أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كفاح الزهاوي - عندما يذوب الصمت















المزيد.....

عندما يذوب الصمت


كفاح الزهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 6929 - 2021 / 6 / 15 - 13:13
المحور: الادب والفن
    


استيقظت من النوم ولازلت اشعر بالنعاس. قفزت من الفراش بتنهيدة وتثاؤب بصوت مرتفع مع إصدار نغمات نشاز كلما صفقت على فمي بأصابع يدي المتراصة.
كان صادق الفلاح القروي في الخمسينيات من عمره قد أرسل ابنته الصغيرة ذات عشر سنوات الى مقرنا في وقت الظهيرة، طالبا المساعدة الطبية، لأن زوجته كانت تشعر بوعكة صحية. اتخذت استعداداتي وتوجهت الى منزلهم المتواضع، كان قد بناه بنفسه من الصخور والطين على الهضبة المطلة على مقرنا. المنزل يتكون من غرفة واحدة يتوسطها موقد. وإلى جانب الغرفة، كوخ صغير كان يؤدي وظيفة المطبخ.
بعد ان انتهيت من فحص زوجته. قدموا لي قدحا من الشاي. وفي هذا الاثناء دخل شاب وهو بيشمرگة ينتمي الى احدى الاحزاب الكردية التي كانت تتواجد قواتها في نفس الوادي. كان نحيل الجسد، عيناه غائصتين في محجريهما، ضامر الوجه، يخفي تحت بشرته حزن عميق. يلبس معطف غامق اللون.
رحب صادق به وقال:
اهلا بك يا دكتور. تفضل بالجلوس .
أجاب بصوت خفيض :
تعيش.
ثم جلس قبالتي وعيناه تحومان الغرفة بتفحص كمن يلقي على أجوائها نظرة الوداع. ثم ارخى نظره إلى الأرض، كاد اليشماغ ان يسقط من فوق رأسه. ورغم ذلك لم يرفع عينيه نحوي. بينما صادق طلب من ابنته تقديم الشاي إلى الضيف.
واردف صادق وهو يوجه كلامه الى الضيف:
زوجتي كانت تشعر بالتعب منذ يوم امس، الشكر موصول للدكتور مهند من بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي الذي لبى الطلب واعتنى بالأمر.
عندها رفع رأسه والقى نظرة سريعة نحوي مع هزة رأس خفيفة بطريقة كمن يقول مفهوم.
ثم أضاف صادق كمن لا ينسى خدمات الاخرين ايضا:
دكتور بهزاد كلما يأتي الى هنا يساعدنا اذا احتجنا الى المساعدة.
بهزاد كان رجل في الثلاثينيات من عمره. وهو معاون صحي. جاء مع مفرزة الى المقر التابع لحزبهم في مهمة عمل.
وفي تلك الجلسة القصيرة ترك في نفسي انطباع انه انسان غامض وغير ودود، لذلك حاولت التجنب وعدم الخوض في أي نقاش ودي معه. بعد ان احتسيتُ الشاي، غادرت المنزل.
وفي اليوم الثاني في الساعة الثانية ظهراً وبينما كنت في زيارة لمقر حزبهم تناهى إليّ أصوات تشي بالشجار، عرفت فيما بعد ان بهزاد هو احد اقطاب التناحر في هذا التراشق الكلامي مع بعض من رفاقه داخل المقر واستولت عليه بغتة رغبة جامحة في ان يغادر المقر عائدا إلى مكان إقامته في مقر آخر، رغم مناشدات البعض لايقافه عن اتخاذ خطوة قد يندم عليها وأخبروه بمخاطر الطريق.
عند خروجه من الغرفة، كان سلاحه من نوع الكلاشينكوف الروسية قد علا كتفه والغضب يغمر عينيه، ووجهه متجهم حد الانفجار.
كان يوما ثلجياً عاصفاً. رحل وحيدا في هذا الطقس المُهلك، رافضاً الاذعان الى النصائح، بل أصرَّ على العودة بعناد مستميت الى مقرهم والذي كان يبعد بحوالي أربع ساعات سيرا على الاقدام في الأيام المشمسة.
اعتراني قشعريرة في جسدي وانا التمس قراره الخاطئ بمغادرة المكان في ظل هذا الجو العابس الكئيب والمغبر، في شق طريق غير واضحة المعالم وهو يعاني من حالة نفسية حادة، وقد تراءى لي كمن يفكر بالانتحار.
كنت ابحث عن تفسير مقنع لغضبه الذي اشتدَّ في لحظة، وقدرته الذهنية في مواصلة المسيرة لوحده في تلك الوديان العميقة التي تغدو خطرة عندما السماء لا تنقطع ثلوجها عن السقوط. لابد وأن تركيزه منخفض ورؤيته شائبة وفكره مُضْطَرِب. كل تلك العوامل بمجملها كانت كافية في ان تلقي به في متاهة شاقة.
