يقيد الحركة ويبعث الخوف والهلع في نفوس الذين يعيشون فيه، بينما هم أموات. ويتساءل الناقد ياسين النصير: (لماذا أختار الروائيون الأماكن المعزولة، المغلقة السجون؟ هل هذه الأماكن قادرة على إعطاء هوية غير مصرح بها داخل العمل الفني للشخصيات؟ أم أن الهم الروائي كان يقرن بالنماذج الحية من البشر بالأماكن المعزولة من المجتمع؟ . .)2. إن سؤال النصير، يقودنا الى سؤال آخر، ترى أيهما يتقدم على الآخر، الحدث يتقدم على الشخصية، أم بالعكس، تتقدم الشخصية على الحدث؟
أتصور أن المؤلف أول ما يفكر بكتابة الرواية، تخطر بباله شخصيات الرواية، أي أنه أول ما أن يبدأ، يبدأ برسم معالم وأبعاد شخصياتها، وعلى ضوء ما تم رسمه لها يختار الأحداث والعناصر التي تنضوي الرواية تحت لوائها، وأبرزها المكان. لقد جرت معظم أحداث هذه الرواية في الطابق الواقع تحت الأرض، أو أن السارد عمد الى اختيار هذا المكان المعزول عن المجتمع، لكون شخصيته الرئيسة (الحارس) تتوافر فيه صفات العزلة، وبناء على عزلته، أنتقى مكانا معزولا، وشخصيات لا تقل عزلة عن الشخصية الرئيسة، لانشغالها بأتعاب عملها اليومي، ما يصرفها عن الاحتكاك بالمجتمع، كآدم الخباز مثلا الذي اعتقلته الشرطة وهو في طريقه الى عمله، لتطلق سراح آدم صاحب (فندق السعادة) المتهم الحقيقي بأعمال الإرهاب، وتلقي القبض عوضا عنه لقاء مبلغ من المال على ابن الخائبة آدم الخباز. وكذا الحال بالنسبة الى حواء آل ياسر، والجثة الأنيقة، والطفل.
وعن عزلة الحارس، يقول السارد: (عزلة داخلية قوية وشعور بالوحدة والوحشة كانا يسيطران على شخصيته، فقد كان يتخيل مع نفسه بأنه من الصعب أن يفهمه أحد، لأنه كان يؤمن بأن عالم الإنسان الداخلي هو المهم، فهو الجوهر، وكل ما عدا ذلك ليس إلا القشور. .). والشخصية التي تميل الى العزلة، مثلما هي بحاجة الى مكان موحش ومقفر، كذلك فهي بحاجة الى أحداث غرائبية. وإذا كانت عزلة الحارس محصورة ضمن حدود غرفة الطابق الواقع تحت الأرض، فإن عزلة المكان المتمثل بالمشرحة لا يتمنى ليس العاقل فقط، وإنما حتى المجنون ألا يزورها أو تقع عيناه عليها. والشيء نفسه ينطبق على شخصيات المشرحة التي كانت برغم الشظف الذي تعاني منه، جراء قضاء معظم أوقاتها في الأعمال القاسية، لتوفير القوت اليومي لها ولأطفالها، بالرغم من ذلك كانت سعيدة، وهي بمنأى عن المشرحة التي أوصلتها اليها الوجوه الكالحة من الفاسدين المتسلطين على مقاليد الحكم، لنهب وسلب ثروات البلد عن طريق المحاصصة.
