|
تأثيم الضحية
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1636 - 2006 / 8 / 8 - 12:37
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
الأوّل استمات واستقتل واستبسل، بعد أن تشاطر وتحذلق وتخابث، من أجل إقناع مشاهديه بأنّ ضحايا مجزرة قانا ـ 2، وجلّهم من الأطفال بالطبع، لم تجهز عليهم البربرية الهمجية الإسرائيلية، بل انتحروا او نحروا أنفسهم بأنفسهم! ففي برنامجه الأسبوعي "الطبعة الأخيرة"، كان نجم الـ CNN ولف بليتزر شديد الحرص على التأطير المسبق ـ أي الرقابة الإحترازية ـ لما سيقوله مراسل القناة على الأرض، في قانا: "الإسرائيليون يقولون إنهم أعطوا الكثير من الإنذارات للأفراد القاطنين هناك، وأسقطوا عليهم المنشورات، وعرضوا علينا بعضها، وبينها ما يقول التالي لسكّان القرى جنوب الليطاني: بسبب الأعمال الإرهابية التي تُرتكب من داخل قراكم وبيوتكم ضدّ دولة إسرائيل، فإنّ جيش الدفاع الإسرائيلي مضطرّ للردّ مباشرة على هذه الأفعال، حتى داخل قراكم". صحافي مخضرم، ومواطن ديمقراطية عريقة، وسليل الهولوكوست، يعاضد جيشاً غازياً في حثّ ضحايا الغزو على هجر بيوتهم وقراهم، والانخراط طواعية في ما يشبه إعادة إنتاج الـ "ترانسفير" الفلسطيني قبيل وخلال 1948. لكنّ طوية بليتزر لا تتكشف كاملة إلا في القسم الثاني من البرنامج، حين عرض تحقيقاً مصوّراً نفّذه بنفسه... ليس في قانا، كما قد يخطر لبعض أبرياء العقل، بل للمشاقّ التي يعانيها الإسرائيليون في حيفا جرّاء صواريخ "حزب الله". وبعد أن جال في ميناء المدينة، انتهى إلى هذه الوقفة الرثائية: "وإذْ نظرتُ إلى ذلك الميناء وإلى خليج حيفا، كان مثيراً للانقباض رؤية القليل فقط من السفن الراسية هناك"! ماذا عن المرافيء في صيدا وصور وبيروت؟ مطار بيروت؟ الجسور الـ 145 التي دمّرها برابرة الدولة العبرية؟ بل ماذا عن بلدة قانا ذاتها، مسرح المجزرة الجديدة وحدث الساعة؟ الصحافي الثاني تلقى صفعة مهنية من السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، ليس لأنّ الدبلوماسي احتجّ على انحياز الصحافي ضدّ إسرائيل لا سمح الله، بل ـ صدّقوا هذه المفارقة البذيئة ـ لأنّ الصحافي لم يتعاطف مع ضحايا مجزرة قانا! ففي البرنامج الشهير "واجِهْ الصحافة"، لم يبدأ تيم رسرت برنامجه بالحديث عن أهول يوم مجزرة قانا ـ 2، كما يليق به أخلاقياً ومهنياً، بل سأل ضيفه دان غيلرمان بتهذيب جمّ: هل ستقبلون بوقف إطلاق النار بعد هذا الذي جرى اليوم؟ لكنّ غيلرمان، ببروده الذئبي المألوف، أهمل هذه السؤال تماماً وسارع إلى تكديس أحزان إسرائيل، وأحزانه شخصياً، إزاء فظائع هذا "الأحد الدامي"، وقال: "أوّلاً، اسمح لي يا تيم أن أقول إنّ هذا الأحد نهار مريع مدمّر دامٍ، وهو صباح رهيب، ونحن في حداد على تلك الوفيات في صفوف المدنيين والأطفال"... قبل أن ينتقل، بالطبع، إلى تحميل "حزب الله" مسؤولية مقتلهم. العيّنة الثالثة، وهي هذه المرّة الصحيفة الأمريكية العريقة "نيويورك تايمز"، بدت وكأنها اتفقت مسبقاً مع وولف بليتزر حول نظرية الإنتحار الجماعي لضحايا قانا ـ 2، فكتبت: "قالت إسرائيل إنّ ضربة قانا استهدفت مقاتلي حزب الله الذين كانوا يطلقون الصواريخ من تلك المنطقة، لكنّ انفجاراً هو الذي تسبب في انهيار المبنى السكني، فسحق المدنيين اللبنانيين الذين كانوا يقضون الليلة في الطابق السفلي، حيث اعتقدوا أنهم سوف يكونون في مأمن. ولقد أثار الإسرائيليون احتمال انفجار الذخائر المخزّنة في المبنى، بعد الضربة الجوية، مما تسبب في انهياره"! هل ثمة حاجة إلى أيّ تعليق على تغطية كهذه، تُنشر في صحيفة لعلّها الأهمّ في العالم بأسره؟ ولِمَ العجب، في المقابل، إذا كانت الصحيفة ذاتها قد اعتذرت رسمياً من قرّائها لأنّ تغطياتها للأسابيع السابقة على غزو العراق كانت، باعتراف هيئة التحرير، قد ضللت الرأي العامّ ورسّخت اليقين الزائف بأنّ العراق يمتلك اسلحة دمار شامل؟ ثمّ لِمَ العجب، أيضاً وايضاً، إذا كانت شقيقتها في الشهرة والعراقة، الـ "واشنطن بوست"، صاحبة الكشف عن فضيحة "ووترغيت" والإطاحة بالرئيس الأمريكي ريشارد نكسون، تسير في الخطّ ذاته: أنّ المبنى كان مستودع ذخائر لـ "حزب الله"، والضحايا كانوا بمثابة دروع بشرية للمقاومة! المحزن، في غمرة هذه البذاءة التي تطبع وسائل الإعلام الأمريكية ـ غير حاملة لأية مفاجأة، في الأغلب، إلا عند رهط مريدي "الشرق الأوسط الجديد" ودراويشه ودعاته ـ أنّ بعض العون يأتي من أهل البيت أنفسهم. ففي برنامج الـ CNN المشار إليه أعلاه، ولكي يتخابث أكثر حول الموازنة بين الرأي والرأي الآخر، استضاف ولف بليتزر الوزيرة السورية بثينة شعبان، فسألها عن استعداد دمشق لوقف تزويد "حزب الله" بالسلاح والعتاد. وكان أن أجابت، لا فضّ فوها، هكذا: "تذكروا أنّ ألمانيا النازية كانت كذلك قد زعمت أنها تحارب الإرهاب. ثمّ توجّب على العالم بأسره أن يوقفها". وغنيّ عن القول إنها، ذلك الأحد الدامي تحديداً، أجهزت على بليتزر بالضربة القاضية، خصوصاً وأنّ مهاراتها في الإلتفاف على الأسئلة المحرجة هي من طينة ذلك المثال الكلاسيكي، حين أكدت أنّه لا يوجد سجين سياسي واحد في سورية! ومع ذلك، ثمة ما يعزّي شعبان: حالها في هذا شبيهة بحال تسعة أعشار الضيوف العرب على الفضائيات الأمريكية، إذْ لا شطارة على تلك المنابر إلا لأمثال داني غيلرمان.
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المجتمع الدولي: مسمّى زائف واصطفاف أعمى خلف أمريكا
-
دماء لمآقي القتلة
-
الشرق الأوسط الجديد: كيف يطرأ جديد على المفهوم القديم؟
-
القصيدة والضاحية
-
حروب إسرائيل في واشنطن وطهران: مزيد من هستيريا الاستيهام
-
فيصل حرية التعبير
-
السياسة خلف -الوعد الصادق-: مخاطر تبسيط الحقّ الواضح
-
علم بنات الإسلام
-
هل تبحث إسرائيل عن حسن نصر الله... فلسطيني؟
-
ما بعد أرض الميعاد
-
واشنطن والبربرية المعاصرة: مباركة في فلسطين، وتواطؤ في سورية
-
أيقونة الوجدان الجمعي
-
أحدث أطوار الاستبداد السوري: قطع الأرزاق بعد كمّ الأفواه
-
بديل الكراهية
-
صومال ستان، أو كيف تعيد واشنطن إنتاج الطالبان
-
كاواباتا ضدّ ماركيز
-
المعرفة السورية والنطاسيّ الغربي: ضحالة على ضحالة
-
في ذكرى إميل حبيبي
-
الحملة ضدّ المثقفين السوريين: حين يصبح البوق سوط الجهاز
-
سينما دمشق
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|