وفي صباح اليوم الثاني توقفت الثلوج عن الهطول والسماء كانت صافية كالزجاج، والشمس تضيء بقوة خاوية من الحرارة، وكأن السماء لم تكن قبل عدة ساعات في حرب ضروس مع الأرض وهي تغرقه بوابل من ندفات الثلج.
خرج صادق في رحلة الصيد كعادته بعد ان تناول فطوره الدسم. لم يدم مكوثه طويلا في رحلته تلك حتى عاد أدراجه بسرعة لينقل خبرا سيئاً إلى رفاقه بعد ان تاكد بان بهزاد كان يرقد متجمدا بالقرب من كهف مفتوح ليس عميقا نزولا الى الوديان القريبة عنا دون إعطاء مزيداً من التفاصيل. ..
بادره أحدهم بسؤال بينما علامات الحزن ترتسم على وجهه:
هل هو ميت؟.
اجابه صادق بتردد، كمن غير واثق من الأمر:
لا ادري ولكن جسده جامد ومغطى بالثلج، فأسرعت الخطى اليكم كي ابلغكم عسى ان تتمكنوا من إنقاذه.
وحال وصول الخبر، ابلغونا بالفاجعة وطلبوا منا المساعدة الطبية في إنقاذ رفيقهم. فجهزنا أنفسنا في مفرزة صغيرة، حيث كنت أحد أفرادها، بينما كانت بحوزة مفرزتهم بطانية وبعض الحطب لإشعال النار. وخلال تلك المسيرة كنت ألقي بنظراتي على الطريق الذي سلكه بهزاد. يبدو انه كان يكابد جدا وهو وحيد وسط طبقة بيضاء غمرت الجبال والوديان، والرؤية كانت سيئة، والتعب قد نال منه وأنهك قواه العضلية، حيث لم يبق سوى ثلاث امتار نحو كهف صغير. كانت توجد عيدان وبعض الأغصان اليابسة وولاعة (شخاطة) حيث وضعت هناك للاحتياط. كان بامكانه ان يحمر بها نارا و يوقد توهجا في جسده الذي استحال الى صقيع كي يعود إلى حالته الطبيعية فيستعيد الحياة منتعشا.
مشاهداتي لأثار اقدامه الناحلة المتعثرة في الثلوج تؤكد فشله في محاولاته المتكررة واخفاقه الكبير في قدرته للعودة الى الطريق بعد ان انزلق منه على المنحدر المتواري تحت أكوام الثلوج والسعي بكل طاقته في التسلق إلى الأعلى.
ترنح عاجزا يمينة ويسرة حتى صار خائر القوى. يبدو ان الظلام قد داهمه بعد ان امتص ما بقي من ضوء النهار الباهت وتضاءل منسوب الأمل مع تسرب اليأس إلى نفسه رويداً رويداً.
السكون العميق قد خيم على المكان، والريح الباردة قد أطبقت على جسده النحيل في عناق قاس وامسكت بخناقه بعنف حتى انهكت قواه، ووقع صريعا مستسلما الى نوم هادئ قرب صخرة كبيرة اتخذها كجدار آمن واتكأ عليها ولاذ في صمت عميق بعيدا عن وقع بساطيل الجنود وأزيز رصاصات الموت.
بعد ان وصلنا الى الموقع، كان جسده متجمداً كما لو ان دجاجة ملفوفة في كيس تُركت في المجمدة وظلت هناك في فترة غير محددة. قمنا بإشعال النار وتركناه بالقرب منها ليتسرب الدفء إلى جسمه ويساعده على تحريك الدم.
كنت أتمعن إليه عن كثب. أخال اليَّ تلك الرحلة المشؤومة وما تمخض عنها من صعوبات: في تلك الساعة. كانت أعاصير من الأفكار قد عصفت جوارحي بقوة، وكأن صقيع الجبال ذاب على حين غرة وتدفق بسرعة لينساب مياهاً مدمرة تغرق كل شيء تصادفها في طريقها.
لقد تجمدت اطرافه من البرد وسرى الخدر في جسمه الخاوي من أي سعرات حرارية. كانت هيئته تبدو للناظر كجثة محنطة .
كانت هاوية الليل الطويل تزحف في الديجور أصداء الرعب والموت وتختبئ في الطرقات وتحت الجليد و تلقي ظلالا من العزاء واليأس. كنت أرنو الى وجهه الشاحب واتخيل وحدته في تلك الساعات العصيبة في العراء مرتعداً وهو يصارع أشباح الموت وهم ينقضون عليه تحت جنح الظلام. وناقوس الليل يقرع في سكون بارد في عتمة الوادي إيذانا بانتهاء حمايته. ومن نافذة الفجر تسمع تراتيل الحزن تذوب في توان صدى صوته. ارى من آثار الأقدام المتعبة فريسة يأس أليم ناجم عن محاولاته العديدة في لجة الانهيار النفسي وهو ينحرف عن الطريق ويتدحرج ليسقط من هاوية المنحدر في بحر من أكوام الثلوج التي ما فتئت تنهمر بغزارة دون توقف.