وبقدر ما استطاع السارد إشاعة العناصر الثلاثة الأساسية التي ينبغي أن تتوافر في الرواية الناجحة، ألا وهي الشخصية والحدث والمكان، عبر خلق التوازن بين أنساقها، ووحدة موضوعها، بالقدر ذاته؛ إستطاع توائما مع هذا النسق، إشاعة الخوف والرعب فيها؛ سواء كان ذلك من خلال حركة الشخصيات غير المرئية من قبل الحارس بالقرب من غرفته، أو المشرحة، وكذلك عبر مراقبته لهم، وخروج الجثث الى الشارع، وإلتقاء عين أحد الجثث بعين الحارس عبر العين السحرية. . . إن تعاطف السارد مع الجثث لم يأت اعتباطا، ذلك أنه مثلما جاءت العناصر الثلاثة في نسق واحد، كذلك فإن تعاطف الحارس مع الجثث، يصب في الاتجاه نفسه، ليس بالاستناد الى ما يجمعه مع الجثث في المكان نفسه فحسب، وإنما علاوة ذلك، فإنه يعاني ما تعاني منه الجثث، فضلا عن انتمائه الى الطبقة التي تنتمي اليها، وهي طبقة الكادحين من الفقراء التي تعم البلد من أقصاها الى اقصاها، مع أن تحت أقدام هؤلاء الفقراء تجري أنهار من ذهب. وللاستدلال على تعاطف الحارس مع الجثث، ليتسرب هذا التعاطف الى المتلقي، يقوم بين فترة وأخرى بتفقدها، وبلغ هذا التعاطف به حدا، أن تحول إعجابه بالفتاة الريفية الى عشق حقيقي: (لأنه كان يعتقد بأن البشر الاحياء حينما يحبون بعضهم بعضا فإنهم بذلك يحبون ذواتهم في الآخر وينتظرون المتعة منه ومعه، بينما حبه لجثمان الفتاة الميتة هو حب حقيقي لا ينتظر منه أي شيء. .).
((الاستهلال أصعب وأهم فقرة في أي رواية. وقد عانى كبار الروائيين في العالم من معضلة العثور على الاستهلال المناسب عند شروعهم بكتابة رواية جديدة. يقول ماركيز: (المشكلة الرئيسة تكمن في البداية. الجملة الأولى في الرواية أو القصة تحدد امتداد النص، ونطاقه، ونبرته، وإيقاعه، وأسلوبه. أصعب ما في الرواية – الفقرة الأولى. ما أن تتقن ذلك حتى تسير الأمور بانسيابية وسهولة. .)).3 قبل أن نقرأ السطور الأولى للرواية. عنوانها كما يبدو لي (مشرحة بغداد) هذا العنوان الذي يوحي الى أكثر من بعد، يكفي بحد ذاته الى لفت انتباه المتلقي اليه، وجره الى قراءة الرواية. ذلك لأنه يمس بحياة المواطن الذي يجد نفسه يوميا في شوارع بغداد وأزقتها الفقيرة بحثا عن لقمة خبز، وهذا ما ينطبق على العامة المتواجدين في هذه الأماكن المزدحمة، الأمر الذ ي يؤدي الى أن تتعرض حياة هؤلاء الناس للخطر، نتيجة الانفجارات التي تحدث بصورة مفاجئة. لذا فإن مجرد قراءتهم لمفردة (المشرحة)، يدفعهم شعورهم الباطني الى معرفة ما يجري فيها، من حيث عدد ضحايا الانفجار من جهة، ومدى صلتها بهم من جهة أخرى.
وإذا كان عنوان الرواية الرئيس يجذب المتلقي لقراءتها، فإن العنوان الفرعي الذي يتصدر الفصل الأول على هذا النحو (الذبح بسكين المطبخ في البانيو)، يدفعه الى قراءتها بإهتمام أكبر، ذلك أن العنوان الأخير، يتناقض مع ما ذهب اليه تفكيره في قراءته للعنوان الرئيس. إن العنوان الرئيس يحيل المتلقي الى إنفجارات الشارع، بينما عنوان الفصل الأول يحدث البلبلة في فكره، عندما يشير الى المطبخ. وللتأكد من صحة تفكيره، وإزالة البلبلة التي زرعها عنوان الفصل الأول في ذهنه، يواصل متابعا قراءة الرواية بشغف. أما إستهلال الرواية بتحديد الزمان والمكان فيها، من مطلع سطرها الأول بهذه الجملة: (الساعة الآن قد تجاوزت منتصف الليل. مشرحة بغداد قد أوصدت أبوابها.)