|
-عبث- البير كامو و -الثورة المُهانة- في الربيع العربي
علي ماجد شبو
(Ali M. Shabou)
الحوار المتمدن-العدد: 6923 - 2021 / 6 / 9 - 21:26
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
لاشك إن العنوان أعلاه يُعّجل بإفلات سؤالين ھامين و ُملّحين: لماذا البحث في مفھوم "العبث" في ھذه الأوقات التي تمر بھا المنطقة العربية؟ وأليس مفھوم "العبث" قد أشبعبالبحث على مدى العقود الثمانية المنصرمة؟ وللإجابة على السؤال الأول، يكفي ان ننظر الى ھذه الوقائع التي ترسم أيامنا وتجفف طموحاتنا، ننظر من حولنا، نظرة عميقة، وبمعايير غير تقليدية، الى الواقع الذي تعايشه مجتمعاتنا العربية، على إختلافاتھا وعلى تنوعھا، ھذه النظرة، ستفرز أنقى وأوضح حالات "العبث" ضمن الفكر الفلسفي لكامو، وسأسرد بعض الأمثلة، كتطبيق عملي للمفھوم الفلسفي، وكإسناد لھذا القول. أما الجواب على السؤال الثاني فأختصره بلا لم يُشبع بالبحث بعد، )خاصة وان البير كامو يعود وبقوة لتصدر المشھد الثقافي، في فرنسا وأوربا عامة، في العقد السابق كما الحالي( وإن ذات الوقائع، المشار اليھا، للمجتمعات العربية تؤكد ذلك. وقائع لا تحمل بذور لمستقبل مشرق، ولا ليقينيّة مصيريّة ترفع من الأرواح المرھقة الكھلة قدريّة حياة لا تُليق بالإنسان، ويقينيّة موت يقضي على منجزات تاريخ برمته. لنتسائل أولاً، أمام مرآة القلب، كيف تجري حياة البشر عامة؟ الاستيقاظ صباحا، ثم الذھاب الى العمل، توقف للغداء، ثم الرجوع الى عمل، عودة الى البيت، عشاء ثم نوم. ھكذا يوم السبت وكذلك الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، 1 ويتكرر ذلك في الأسبوع الذي يليه ثم الشھر الذي يليه وتمضي الأيام والأسابيع والشھور والسنين بدورات متكررة، بملل شديد، وبرتابة ممنھجة، متأنية، ترفض المفاجئات التي لاترتكن الى ھذه الدورة الحياتية الرھيبة. ولكن قد يحدث ، في إطار ھذه الدورة الجھنمية، برق في وجدان الانسان يحمله الى الوعي بما يجري، الوعي المتعطش لكشف أسرار الحياة واسرار العالم، الوعي الذي يبحث عن كنه ھذه الحياة. وعي يتف ّحص ھذا الشرخ العميق بين الروح وبين عالم أخرس. قد يأتي ھذا الوعي عند "منعطف شارع" او عند "بوابة مطعم" كما يقول كامو. وعندها يبدا التساؤل عن جدوى ھذه الحياة؟ وعن معناھا المفقود؟ ليس ھناك جواب واحد مقنع للإنسان الذي يشغله ھذا الصراع القائم بينه وبين العالم. صراع مع عالم بلا أحاسيس قادرة على تل ّمس أوجاع الألم او حرارة الأمل. وھنا يتع ّمق الشرخ الكبير بين عقل الانسان وبين العالم، ويتسع ھذا الشرخ كلما تع ّمق وعي الانسان. ومع ذلك فھناك عدة أجوبة سھلة، تحاول أن تجّسر الھوة بين الانسان والعالم، ولكنھا لن تُحيّد الصراع القائم بينھما، أولھا، الإجابة النابعة من "الإيمان" والقناعة "بالحياة الأخرى" وما تحمله من قيم عدالة ومساواة، مفقودة في ھذه الحياة. والاجابة الثانية مبنية على "منظومة أفكار" وأيديولوجيات ويتوبيات سياسية او اجتماعية تحمل "مشاريع آمال" لحياة أفضل من الواقع المعاش. والإجابة الثالثة ھي تلك التي تعي مآسي الحياة كما ھي، وتعي عمق الظلم الناشئ عن فقدان العدالة والمساواة، وتعي حجم الحرية التي تتوق لھا الروح، كما تعي ھشاشة التحدي بين الانسان وھذا العالم وتقبل ذلك التحدي وتمضي في الحياة كما ھي. لا شك ان كل ذلك ينطوي على الكثير من "العبث"، كمفھوم لغوي ولفظي، ولكن الأھم من ذلك، كمفھوم فكري وفلسفي، وھو ما نحن بصدده. ُ أستخدم مصطلح "العبث" في الفلسفة لوصف كل ماھو منفصل عن "المعنى" المحدّد مسبقاً. كما و ُصف العبث فلسفياً بإعتباره نتيجة كليّة لحالة العالم. في حين ان البير كامو يرى مفھوم العبث مختلفا في بحثه الفلسفي "أسطورة سيزيف "، فكامو يرى أن العبث ھو نقطة إنطلاق وليس نھاية، أي مرحلة الشروع بالحياة. والعبث، في مفھوم كامو، يُمثّل لحظة إدراك شديدة الحساسية للتناقض القائم بين الطموح الإنساني وبين حياة مسلوبة المعنى، فالعبث ھو "مواجھة بين اللاعقلانية وبين الرغبة الجامحة في الوضوح والتي يتردد صدى نداؤھا في أعماق الانسان". 2 أي، بتعبير آخر، إن العبث ھو حصيلة ھذه العلاقة المتناقضة بين لاعقلانية الواقع وصفاء الوعي الإنساني. لأ ّن حالة الانفصال التام بين الانسان والعالم، والقطيعة الحاصلة بين الأسئلة الميتافيزيقية للإنسان وصمت العالم المطبق حيالھا، ھما جوھر مفھوم العبث. ومع ذلك، فإن العبث بالنسبة لكامو، ھو حالة إيجابية لإنھا تنطلق من أصالة الحياة ذاتھا، حيث ان حالة اللامعنى التي تطغي على الأشياء عامة وعلى المحيط الإنساني، بآلامه وآماله، لا تقبل الحلول الجزئية ولا تقبل المراوغة،.