وكلما حاول انتشال نفسه من هذا الوحل الأبيض، تضاءلت قدراته الجسدية وذابت طاقته الذاتية في رفد عضلاته قوة إضافية تمكنه على الصمود. وما ان رفع قدمه إلى الأعلى حتى احس ان ركبتيه ترتخيان، وقدميه تثقلان فكأن الجليد قيدهما بالأرض.
كان يبذل جهدا اراديا عنيفا في مواجهة الموت الزاحف. استفحل الشعور بالوحدة يملأ بسواد عاتٍ كالرماد، انهارت مقاومته كما ينهار جسر مهترىء عندما يداهمه الطوفان. ذلك الشعور المظلم في متاهة الوحدة و صراخ الصمت الكئيب في عزلة تامة عن العالم و رياح اليأس في زحمة الإخفاق والتراجع جعله واهنا أمام قوة الطبيعة الغاضبة في سلب الحياة. كانت سياط الريح قد خدشت سحنات وجهه الرقيق، ومحت عنها رونقها.
كان جالسا بهدوء غير مألوف، يرنو الى جهة الكهف متحسراً. ربما جال في ذهنه ذكريات مدفونة لم يألف ان يتذكره في حياته الروتينية اليومية، ذكريات الطفولة والمراهقة المجنونة، وتلهفه الى تلك اللحظات التي قد تمدّه بشيء من الدفء، ولكن في هذا الوقت كان يمضي ساعاته الأخيرة في معركة غير متكافئة، في مواجهة عنيفة قد يكون مصيره الحتمي في عالم مجهول، عالم يختفي بخفة في نعاس الليل. عدو لم يرغب في منازلته، وإنما اصراره على التحدي اوصله الى هذا الكمين الواسع. راح الثلج يلفه كغطاء يمتص حرارة جسمه، يفترس جسده من كل جهات، ويجمد أضلاعه ويكبح خلاياه عن الحركة. لم يبق للسماء لونا ولا للوديان طعما. كل شيء صار مراً كالحنظل. يسدل الليل ستاره وينهي حراسته، فتفاقم في نفسه الشعور بالعزلة حدة.
بالرغم انه كان يميل الى السكينة وقلة الكلام إلا انه في تلك الساعات النادرة كانت أمنيته ان ينبعث من ذلك الصمت ضجيج وصدى أصوات يخترق الكون ويصنع المعجزات. فبرقاده على الأرض المفروشة بالثلوج قد اوعز الى وعيه بالتوقف عن التنفس، وكأنه أراد ان يدفن خلجانه في العتمة بصمت.
راح صوته يتهدج ويضيع في صومعة البرد القارس وفي غياهب السكون القاتل وخوار الروح المستسلم، والضباب الكالح في متاهة المسيرة الضائعة، و الصراخ المكتوم في عمق النسيان.
كان ذلك المنظر قد بدا لي مؤلما، بعد ان سرى وهج النار في جسده، و همد صقيع المتجمد في عروقه، و لكن الدم لم يعد متحمساً على الجريان في قلبه، فظل وجهه باهتا دون ان تغمره نسمات الحياة.
طفق جسده في الاستلقاء على الأرض، ولكن بصمت وهو يرقد في عالم آخر. شعرت بالأسى عليه.



#كفاح_الزهاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صُنان الشرنقة
- قنديل لم ينطفيء
- الهلوسة
- شارع ٥٢
- سيدة الأكوان
- آمال
- الحلم وقطار الوهم
- الاحزان اللا مرئية
- قصص قصيرة جدا
- النور المخادع
- الرسالة التي كشفت ظلّ امرأتي
- غارق في الظلام
- استنفاد
- ذكرى من صمغ
- هواجس في يقظة الحالم
- العهد لم ينقض
- مرثية لوشاح الفرح
- خفافيش اخر الليل
- آثار من ذكريات الماضي
- صراع مع النفس


المزيد.....




- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
- حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش ...
- انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
- -سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف ...
- -مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
- -موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
- شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
- حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع ...
- تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كفاح الزهاوي - عندما يذوب الصمت