طلال الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 6920 - 2021 / 6 / 6 - 02:44
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ثم هناك فرانز لانجر - مرة أخرى، ليس مجرد مثال - الذي أصبح تابعًا لمجموعة شوتزبوند (منظمة اشتراكية ديمقراطية شبه عسكرية). في عام 1934، فر إلى تشيكوسلوفاكيا بعد المعركة ضد الفاشيين النمساويين في فيينا - أوتاكرينج، وهناك انضم إلى الحزب الشيوعي. في عام 1938، تم القبض عليه وترحيله من موسكو إلى ألمانيا في عام 1940؛ في يونيو من ذلك العام، جنده الجيش الألماني. في مارس 1945، تمكن من الفرار وظهر في فيينا، حيث سيقيم لاحقًا اتصالات مع الجيش الأحمر ويقاتل معه ضد النازيين ووحدات فولكسشتورم الخاصة بهم . 6 (Volkssturm كانت ميلشيات شعبية نازية. ط.ا.)
التقلبات الجنونية، التقلبات المتعددة، التي تحدث - بطرق متميزة تمامًا ولكنها ليست غير ذات صلة - في الاتجاه المعاكس، في حياة أسرى الحرب السوفييت المحتجزين في معسكرات السخرة الألمانية، الذين تم اعتقالهم عند إطلاق سراحهم من قبل NKVD (وزارة الداخلية السوفيتية. ط.ا) وحكم عليهم مرة أخرى بالعمل القسري، هذه المرة في المعسكرات السوفيتية. إنهم عالقون بين التروس، مهاجرون غير قادرين على الهجرة، يتدفقون عبر القارات, مطحونون في تروس القوى العظمى، التي اسنانها تقضمهم كأسنان فم لوجه تجمد في تكشيرة لابشر!
لم يتم إطلاق سراح جميع مناهضي الفاشية الذين تم ترحيلهم بعد استجوابهم للعمل من أجل القضية الألمانية أو للقتال كجنود. أوامر الجستابو تستبعد أولئك الذين "كانوا مناضلين ماركسيين نشطين قبل الهجرة ، والذين شاركوا في الأنشطة السياسية في الاتحاد السوفيتي، والذين حرضوا ضد ألمانيا، أو الذين استمروا في التمسك بمعتقداتهم الشيوعية" وكذلك "من هم من اليهود". بالنسبة لهؤلاء الناس، كان مصيرهم "العودة" إلى السجون والأحياء اليهودية، إلى معسكرات الاعتقال والإبادة. فقط عدد قليل منهم بقي على قيد الحياة. البقية سيموتون هناك. في لوبلين، في نوينغامي وموتهاوزن، في أوشفيتز ومايدانيك.
تسافر هذه القطارات عائدة من روسيا الاشتراكية إلى ألمانيا الاشتراكية الوطنية. في الاتجاه المعاكس للقطار المغلق الذي جلب لينين، قبل عقود، إلى بتروغراد لشن ثورة. هنا ينتهي التقدم المتواصل، الذي كان يهدف إلى دفع التاريخ نحو الشيوعية، بقفزة حتمية من الثورة الأولى في عام 1917 إلى الثورة الثانية، ثم إلى الثورة العالمية. ليس في منتصف الطريق - كم كان ذلك لطيفًا - ليس في البداية ولكن حتى قبل ذلك. في المعسكرات، من الطبيعي تقريبًا معسكرات العدو، ولكن أيضًا ، بشكل غير مفهوم، معسكرات الحلفاء. خيانة مزدوجة. خيانة مناهضة الفاشية، خيانة الشيوعية - نادراً ما تكون الاولى دون الثانية، ولن تحصل على الثانية بدون الأولى. لكن قبل كل شيء، خيانة رفيق شيوعي لرفيق شيوعي آخر. يقدمون رفاقهم لقمة سائغة لأولئك الذين قاتلوا ضدهم الجزء الأكبر من حياتهم منذ عام 1918 فصاعدًا، والذي شكل محور سخطهم السياسي، وتمت خيانتهم من قبل أولئك الذين كرسوا حياتهم من أجلهم، والذين كانوا على استعداد للتضحية بحياتهم من أجلهم. بدون اسم يموتون، بدون صراع، معظمهم، ليس عند المتاريس، ولكن في خلفها، في سجون موسكو، في أعماق السهول السيبيرية، في المعسكرات الألمانية. تحسبوا الموت، الموت المبكر والعنيف. لكنهم لا يموتون الآن من أجل الثورة، ولا من أجل الشيوعية، إذا كان هذا الشيء موجودًا. بالنسبة لهم، لن تكون هناك أية شيوعية. لا شيوعية بالنسبة لهم. لا شيوعية بدونهم. لن تكون هناك أية شيوعية بدونهم.