بل تستوجب التعامل بوعي صافٍ تام يُؤسس لأخلاقيات سلوكية أخرى في مجتمع راكد. أما في المواجھة القائمة بين الفعل الإنساني وبين رحابة العالم، أو بتعبير آخر، بين الشرط أو الطموح الإنساني في الحياة وبين حالة الحياة "كمعنى ناقص" داخل ھذا الوجود، يؤكد كامو مفھوم العبث، بكل كثافته، ضمن ھذا التناقض. حيث ينطوي تحت معاني مفھوم العبث، الإدراك المؤلم لھكذا تناقض. فالعبث ليس خياراً فكرياً للھروب من ھذا التناقض بأي شكل كان، بل بالعكس "للحفاظ عليه حتى وھو يسحقني، وبالتالي فاني بإحترامي له، أقّر بما ھو جوھرياً فيه. لقد عّرفت (العبث) للتو على انه مواحھة وصراع بلا ھوادة" 3 ھذا الموقف الواضح من كامو يُناقض تماماً المفاھيم السلبية الشائعة عن مفھوم العبث وعن دلالاته التھميشية في مسار المجتمعات. فكامو ھنا لايبحث عن حّل لھذا الصراع القائم، بل بالعكس فھو يدعو للاحتفاظ بھ، ولكن بتغيير مواطن القوة والعزم في ھذا الصراع. كيف ًينشأ العبث أو الوعي بالعبث؟ ھناك بعض الدلالات والبيئات التي يجب ان تتوفر مسبقا من إجل إشعال لحظة الوعي، ال ُملزمة لإكتشاف العبث، من أبرزھا: إدراك قيمة الحياة اليومية التي تُستلب ضمن سياق روتيني، ممل، ولانھائي، يُطفئ أنوار الأمل. ثم إدراك، بوعي حاد، حالة ّ غياب العدالة وتسيُّد حالة اللامساواة، ومن ثم الإحساس التراجيدي بالغُبن. وكذلك إدراك وتلمس حجم القمع والتسلط والاستبداد على مختلف المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، وأخيراً، شحذ الوعي لضرورة الخروج من ھذه الدائرة الجھنمية بالتحريض ضدھا وبالتمرد عليھا. أي ان ادراك عمق التراجيديا اليومية يضفي على الحس العبثي للإنسان طبقة رقيقة وھّشة من حصانة تستقوي بالتمرد وبالتحريض. يتبلور مفھوم العبث عند كامو بشكل خاص في عدّة أعمال روائية، ومسرحية وبحثية: أسطورة سيزيف عام 1942 ، وھي البحث الفكري والفلسفي الأساسي لمفھوم العبث. تقول الأسطورة، بإختصار، أن الآلھة حكمت على سيزيف بإن يحمل صخرة من قعر الوادي الى قمة جبل، وحين يصل القمة، تسقط الصخرة ثانية الى قعر الوادي وعليه ان يرفعھا الى قمة الجبل ثانية، وھكذا تستمر ھذه الحالة الى ما لانھاية، أي الى الأبدية. يتساءل كامو عن الجدوى في مثل عمل كھذا، تافه، بلا فائدة، وبلا آمل. ومع ذلك يرى كامو في عمل سيزيف شيئاً آخر يدفعه الى مواصلة العمل (برفع الصخرة) بلا ملل، وھو "القبول" بذلك الوضع، أي "القبول" في التحدي الذي لم يختاره. حيث كان سيزيف، كما يراه كامو، يرفع الصخرة الى قمة الجبل منتشياً انه سيجبر الآلھة على ان تعمل على إسقاطه الى قعر الوادي وھو يعاود حملھا ثانية. وھكذا بلا انقطاع على إمتداد الأبدية. ھذه ھي شرارة المفھوم الفلسفي للعبث عند كامو. لاشك ان ھذه الحالة تمثل التراجيديا البشرية بكل خيباتھا وأوجاعھا، ولكن أيضاً بكل صفائھا ونبلھا. ھذا البحث النظري الفلسفي للعبث غرسه كامو بتطبيقات عملية في جميع أعماله على تنوعھا، فنجد ذلك في رواية "الموت السعيد" (كُتبت بين عامي 1936-1938 ولكنھا طُبعت للمرة الأولى عام 1971 أي بعد حوالي عقد من وفاة المؤلف ) ورواية "الغريب" عام 1942 وفي مسرحيات "كاليجولا" (كُتبت ھذه المسرحية عام 1938 وعُرضت لأول مرة على المسرح في عام 1945 )، و"سوء تفاھم" 1944 ، وھي نموذج مفجع لوقائع العبث، و"حالة حصار" 1948 (وقد كتبت ھذه المسرحية الاخيرة بطلب ودعم من الممثل والمخرج الفرنسي الكبير جان لوي بارو والذي قام أيضا بإخراجھا وتمثيل الدور الرئيسي فيھا). وكذلك في الأجزاء الثلاثة من يوميات البير كامو. عقب ذلك، البحث الفلسفي المعروف "الانسان المتمرد" ثم روايتي "الطاعون" و"السقطة" وكذلك مسرحيتي "قدّاس لراھبة" 1956 (إعداد مسرحي عن قصة بنفس العنوان لوليام فولكنر) و"الممسوسون" 1959 (إعداد مسرحي عن دويستوفيسكي). نجد في جميع ھذه الاعمال تطبيقات لمفھوم العبث وما ينطوي عليه من تحريض وتمرد. لعل أھم أكتشافات الامبراطور "كاليجولا"، في المسرحية التي تحمل نفس العنوان، ھي "أن الناس يموتون وھم ليسوا سعداء". حقيقة مفجعة حقاً، إلاّ أنھا لا تمنع الناس من مواصلة حياتھم كالمعتاد. ھذه الحقيقة جعلت من كاليجولا، ھذا الإمبراطور المستبد، يُمعن في إذلال كل َمْن من حوله، لا لذنب بعينه، بل لانھم كانوا يمثلون بالنسبة له حالة الإستكانة والركود والخنوع التام لمصائرھم، بلا تساؤل أو أحتجاج. مالذي قاد كاليجولا لھذا الاكتشاف؟ ھل ھو إنسداد أفق الحياة؟ ام ھو رغبة في نموذج آخر من الحياة؟ أو لانه لم يستطع "إمتلاك القمر"، 4 ) كاليجولا المشھد الرابع (، أي أنه لم يستطع ان يُمدد بحدود سلطاته وإستبداده الى الكون الفسيح. والتساؤل الأھم من ذلك، مالذي دعى كاليجولا الى ھذا الاكتشاف؟ أي ماھي الموانع اليومية لبناء أفق واسع يحتمل السعادة والتعايش مع الواقع بكل أبعاده؟ إن الإجابة على تلك الأسئلة ھي التي تشّكل، الى حد بعيد، فھم "العبث"، كمفھوم فكري وفلسفي بعيداً عن المفھوم اللغوي المتداول. ولكن، وكمحاولة للإجابة، من زاوية أخرى، فإن العالم الذي يحيط بالإنسان، عالم لا أُبالي، عالم أصم، خالي من أحاسيس تلّمس الأوجاع والألم، أو اللھفة لإنتظار شعاع من الأمل، ولذلك يتسرب "العبث" بكثافة ليكّون "الرابط الوحيد" بين الانسان والعالم. ھذه المفارقة المأساوية تأخذ شكلاً واقعياً اذن، فھي التي تشدّ الانسان والعالم الى بعض، مفارقة تنطوي على التناقض بين التوازن الھش وبين أحاسيس التحدي، واليأس، بل وحتى "الكراھية". إن ھذه الاحاسيس، على الرغم من عدم إنسجامھا مع بعض، تستطيع ان تكون سبباً لتشبث البشر بصلات مصيرية مع العالم. ماذا يحدث عند تبلور الإحساس بفقدان المعنى "المفترض" للحياة؟ وھو المعنى الذي يتخذه الناس لمواصلة الحياة. لنستعرض قليلاً اين يمكن ان يتمركز ھذا المعنى بالنسبة للناس عامة. إن معنى الحياة يتمركز، بالنسبة لبعض الناس "بمصدر الدخل" أي "بالعمل" والمشاريع المرتبطة به، وبالنسبة للبعض الآخر يتركز في علاقة عائلية أو حميمة مع شخص قريب جداً او "الحبيب اوالحبيبة"، ولغيرھم يتركز المعنى في دوام "الصحة" والعافية. وھكذا، فإن فقدان المعنى ھنا يكون سبباً كافياً لبعض الناس لإنھاء حياتھم، عبر "الانتحار". ھذا ھو الخيار الأول المتاح، فحين يشعر الانسان بھذا الطلاق بينه وبين العالم، يتزايد إحساسه بأنه قد أخفق حياته، وتسّربت مشاريعه الواحدة تلو الأخرى نحو زاوية مغلقة من حياته التي تّم إستلابھا تماماً. "فالعبث بحدّ ذاته يُمثّل التناقض" 5 ، ويزاد إحساسھ بالوحدة الباردة في مملكة ھالكة، ولا يتمكن من إلتقاط أية إشارات تصالحيّة بينه وبين العالم. ينتحر، لأنه ببساطة، حين يختفي السبب، الذي يُضفي شرعية على وجوده، فيتحول ذلك السبب ذاته،الى مبرٍر كاف لموته. ينتحر،لانه يرى في ذلك إنھاًء لحالة "العبث" التي تغلّف حياته والعالم. ولكن الوجه الاخر من الحقيقة يرفض ھذا الخيار لانه من غير الممكن معالجة حالة "العبث" بالأستسلام التام بالانتحار، بل، بقدر ما يكون بالوعي الصافي، الواضح، الرافض للمراوغة والخداع، والرافض لجعل الانتحار مشروعاً ينتصر على مشروع الحياة. قوة الرفض ھذه تبرز من خلال التمرد والثورة، إحساسان يتجسدان في فكر وسلوك وأخلاقيات الانسان وسيرافقانھ على إمتداد حياتھ. فالتمرد والثورة ھما ثمن الحياة التي نعيشھا، أما الانتحار فھو إذن خيارٌ مرفوض بالمطلق. يقول كامو "إني أستخلص من العبث ثلاث نتائج: تمّردي، وحريتي وشغفي. وبإدراكي ووعيّ أحًّول ذلك الذي كان دعوة للموت إلى أن يكون قاعدة للحياة. وانا أرفض الانتحار" 6 في حين ان الخيار الثاني للرد على عبثية الوجود يتّولد من فكرة الخروج من ھذا العالم، الذي نعيشه عبر، الإيمان، والقناعة وكذلك الوجدان والمخيال الى عوالم أخرى، تمنح السكينة والسلام وتزيل التوتر الوجودي عبر الأرتھان الى عوالم ميتافيزيقية أخرى. عوالم تعوض عما تفتقده ھنا في ھذا العالم، بل وتعطيك أجوبة مريحة للأشياء المستحيلة، أجوبة بحجم أحلامك ومخيالك وأوھامك. من ضمن ھذه العوالم، "العالم الآخر"، كما ھو الحال في بعض الديانات. إن أھمية العالم الآخر تكمن في ان الجميع يتساوى فيه بعدالة إلاھية، وبحريّة مطلقة، غير معھودة، على ھذه الأرض، يضاف الى ذلك وجود "الجنة" التي تعوض عن الحرمان في الحياة الارضيّة، ففيھا متع لم تنشأ على الأرض على الإطلاق. ثم والأھم من ذلك كلھ، لم يعد للحياة في ذلك العالم الميتافيزيقي حدود فانية، فالخلود والأبدية ھما فقط حدوده. ھذه العوالم إذن، تسمح للإنسان بأن يتجسد فيھا عبر الإيمان والقناعة بما ھو عليه، فھي تحرره من فكرة ان الحياة فارغة ولا معنى لھا، وبھذا تُلغي التوتر الذي يعيشه بحياته اليومية، وتمكنه من الاستمرار في الحياة دون أسئلة محيّرة، وبلا حاجة الى أجوبة ملتفّة. يرى كامو ان ھذا الاختيار وسيلة ناجعة وفعّالة لمواصلة الحياة، ومع ذلك يصفه بانه خيار "جبان نوع ما" في التعامل مع معنى وجودنا، ثم يصف ھذا الخيار "بالانتحار الميتافيزيقي". وھناك أيضاً، بالإضافة الى العوالم الميتافيزيقية، عوالم اليوتوبيا Utopia )الأحلام الطوباوية أو المدينة الفاضلة( التي تضم "إيديولوجيات" فكرية وسياسية تنطوي على تحقيق آمال جماعية بفردوس أرضي مشابه للجنة الموعودة، ولكن الحقيقة ان غالبية ھذه الأيديولوجيات مغلقة تماما على نفسھا، وإقصائية، على الًرغم من بيانات الانفتاح والحرية، ولكن ھذه الايديولوجيات تجعل من معتنقيھا، غالبا، أسرى أحلام وأوھام كبيرة، أي أسرى لعالم بلا نوافذ ولا أبواب. الخيار الثالث ھو القبول بالأمر الواقع، أي "القبول بالحياة" كما ھي، وذلك يعني القبول بحياة فاقدة المعنى، حيث ان الإقرار بذلك