، فمثل هذا الإستهلال لا يذكرنا فقط بالروايات المصرية الصادرة في العقد السادس من القرن الماضي، أمثال روايات يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله فحسب، وإنما كذلك لما يجري من أحداث في داخل المشرحة (الآن). وهو بذلك ومن خلال جملتين لا تتعدى عشر كلمات، أستطاع إيصال ثلاثة من أبرز عناصر الرواية الى المتلقي، ألا وهي الزمان والمكان والحدث. كما أن الأسطر الثلاثة التي تلي السطرين الأولين، في إشارتها الى أنه: (ليس هناك سوى الطبيب الخفر ومساعده والحارس الخفر، والشوارع المؤدية اليها والأزقة التي تحيطها، بل بغداد كلها غارقة في الظلام)، تشي بأن الجو العام للرواية يغلفه الخوف والرعب، وتتحول المشرحة في الليل الى عالم آخر لا علاقة له بعالم النهار. فإذا كانت في النهار دائرة حكومية تستقبل الجثث بصورة أعتيادية، فهي في الليل توصد أبوابها وتعيش في عزلة تامة عن العالم الخارجي، لتتحول الى مكتب للأحزاب، لبتر أعضاء الجثث وبيعها. ولا يكتفي السارد بتحديد الزمان والمكان في المشرحة وعزلتها عن العالم الخارجي، لإيحائه الى الجو السوداوي المقرون بالخوف الذي يعم الرواية، وإنما لزيادة إيقاع هذا الجو، يعمد الى توظيف شخصية الحارس في منح هذا الانطباع لمتلقيه أيضا، بهدف شده الى قراءة الرواية من جهة، وتنويهه الى أنها ستنحو هذا المنحى الى نهايتها، وذلك من خلال جملتين تأتيان في الصفحة الأولى من الرواية. الجملة الأولى: (في هذه الليلة المظلمة، قام آدم قبل أن يأوي الى غرفته بجولته الليلية، فتأكد من الأبواب المقفلة في الطابقين الأرضي والأول. .). الجملة الثانية: (الخفير آدم كان على غير عادته الليلة، فثمة هاجس خفي يدفعه لإنهاء جولته. .). وإذا أردنا تحديد هاتين الجملتين وإيجازها، فهي تنحصر في جملة: (الأبواب المقفلة) و (ثمة هاجس يدفعه لإنهاء جولته). المصادر -جمالية المكان: غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا. الطبعة السادسة. 2006 -الرواية والمكان. ياسين النصير.الطبعة الثانية. دار نينوى. -الرواية بين الخيال والواقع. د. جودت هوشيار. الطبعة الأولى 2017. الناشر دار الزمان.
#صباح_هرمز_الشاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقاربة بين روايتي مدام بوفاري لفلوبير والأحمر والأسود لستندا
...
-
رواية الأحمر والأسود بين الحوار الداخلي والرمز
-
رواية العطر. . والواقعية السحرية.
-
قراءة تأويلية في تفكيك شفرات رواية مذكرات كلب عراقي
-
حامل الهوى. . بين المونتاج القافز. . وإلنهايات المفتوحة. .
-
الذئاب على الأبواب. . بين عملية التحدي. . و تقنية التواتر. .
-
(محنة فينوس). . وثيقة إدانة لعهدين. .
-
قراءة تأويلية في تفكيك شفرات (موت الأب) للروائي العراقي احمد
...
-
التماثل. . ونقيضه. . في رواية تسارع الخطى. .
-
سابع أيام الخلق: بين تقنية المكان، وإستحضار الماضي للحاضر
-
قراءة رواية ليل علي بابا الحزين. . من منظورين مختلفين
-
خانة الشواذي. . . رواية موقف الشخصيات. .
-
بنيات السرد في روايات محسن الرملي
-
هل هدمت. . رواية وشم الطائر. . ثنائية الرواية والوثيقة؟
-
حدائق الرئيس. . بين التناص والإيحاء. . لمحسن الرملي.
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 3ـ وفاة بائع متجول
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 2ـ كلهم ابنائي
-
أرثر ميللر وعقدة اوديب. 1 الثمن
-
اوجين اونيل بين.ثلاثي . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 5- ور
...
-
اوجين اونيل بين ثلاثي. . .الواقعية والرمزية والتعبيرية. 4-أن
...
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|