رزان الحسيني
كاتبة ادبية وشعرية، ومترجمة.
الحوار المتمدن-العدد: 6924 - 2021 / 6 / 10 - 01:24
المحور:
الادب والفن
ولأن الجمهور كالطفل، يجب العناية به وبما يرى ويقرأ، فأنه متى ما شهد طفولةً سيئة، لا يعني ذلك بالضرورة أن الأوان قد فات على تعليمهِ شيئاً جيداً.
من منّا لا يعرف مسرحية "أوديب ملكاً"، أهم وأعرق مسرحية تم تمثيلها على مرِّ العصور، وهي ما مهّد الطريق لكل الاجناس الأدبية بالتطور، وخاصةً الشعر والرواية والقصة، ولكنّ الأهم أنها كانت الحجر الأساس لكلِّ ما يُدعى مسرحية، وكلِّ ما يُدعى مسرح. حيث طرحت العديد من المفاهيم الاجتماعية، ونقلت جزءً من الواقع آنذاك، كل ذلك كان بإسلوبٍ أدبيٍّ فذٍّ ومؤثر، وساعد تجسيد أدبية العمل في مسرح أثينا بقوانينه وفنيّاته على ترسيخ أهميته، لذلك ومنذ القرن الثالث والرابع ق.م، تعلّق بها الجمهور الغربي، ودرسها وقلّدها من جيلٍ إلى جيلٍ، مما ألهم الثقافة الغربية ومفكريها وكتّابها على إثراء الثقافة، والحرص على الاستفادة من شاعرية المسرحية وأهميتها في تطوير الأدب والمسرح، فأُنتجت المسرحيات الفنية بأنواعها والعروض الموسيقية والتمثيلية والأوبرا -مع الانتباه أن الموضوعات الهزلية كانت شبه منبوذة- حتى ظهور الرواية بشكلٍ رسميّ في أواخر القرن الثامن عشر، فبعد أن كان المشهد المسرحي يعتمد على الأداء والحوار، جاءت الرواية لتدوّن كافة تفاصيل المسرحية من المهمة منها الى تلك التي لا تُلاحظ، حيث أن البيئة، والجو والشعور العام، والملبس، والتحرّكات، والتعابير، وكل ما يقومُ به الممثل على المسرح، أصبح مدوّناً على الورق، وأصبح عقل القارئ مسرحهُ الخاص. مما ضاعف اهتمام القارئ بالتفاصيل والحوارات، وأصبحت مهمة توجيه الجمهور أشمل وأبسط مما تقوم به المسرحية. وهو ما أنتجَ لنا أخيراً، جمهوراً خضعتْ ذائقتهُ الى مراحل فنية متسلسلة ومتشبعة الصفات، من الشفهيّ المسموع، إلى البصري، إلى المقروء، إلى البصري مجدداً، عن طريق السينما والتلفزيون، فقد تحول المسرح إلى صندوقٍ صغير تُرى كل شخصياتهِ برمشةِ العين، وبالنسبة إلى جمهورٍ عاصر تطور الأدب تدريجياً، دون فقدان حلقةٍ ما. فأن عملية تحول المسرح الى السينما لم تكن سوى عملية تكثيفٍ للأبداع وتركيز الفن وتجسيد للأدب. مما أدى بوظيفة توجيه الجمهور الأدبية إلى أن تكون أسهل من وظيفة الرواية، فقد عاد المسرح بقوةٍ شديدة مع تطور التكنلوجيا وتصوير التعابير والمشاعر مع الحوارات بانتقال آلة التصوير فحسب، حيث دُمج مسرح عقل القارئ الخاص بالمسرح العام وأنتج لنا قارئاً ومشاهداً يُميّز بين ما هو جيدٌ من الأدب والفن، وما هو سيئ. وانتجَ كاتبٌ وممثل يُضاعف جهده من أجل القارئ والمشاهد الاخير صعب الإرضاء. وهكذا.. أصبحت تلك السلسلة عجلة كل ما فيها يدفع الذائقة العامة للتطور.
أما في العراق، فبعد أن كانت الشوارع تحلّ محل المسرح، حيث كانت تُقام التمثيليات الهزلية والاجتماعية الساخرة، بالاضافة الى تمثيلية تراجيديا العاشر من محرم، لم يكن للعراق مسرحٌ حقيقي تُنقل الاعمال الأدبية على منصته، وذلك حتى اواخر العشرينات من القرن الماضي، فقد ظهرت الحركة التمثيلية المسرحية الحقيقية على يدِ فرقة لُبنانية قدّمت مسرحية "أوديب ملكاً"، حمّست الشباب المُهتم ووضعت الأساس المسرحي للمسرح والفنانين. فانطلقت بعدها سلسلة من المسرحيات الاجتماعية والناقدة والسياسية، مُستخدمةً اللغة العامة الدارجة او الفصحى البسيطة او كليهما، مؤدية بذلك الى بساطة الحوار والأداء نسبةً الى قوة الغاية ووضوحها. فغيرت نظرة الجمهور الى المسرح والفن وأثارت جواً ممتعاً بين صفوفه. إلا إن المسرحيات الأدبية والإنسانية لم تكن تلقى ما تستحقهُ من الإنتباه. وكان ظهور المسرحية المتأخر آنذاك -نسبةً الى العالم- مُصادفاً ظهور الرواية وتعريبها وتكوينها لأول مرة، فانقسم الجمهور الى مناصري الرواية والفن المكتوب، ومناصري المسرح والفن البصري. وبذلك فقدَ المجتمع العراقي -والعربي ايضاً- عنصراً أساسي من عناصر بناء ذائقته، ألا وهو الفهم التام للعمل الإدبي ومحتوياته والتشبع به، ثم التدرج إلى العناصر الأخرى. فأصبحت الذائقة بين من لم تشهد العمل المكتوب مجسداً بفنية عالية، وبين من لم تقرأ العمل مكتوباً باحترافية وأدبية، مؤدياً بذلك الى خللٍ في منظور الطرفين، خاصةً حين ننتقل الى المرحلة الأخيرة من السلسلة: التلفزيون والعروض. ولأن فقدان حلقة المسرح الحقيقي أدى الى فقدان المعايير العامة في ذائقة المشاهد، شهدنا اولاً اقبالاً وترحيباً على كل ما يُدعى فناً معاصراً وهو يخلُّ به، وانحداراً شديداً في الانتاج التجاري لتلك المسرحيات المصورة والمجسدة بلا أدنى ذوقٍ او غاية وغرض او متعة أدبية سوى الاستعراض والتهريج، او حتى تسخيف الدراما بضعف الأداء والحوار، من جانب السينما.