ھو إقرار بالعبث. أما خلاف ذلك، فسيصبح من اللامعقول تماماً الشروع ببناء معنى للحياة قبل "الاعتراف" بأنھا لا تملك أساساً أي معنى، بل أن كامو يمضي الى ماھو أبعد، فھو يرى أن ذلك يجب ان يثنينا عن مجرد المحاولة أو الشروع في بناء "المعنى". إن الوجود المجرد في ھذه الحياة، والإقرار بالعبث، ھما التحدي الأول في "القبول" بالاستمرار في ھذه الحياة، وھو ما يُضفي الشرعية اللازمة على التمرد بل والثورة. "من الممكن أن نبيّن أنه لا يمكن أن يكون ھناك سوى عالمين محتملين لعقل الإنسان ، عالم المقدس، وعالم التمرد. إن اختفاء أحدھما يعادل ظھور الآخر، على الرغم من أن ھذا الظھور يمكن أن يحدث في أشكال وأساليب مقلقة" 7. إن القبول بالحياة بوعي واضح، صاف، وتام، بلا مراوغة او مخاتلة، يستوجب الشروع بالتحدي الذي يفرضه ذلك الوجود في الحياة. ذلك التحدي الذي يمنح الحياة قوة الخصم في ھذا الصراع غير المتكافئ والمتأتي من انعدام القدرة على الاختيار المطلق والحر. ولھذا فإن موقف التحدي يُجّرد مشاعر الضحية عن مسار الانسان. فالتحدي يستوجب الاعتراف بالخصم، وبامتلاك الزخم والقوة اللازمين للتشبع بالتمرد والثورة، فبھما تكتمل شرعية الوجود الإنساني في ھذه الحياة. شرعيّة تستكمل قوى عيش الحياة بشغف مكثف وسعادة لا تخادع. من أين جاء كامو بھذا المفھوم؟ لاشك عندي بأن كامو، كان قد إستقى ھذا المفھوم من شواھد المآسي اليومية لحي "بالكور" العمالي الفقير، في الجزائر العاصمة، حيث نشأ، ومن المآسي الإنسانية الكبرى التي حدثت في الحربين العالميتين في أوربا ودمرت المجتمعات والمدن والتراث، وتركت العالم مھ ّشماً إنسانياً، ولم تعد النظرة الى ماھو يومي في الواقع المعاش تتضمن بالضرورة آمالاً لمستقبل يُرجى له. لذلك كانت أفكار وفلسفة كامو، في الكتابات الأولى، قائمة على العبث بمفھومّي "الوعي والحرية". وقد برزت ھذه المفاھيم في أعماله الأولى مثل "القفا والوجه"، و"الغريب" و"أسطورة سيزيف"، ومسرحيات مثل "حالة حصار"، و"كاليغولا"، و"سوء تفاھم" و"العادلون". ثم في مرحلته الثانية تعّمقت تماما ابعاد ذلك "الوعي" وتلك "الحرية" لتشمل "التمرد والثورة"، وكان من ابرز أعمالھ الانسان الثائر وروايتي "الطاعون" و"السقطة" ومجموعة من ستة قصص تحت عنوان "المنفى والملكوت"، إضافة الى مْسرحة وإعداد نصوص حوالي ستة مسرحيات من الأدب العالمي منھا "قدّاس لراھبة"، عن وليم فولكنر، و"الممسوسون" عن دويستوفيسكي. مع ملاحظة أنه كان لمفھومي التمرد والثورة بذور في جميع الاعمال الأولى لكامو، وإن كانت بدرجات متفاوتة. قبل أن أبدأ بمحاولة النظر في تطبيق مفھوم العبث، عند كامو، على الربيع العربي والمجتمعات العربية، أرى من الضروري، ھنا، التساؤل ولو بإيجاز شديد، عن التاريخ الشخصي لكامو فقد يساعدنا ذلك على فھم ما أحاول تطبيقه على المجتمعات العربية : ُولد البير كامو ونشأ في حي بالكور العمالي الفقير، في الجزائر العاصمة، وقد قُتل والده (الجندي) في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى وھو مايزال طفلا صغيراً، ولذلك فھو لم يعرف أباه أبداً. أما أمه فقد كانت سيدة مكافحة تعمل لتُعيل صغارھا. كان كامو من بين الطلبة المتفوقين في دراسته. ثم بدأ بكتابة مقالات مختلفة وبدأ حياته كصحفي وكفنان في مجال المسرح. ھذا بإختصار شديد، ثم انتمى في ذلك الوقت، 1935 ، الى الحزب الشيوعي. وذكر ھو ذلك في رسالة الى جان جرونيية (أستاذه، ومستشاره وصديقه) "لدي رغبة عارمة في تقليص حجم التعاسة والمرارة اللذان يُسممان الإنسانية" 8 ، وبقي في الحزب لمدة عامين فُصل بعدھا بعد ان كتب مقالات ينتقد فيھا الحزب الشيوعي. فقد أسّر كامو الى أستاذه جان جرونيية "بأنه كان مجبراً بأن يكون شيوعياً لكي يبقى قريباً من الناس الذينً ينتمي اليھم، قضية العمال في الجزائر والتي تبنّاھا الحزب الشيوعي، ولكن كامو كان حذرا من الأھداف الأخرى للحزب الشيوعي كما ذكر جان جرونيية في كتابه عن كامو" 9 في عام 1943 كان كامو يُدير، في فرنسا، الجريدة السّرية للمقاومة الفرنسية ضد النازية المسماة Combat أي "المعركة". وكان دوره في المقاومة، ومواقفه بإتجاه قضايا الحرية والعدالة والمساواة قد وسمت تاريخه و تاريخ تلك الفترة. مايشوب تاريخه ھو موقفه من الجزائر والذي كان لا يؤيد فيه المقاومة المسلحة، بل المقاومة ضمن واقع الجزائر الفرنسية. أي انه كان بالضد من آمال ورغبات الشعب الجزائري في الحرية والاستقلال. كما عبّر عن ذلك الكاتب والروائي الجزائري "واسيني الأعرج" "كل ھذه القوة وھذه الطاقة الخلاقة (عند البًير كامو) غيّبتھا الخيارات اللاحقة لألبير كامو عندما أصبح صوت الجزائر الأخرى جزءا من المنظومة الثقافية الباريسية في ذلك الوقت. فجأة سكت الطفل الإسباني/الجزائري الفقير (إشارة الى الأصل الاسباني لكامو عن طريق أمه والى الأصل الجزائري عن طريق مولده وعيشه في الجزائر( بسبب إنتصار البير كامو الآخر، الذي أصبح صوتاً فرنسياً ثقافيا كبيراً يدافع عن جزائر متعددة تحت راية الاستعمار الفرنسي، جعلھا إندلاع الثورة التحررية، غير ممكنة، بل بلا معنى". 10 ونرى تأكيد ذلك في مقولة كامو، نفسه، والمعروفة: "إذا كان عليّ أن أختار بين أمي ووطني فإني سأختار أمي". وكان كامو يقصد ھنا بوطنه الجزائر، وبأمه فرنسا. ھذه المقدمة الموجزة للغاية عن حياة كامو كانت مھمة لإعطاء صورة ولو مصغّرة، مع أنھا غير منصفة بالتأكيد، عن إنتماءاته الفكرية والمبدئية داخل حركة المجتمع. فكامو لم يكن، ضمن مفھومه للعبث، سلبياً بمفھوم الانسحاب من دورة الحياة او من ديناميكية المجتمع، بل كان فعّالاً بقوة، ككاتب ملتزم بقضايا الوطن، (وطنھ فرنسا الذي أختاره) وكمفكر منشغل بھموم وآفاق الانسان والمجتمع، وفنان مسرحي. كان كل ذلك عبر مختلف الوسائط الإبداعية، من المقالات الصحفية والبحثية الى الكتابة الروائية والنظرية الى التمثيل والإخراج في المسرح. لننظر الآن الى العلاقة بين مفھوم كامو "للعبث" وما يجري في الواقع العربي. كيف يمكن ترجمة مجموع الأفكار والاحاسيس، فيما سبق ذكره، الى لغة السياسة، دون المساس بالمفھوم، وبالمفردات والمعنى الفلسفي "للعبث" كما حدّد أبعاده كامو؟ أعتقد بأن الوقائع العربية توفّر لنا إجابة واحدة واسعة، وإن كانت بنھايات شديدة الُمخاتلة، ودلالات تترصد المعنى، وأعني بذلك "الربيع العربي". ومن ھذا "الربيع" سأسعى ان أجعل اللغة لا تبتعد كثيراً عن المفھوم الفلسفي، ولا تقترب كثيرا من لغة السياسة. إنما لغة تنشغل بالانسان وھمومھ وھي لغة مقبولة من الجانبين، رغم ان كليھما لايتفقان. ان المجتمعات العربية ترضخ، تقليدياً، الى حزمة من إنظمة الاستبداد الذي يزيد من فقره وحرمانه. فإن فقراء ھذه المجتمعات تعاني من الاستبداد بألوان السياسي، والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فعلى الصعيد السياسي أعتادت ھذه المجتمعات بأن ترى حكّامھا، عموماً، لا يمتّون الى البشر بصلة، فھم آلھة خالصة، وبأحسن الأحوال أنصاف آلھة، تأمر بكل شيء ما عدا الإنصاف والعدالة وما عدا إشباع شغف الناس بالحرية. أما على الصعيد الاقتصادي، فيظل الفقراء غير قادرين على الاندماج في حركة الاقتصاد الرسمي، فھم يعملون بما ھو ُمتاح لھم. وما ھو متاح ھو سوق الاقتصاد غير المنظم، او غير الرسمي، الذي تحاربه الدولة. أما على الصعيد الاجتماعي فالنتائج التھميشية كانت لھا مقدماتھا في القمع السياسي والاقتصادي، وأخيراً، على الصعيد الثقافي، نجد أصواتاً تتحدى كل أشكال القمع، فيبرز من بينھم أصوات ثقافية مميزة، في جميع مجالات الثقافة والفنون، تشكل الھوية الإبداعية للمجتمع. كيف أبتدأت إحتجاجات الربيع العربي؟ إبتدأت من شارع البنوك (وول ستريت) في نيويورك، عقب أزمة الرھن العقاري عام 2008 . ثم أنتشرت، كالبرق، الأزمة المالية حول العالم، وجعلت البنوك العالمية والمحلية لدول عديدة تمّر بأزمات حادة للغاية أدت الى بيع أصول وإغلاق بعضھا. وأثرت ھذه الأزمة، بشكل مباشر، على ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية عالمياً. من ھذه الأزمة تولّدت حركة إحتجاجية سلمية في إسبانيا باسم الغاضبون (انتقلت فيما بعد الى فرنسا باسم السترات الصفراء والى عدد من دول أوربا). ثم ظھرت قبل ذلك حركة إحتجاج ضد "إفتقاد العدالة الاقتصادية" في نيويورك تحت عنوان " إحتلوا وول ستريت"، وسرعان ما انتقلت ھذه الحركة الى عدة مدن وولايات في أمريكا. ساھمت شبكة الإنترنيت بشكل فعّال في إقامة وتسھيل الاتصالات بين الأشخاص الذين يتشاركون بذات الاھتمام. ھذه ھي البيئة العامة التي سيطرت على العالم في نھاية العقد الأول وبدايات العقد الثاني من ھذا القرن. بيئة تشي بنھاية الرأسمالية التي نعرفھا، ولعلنا نشھد بداية ظھور نظام إقتصادي سياسي جديد أكثر حنكة وأكثر قسوة ولكن بوجوه "ديموقراطية" لم نعھد مخاتلاتھا بعد. ماھي الأسباب الجوھرية لإنبثاق الربيع العربي؟ وھنا انا معني فقط بالحركات الاجتماعية الحقيقية، المسحوقة تحت ثقل كل أنواع الاستبداد. ولا يعنيني أي جانب آخر. مذ ّكراً بان من ھذه المجتمعات الفقيرة تكونت بؤر شديدة التعصب وشديدة التخلف ولّدت العديد من الحركات الراديكالية. ھذا الوضع ھو ما إستدعى الحكومات الى تبرير زيادة عنف القمع والاستبداد. ويبقى الامر ھنا في دوامة جھنمية، تدور في حلقة مفرغة، بين الفقر والحرمان والطموح الإنساني نحو حياة كريمة من جھة وبين إستغلال ھذه الظروف من قبل ايديولوجيات وأفكار متعصبة من جھة أخرى ثم الدورة الأخيرة في زيادة القمع والاستبداد على كل المستويات. الم يكن كل ھذا ھو العبث بعينه، ثم أليس في ذلك شيئاً ھاماً من سيزيف؟ ولنبدأ إذن بالنظر الى الواقع العربي من منظور الشباب. ولنأخذ مثالاً لشاب أنھى تواً دراسته الجامعية خلال العقدين المنصرمين فقط: ماذا يحدث له بعد ذلك؟ في معظم البلدان العربية ليس ھناك أدنى ضمانة بان ھذا الشاب سيتمكن من الحصول على فرصة للعمل، ناھيك عن أمر التحاقه بعمل ضمن إختصاص دراسته. لأن الحكومات، كما القطاع الخاص، غير قادرين على توفير فرص عمل لملايين من الشباب الذين يدخلون، في كل عام، في طابور إنتظار على أبواب سوق العمل. أي ان ھذا الشاب ( وھو كناية عن ملايين في المجتمعات العربية) لن يتمكن من أن يحصل على دخل ثابت، وھذا يعني أن تتسرب كل أحلامه الأخرى في الاستقلال المالي وما يتبع ذلك من سكن وزواج وغير ذلك من طموحات ومشاريع. بمعنى آخر، أن المستقبل لم يعد موجودا بافكار، وأحلام وحتى مفردات ھذا الشاب. أحساس شديد الخطورة على الصعيدين الفردي والمجتمعي، ويتزايد، لدى ملايين الشباب، الإحساس بإلظلم، كما يتزايد الإحساس بخيبة الأمل و "بالغُبن". ثم إدراكھم المفجع للغياب المأساوي والقاسي لمعايير العدالة في المجتمع. إضافة الى أن وضعھم المھمش داخل المجتمع يزيد من معاناتھم اليومية من الاستبداد والھيمنة الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، والثقافية، لذلك فان أعين الشباب تتجه صوب الخيار الأول وھو عبور الحدود نحو بلد آخر " يمنحھم المعنى المنشود لحياتھم". ھدف الخروج اذن البحث عن مستقبل مفقود في بلد الموطن. إنما حين تبدأ آفاق الأمل بالإختفاء، عند ھؤلاء الشباب، يبدأ تدريجيا الشعور باللامبالاة و اللاأمل (اللاأمل في فكر كامو لايعني اليأس مطلقاً) ويتزايد ھذا الإحساس، خاصة تحت ضغوط القمع الاقتصادي والسياسي وحتى المجتمعي. ھنا يبدأ قبول الحياة وقبول الواقع من منظور سيزيفي بحت، أي القبول بھذه الحياة وبھذا الواقع من أجل التحدي. ولھذا الشعور أنماط سلوك غالبا ما تكون معاكسة لبروتوكول وأنساق المجتمع ورغباته. لنتذكر بأن ھذا الأحساس برمته ھو "العبث". يتكّون البروتوكول الاجتماعي، عادة، من مجموعة كتالوجات لفظية وسلوكية واخلاقية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السلوك الأخلاقي وقيم الأخلاق تختلف بإختلاف المجتمعات وإن حافظت على الأسس الإنسانية الأولى لأن " كل الاخلاق تقوم على فكرة أن الفعل له عواقب تضفي عليه الشرعية أو تلغيه". 11 لھذا فإن ادراك ابعاد تفاصيل كل كتالوج من ھذه، ثم التعّمق في الإدراك الى ان يستحيل ذلك الى "وعي" صافي وواضح، ليس فقط لفھم أعماق ھذا البروتوكول، بل لتوجيه ذلك الوعي الإنساني الى أعماق ذاته. ومن مرآة ھذه الذات ينعكس الإحساس المفجع بان الحبل السري بينه وبين العالم قد أنقطع. ھذا الانقطاع يُغذي الوعي بالخيارات المحدودة التي تفرزھا الحياة، وبالعرقلة الشديدة في التماشي مع أنساق البروتوكول الاجتماعي بكل تنوعاتھ وتقييداتھ. "فھل نستطيع، بعيداً عن المقدّس وقيمه المطلقة، أن نجد قاعدة للسلوك؟ ھذا ھو السؤال الذي تطرحه الثورة" 12 قد يتأتى "الوعي" من التفكير والتأمل الطويل لمجرى الحياة اليومية، ولكنه قد يأتي أيضاً، بجدحة (قدحة) فكر تزيد من عمق الإدراك لما ھو رتيب ويومي، ويزيد من خواء الأيام المتشابھة والتي لاتحمل إلاّ تكرارھا في كل مرة. إنبثاقاً من ھذا الوعي ستنشأ خصومة حادة بين الفرد والنسق الاجتماعي العام قد يُحيل الفرد الى إنسان غير متجاوب مع تفاصيل الحياة اليومية، ويُركن في زوايا سلبية أو ھامشية من حركة المجتمع. اما الانسان الذي أستيقظ على ذلك "الوعي"الصافي فھو الذي ينشأ لديه "الحّس العبثي" لإنه لايتعامل بسلبية مع أنساق المجتمع بل يمھد أجوبته بسلسة من التفاعلات السلوكية والفكرية والأخلاقية التي تسمح له ليس فقط برفض ماھو سائد إجتماعياً، بل للتمرد على أنساق ذلك المجتمع ثم، أخيرا، الى شحن الإرادة الملحة للتغيير، أي الى الثورة . والثورة، عند كامو، لا تأخذ شكلاً عنيفاً، بل حالة من حالات التفاوض مع الحياة العبثية. (أشير ھنا الى مفھوم الثورة في مسرحية العادلون). ھنا يتحول كل شاب من المجتمعات العربية، وبھذا الصفاء والوعي، وبھذه المواصفات، الى سيزيف حداثوي يُمارس عليه حكماً قاسيا بتحييده من دورة الحياة ولكنه يقبل التحدي من أجل بناء حياة جديدة ليس له فقط بل و للمجتمع. يقول كامو " أنا أثور ( أو أتمرد ) إذن نحن موجودون. ( ثم يضيف ) ونحن وحيدون". 