أما الرواية، فعلى الرغم من إحتفاظ اغلبها بالاجتماعية والسياسية، إلّا إنها كانت لا تزال مكتوبة بطريقة أدبية -على الاقل- تدفع بالقارئ الى وجهتها، على عكس المسرحية آنذاك، حيث تفتقد اغلب عناصر الفن. فكما نرى أن العجلة التي تدفع بالمُلقي والمتلقي الى التطور، قد تشتّت أمام تشتت وتفكك المجتمع نفسه، فلا المُنتج تطوّر "متى ما نزل الى سوقية التجارة والمتعة الرخيصة"، ولا القارئ او المشاهد تطوّر "متى ما أصبح أغلب ما يقع عليه بصره رخيصاً، أو عادياً.. على أقل تقدير" ولا زلنا نشهد هذا التدهور والتدحرج بين الأدب الحقيقي، وبين ما تُريده الذائقة.. من الرواية والكتب الى العروض. وما من مُلامٍ فعلاً سوى الزمان!
في مدارسنا الثانوية سابقاً, كانت لدينا مناسبتين فقط في السنة الدراسية الواحدة. أحدهما رسمية, وهي اجتماع أولياء الأمور ويتضمن فعّاليات وأنشطة طلابية كما لو كان مهرجان يحضرهُ الطلاب المميزون والأهالي والكادر التدريسي, والآخر كان عيد المعلم.. حين كنت في الثالث متوسط "ثانوي", ولأن أغلب قاعات مدارسنا تحتوي على منصة مسرح, فقد قمتُ بتحضير مسرحية "الملك لير" لشكسبير في مهرجان أولياء الامور, وأبقيتُ على الاسماء واختصرتُ الاحداث بشدة. كانت ردة فعل المشاهدين مفاجئة جداً لي, لأني لم أتوقع أن يركزوا مع الأحداث والأسماء الغريبة والقصة شديدة العاطفية, توقعت الاستهزاء والضحك, او على الأقل, عدم الانتباه والتجاهل.. خاصة مع استهزاء التدريسيات قبل المسرحية, وغرابة موضوع المسرحية ومناسبتها, إلا ان ما حدث هو صمت ومشاهدة دقيقة, وتفاعل وتصفيق في النهاية.. وبعد ثلاثة سنوات, أخبرتني طالبة تصغرني سنأ, كانت ترتاد تلك المدرسة, وحضرت هي ووالدتها المهرجان, أن المسرحية كرروها مجدداً في السنة التالية, وأصبحت تُقام مسرحيات أخرى بسيطة وهادفة في كل مناسبة. كان ذلك مثلجاً لقلبي, لأني لم أرجو شيئاً من إقامتي لها سوى أن أنقل حبي لتلك المسرحية, وكنت آمل ايضاً أن ألفت انتباه الطلاب الى كتب ومسرحيات كهذه, وذلك ما نتج, على صعيد مدرسة. لأن أول الغيث قطرة!
لذلك، فإن هذه الفوضى يمكن حلّها والارتقاء بالذائقة بإجبارها على مشاهدة وقراءة ما فقدتهُ عبر العصور، عن طريق تقديم الافضل لها، فنياً وأدبياً. خاصةً مع وجود السينما، فقد سهّلت كل ما واجههُ المنتج المسرحي من معرقلات، وسهّلت إنتاج مادة حقيقية تُلهم القارئ الى وجهتها. ومع ذلك.. فحتى المسرح لم يفت أوانه بعد! حتى مع وجود مواقع التواصل، لا يزال المرء محتاجاً إلى رؤية تجسيداً حقيقياً لمأساته وأفراحه، إلى الشعور الصادق الذي تبعثهُ مشاهدة مادة مُغذية للروح والبصر، وإلى الشعور الحميميّ بمشاركة تلك المشاعر البشرية مع الجميع. ولأن الجمهور كالطفل، يجب العناية به وبما يرى ويقرأ، فأنه متى ما شهد طفولةً سيئة، لا يعني ذلك بالضرورة أن الأوان قد فات على تعليمهِ شيئاً جيداً. وكل ذلك التطور والتدهور يتحدد بعاملٍ واحد فقط، يتحدّى السلسلة والزمن والأحداث والذائقة نفسها، وهو نوعية المادة.
*المقال من وجهةِ نظرٍ شخصية، مُستنداً إلى المصادر.
*الشماعية مستشفى للأمراض العقلية في بغداد، العراق، وهي اسم نموذج من إحدى المسرحيات الحديثة.
*المقال يتناول الجانب الأدبي فقط، ولا يشمل الجانب الاجتماعي والسياسي، ولا دور الدولة في تفعيل واحتواء المسرح.
#رزان_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