13 وبالعودة الى حالة الربيع العربي، فاني أشير ھنا الى المثال المفجع الأبرز ھنا، فيما أعتقد، وھو محمد البوعزيزي، بائع الخضار، التونسي، المتجول بعربته. وھو الانسان الذي لم يتمكن من إيجاد عمل يُعيل به نفسه وأسرته فاضطر الى سلك ھذا المسلك من الاقتصاد غير الرسمي، والمسمى أيضاً بالقطاع الاقتصادي غير المنظم، والذي يكون ممنوعاً بقوة القانون، فالدولة تُمارس حالة من حالات الإقصاء الاقتصادي، أي الأبارتايد الاقتصادي، ضد مواطنيھا الفقراء الذين لايملكون الوسائل لتسوية أوضاعھم قانونيا، وفي نفس الوقت لا تتبنى الحكومة أية تشريعات قانونية تسمح بإدماج ھذا القطاع، غير الرسمي، ضمن دورة الاقتصاد، أو على الأقل التغاضي عنه، خاصة وأنه يمثل مصدر عيش لعدد كبير من العائلات الفقيرة في معظم المجتمعات العربية. الحكومات في المنطقة العربية، وبضغط كبير من منظمات البرتون وود (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرھم) مھتمة بتعزيز ثوابت النظام الرأسمالي، بشكل تدريجي، في مجتمعات لا تمتلك المعايير لذلك. بمقابل ذلك تتقلص ھوامش الحريات بخديعة الانتخابات والديموقراطية التي تبدو في ھذه المجتمعات إنتقائية الى حدّ بعيد. لم يكن البوعزيزي مھتماً بالسياسة، ولم يكن لديه ترف الوقت للاھتمام بذلك، فھو بالتأكيد ليس ناشطاً سياسيا، ولا ناشطا إجتماعياً، تحت أي بند كان، ولا يحلم بالديمقراطية، ولاتعنيه الانتخابات، فھو معني فقط بحريته في العمل، وبالكسب الذي يمكنه وعائلته من العيش بكرامة. البوعزيزي أختار "التحدي من أجل الحياة"، ولكن قوانين الدولة منعته من ذلك، فسقطت من البوعزيزي كل الخيارات التي يعرفھا، ووجد نفسه وجھا لوجه مع حياته المفّرغة من المعنى، فقرر أن يتمرد على ذلك، ولكن بشكل سلبي تام هذه المرّة، فإنھى حياتھ بأن أحرق نفسه في شتاء ذلك اليوم البارد من السابع عشر من ديسمبر (كانون الأول) عام 2010 منھياً بذلك مشاريعه في العيش. العيش ضمن الھامش الذي تسمح به السلطات. الشاب محمد البوعزيزي ليس وحيداً في مجتمعاتنا العربية، فمثله ملايين على إمتداد الجغرافية العربية. إنما يبقى محمد البوعزيزي مختلف عن الجميع، لانه كان الثائر الأول والذي ضّحى بحياته، فحينما أوقد النار بنفسه، أشعل، في ذات الوقت، حرائق لن تطفأ داخلً المجتمعات العربية المختلفة. وكان بلا أدنى شك حالة سيزيفية مجھضة، غير أنه كان أيضا وبوضوح "سبارتاكوس" الربيع العربي. ھنا، انا أعتقد بأن الجزء الحقيقي والفعّال والّنظيف مما سمي " بالربيع العربي" ھو مشاركة ھؤلاء الشباب فيه. الشباب الذين تملكھم ھذا الإدراك وھذا الوعي لواقع بلدانھم وسعيھم لتغيير الحال، أي التعامل مع المعنى ال ُمغيب للحياة عبر ماتوفر لھم من آفاق من خلال مختلف حركات وإحتجاجات الربيع، ذلك الربيع المجھض عربياً. لإن "ليست كل قيمة تؤدي الى التمّرد، ولكن كل حركة تمّرد تستدعي ضمنياً قيمة ما". 14 فقد إعتادت المجتمعات العربية أن تفرز معارضات سياسية على قياس الحكومات التي تعارضھا، ولذلك فإن الغالبية العظمى من حركات المعارضة العربية ھي أسوء فعليّاً من الحكومات، لانھا لا تملك أية رؤية مستقبلية حقيقية لتنمية المجتمع. وھكذا، فإن الشروع بالتمرد من قبل الشباب، في ھذه الحالة، مثّل الانتفاض على إحساسھم اليومي بكونھم "الضحية". وبدأت، تدريجياً، تتصاغر مشاعر و أحاسيس عُقد التدّني والنقص، التي فرضھا المجتمع على الشباب بسبب غياب العدالة، وتعويضھا بالحس بالعُليّة وبالمساواة. ھذه المغامرة لا تُحسب بنتائجھا, بل بالموقف السيزيفي للشباب المتمرد "فليست الثورة في حدّ ذاتھا ھي النبيلة، بل ما تسعى اليه، حتى لو كانت النتائج متواضعة". 15 ولذلك فقد كان الدخول في ھذه المغامرة من قبل الشباب، بوعي ما، والاستمرار بھذه المغامرة، بغض النظر الى اين ستقود، فعلياً. لأن ذلك ش ّكل لديھم، بالنھاية، فعل الوجود. لانھم كانوا في ساحات الاعتصام أحياء، ويمارسون وجودھم ببساطة. إحساس إختلسه منھم المجتمع. "إن الثورة المھانة، بتناقضاتھا، وآلامھا، وھزائمھا المتجددة، وكبرياءھا الذي لا يعرف الكلل، يجب أن تعطي مضمونھا من الألم والأمل لھذه الطبيعة (البشرية) ". 16 كانت إحتجاجات الربيع العربي بالنسبة للشباب بمثابة حركة تمرد لعبور الحدود. ليس المقصود ھنا الحدود الجغرافية للبلد، وإنما عبور حدود الحياة التي سعوا للوصول اليھا، حدود للعبور نحو تحقيق الطموح وتثبيت الحلم. لم يبحث ھؤلاء الشباب عن ربيع جديد، يُنشأ لھم أحلاماً مستحيلة، بل أرادوا ان يكونوا، ھم انفسھم، عاملاً لتغيير واقع الحال، من واقع التھميش واللامبالاة الذي كانوا يعيشونه الى واقع تحريضي وثوري. أي نحو واقع يحمل آفاق مستقبل لحياة جديرة بأن تعاش. وأن تعاش بشغف وبكثافة. "لا أعرف ما إذا كان لھذا العالم معنى يتجاوزه. لكنني أعلم أنني لا أعرف ھذا المعنى، وأنھ من المستحيل بالنسبة لي في الوقت الحالي معرفته. ماذا يعني لي ذلك خارج حالتي؟ لا أستطيع أن أفھم إلا من منظور إنساني. ما ألمسه ، ما يقاومني ، ھذا ما أفھمه. وھاتين الحقيقتين يفتحا ، شھيتي للمطلق، وعدم اختزال ھذا العالم إلى مبدأ عقلاني ومبدأ معقول ، ما زلت أعلم أنني لا أستطيع التوفيق بينھما. " 17 . بتعبير آخر، كانت لھؤلاء الشباب محاولة لخلق فردوسھم الأرضي بعيدا عن الأفكار الميتافيزيقية او الأحلام الطوباوية. لم يجدوا ھامش من الحريات يتّسع لطموحاتھم، ولا لآمالھم، بل لم يكن ھناك فسحة لممارسة حياتھم. لذلك، وبالوعي والإدراك الصافي الذي أحرزوه، فقد قاوم ھؤلاء الشباب كّل الحلول المؤقتة. مقاومة تنطوي على رفض كل "المسكنات" الأخلاقية والدينية والقانونية التي ُتُجبر الانسان على قبول الواقع بمآسيه دون القدرة على التم ّسك بالمبادئ والأخلاق الأساسية التي تمنح العزم والقوة لتحدي ماھو قائم من أجل الشروع بالأمل بمستقبل أفضل. فالعبث يتصالح مع الحياة بالقبول، ولكن ھذا القبول مشروط بالقدرة على الرفض والجرأة في التحدي. أعتقد أيضا بأن الامر ينحى قليلاً عن العمق الفكري ويتجھ نحو سلوكيات مثقلة بمجموعة الأخلاق والمبادئ. وھنا يذكر كامو بأنه " لا يمكن وضع الأخلاق موضع المناقشة، فقد رأيت الناس يتصرفون بشكل سيئ مع الكثير من الأخلاق، وأجد كل يوم أن الصدق لا يحتاج الى قواعد" 18 ولن أسترسل أكثر في نتائج ھذا المثال فنحن نعيش ھذه الوُقائع اليوم. ثم إن الأھمية بالنسبة لي، ليس الربيع العربي بذاته، بل محّركاته الرئيسية التي أطفأت. أي الشباب. وفي الختام، لم يكن الربيع العربي سوى إحتفال بحجم الوطن. احتفال مع كراسي مستعارة، تقابل مسرح ھائل بانتظار ان ترفع الستارة، ولم تُرفع. وجمھور يأتي للمرة الأولى متخم بالفقراء وبشباب متعب من البحث عن فرص عمل. يغادر الجمھور، كما الجميع أماكنھم، ويعود الفقراء بعيون حمراء الى بيوتھم. ثم جاء غيرھم ليستعيد الكراسي التي كان بعضھا مقلوبا، والبعض الاخر محطماً وترك على البعض الاخر قناني صودا فارغة لمشروبات أمريكية، وبقايا أقنعة ممزقة. وكاُنت الارضيّة بإكملھا تحمل مخلّفات من ھّزة أرضية عنيفة وشديدة الانفجار، لم تحدث، فقد أجھضت في ھذا المكان قبل ان يغادر المحتفلون. الم تكن ھذه صورة شديدة المرارة، وشديدة الواقعية ونقية "للعبث"؟ أم أنھا إحد وجوه الفشل الذي يُعانيه التمرد حين لم يكن الوعي مستكملاً شروطه؟ ******** 1. 1 ھذا الجزء من الفقرة كُتب بتصرف بالاعتماد على النص الأصلي في أسطورة سيزيف: "يحدث ان يتھدّم المشھد، النھوض، الباص، أربع ساعات في المكتب أو في المصنع، وجبة الطعام، الباص، أربع ساعات من العمل، وجبة الطعام، نوم، الاثنين، الثلاثاء، الأربعاء، الخميس، الجمعة، السبت، طبقاً للنسق نفسھ." Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 20 . 2 Albert CAMUS, Le Mythe De Sisyphe, Ed : Gallimard Page : 26 3 Idem Page : 34 4 Albert Camus, Caligula --- scène IV --- Edition Folio Théâtre Page : 46 5 Albert Camus, L’Homme Révolté--- Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page : 16 6 Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 60 7 Albert Camus, L’Homme Révolté--- Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page :29 8 Herbert R. Lottman, Albert Camus, EdItion du Seuil, Page : 91. 9 Idem, Page: 161. 10 الكاتب والروائي الجزائري "واسيني الأعرج" في مقالھ البير كامو، موت الجزائر الأخرى والمنشور في جريدة القدس العربي في 22 سبتمبر/أيلول 2020 11 Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 64 12 Albert Camus, L’Homme Révolté--- Ed : Gallimard, Collection : NRF. Page : 29 13 Idem, Page: 112 14 Idem, Page: 22 15 Idem, Page: 109 16 Idem, Page: 260 17 Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 50. 18 Albert CAMUS, Le Mythe de Sisyphe, Ed : Gallimard. Page : 63 ---
#علي_ماجد_شبو (هاشتاغ)
Ali_M._Shabou#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قضية مؤلمة
-
قراءة في مسرحية -ميدان القمقم- للدكتور سامح مهران
-
المسرح النسويّ: المسرح في المؤنث والمذكر
-
الديموقراطية والسعي نحو السراب
-
نظرة في المهرجانات المسرحية العربية
-
الثقافة بين العولمة والكوْرنة
-
رحلة المهرجانات المسرحية من كرفان الفرح الى بيداء التباعد ال
...
-
نحو إسستراتيجية ثقافية عربية
-
مابعد الحداثة وسيرة أيام لم تولد بعد
-
البحث عن الشمال في الجنوب
-
العراق: ثورة الكرامة بين إرث الماضي وهزالة الحاضر
-
إشكاليات الهوية في المسرح العربي
-
ملاحظات حول إصلاحات الرؤساء الثلاث
-
التحرير الامريكي ينتهي في ساحات التحرير العراقية.
-
العراق: محاولة للفهم ... -تمرد- أولاد سيزيف.
المزيد.....
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|