هؤلاء القتلى الذين قادهم المناهضون للشيوعية إلى ساحة المعركة مجهولون، وإذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة، فمن المرجح أن يرفض العديد منهم أن يتم قيادتهم. الموتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
لكن كيف لنا أن نتذكرهم؟ كيف نتذكر أولئك الذين لم يبق منهم سوى القليل لنتذكرهم؟ وفوق كل شيء، مع مَن نتذكرهم؟ إلى مَن ندق ناقوس الخطر، مَن سنحذر أو لمن سنلجأ للمساعدة؟ من سنادي باسم العدالة المؤجلة، التي فات اوانها، باسم حزبيين مخلصين خانهم الحزب؟ مع مَن نشاطر حزننا على المفقودين، المقتولين، الثوار المهجورين؟ المهجورين في عربات القطار، المختبئن في بلد آخر، الذين تعرضوا للخيانة في معسكرات الاعتقال، والمحتجزين في شقق صغيرة في موسكو، في زنازين السجن، في معسكرات العمل في سيبيريا. لم يتبق لهم حلفاء، ولا أصدقاء عبر الحدود، ولا زملاء مقاتلين، ولا رفاق في الوطن، ولا أحد يحيي فيهم بصيصا من الأمل. مع مَن نشاركهم وحدتهم؟ على الأقل. على الأقل لنقدم لهم الرفقة الخيالية والرفقة المتأخرة.
في اللحظة التي ينتظرون فيها الاعتقال، على سبيل المثال، تم اشعارهم باختفاء بعض رفاقهم، أولئك الذين كانوا ينتقدون أولاً، كما قد يبدو في البداية. ربما تم إبلاغهم بالمحاكمات الاستعراضية العظيمة، التي ربما لم يعودوا يميلون إلى تبريرها كما يفعل المثقفون الشيوعيون الرئيسيون في أماكن أخرى, بريخت Brecht (رائد المسرح الملحمي التغريبي او اللاارسطي-ألمانيا .ط.ا)، فويختوانجر Feuchtwanger. (كاتب روايات ومسرحي الماني اثر كثيرا على بريخت. ط.ا)، بعد أن بدأوا يخافونها الآن. استشعروا الخطر، ربما، من خلال اعتقال بعض الأقارب، مما أدى إلى فقدانهم عضويتهم في الحزب، والدعم الذي تلقوه كضحايا لاضطهاد قوات الجستابو، وعملهم، ومنزلهم. لم يعودوا يجلسون في شقق جديدة ومضاءة، المبنية بحسابات إنسانية، أو في المباني الكبيرة على الطرقات المشحرة. بدلاً من ذلك، يقوم كل منهم الآن بتأجير غرفة تعصف بها الرياح، سرير في المطبخ بجوار فرن الفحم. لم يعد يجلسوا في فندق لوكس-فخم، الذي كان يؤوي رفاق الأممية الشيوعية، مع رفاق من جميع أنحاء العالم. بدلاً من ذلك، يجلسون في الفناء الخلفي، في كوخ قديم مظلم يُعرف باسم جناح نيب (لا استطيع بعد البحث تأكيد علاقة هذه التسمية بالسياسات الاقتصادية المعروفة بنفس الاسم. ط.ا.). الرفاق الذين ظلوا أصدقاء معهم لم يعودوا يحيونهم؛ بدلاً من ذلك، يخفضون أعينهم عندما يصادفونهم في الشارع ويعبرون إلى الجانب الآخر، انه الاحتقار، وقبل كل شيء الخوف.
كان من المفترض أن يكونوا محاطين بالأصدقاء: كل جار هو رفيق، وهذا ما كان يجب أن يتخيلونه. أخيرًا، الانتماء إلى شيء أكبر من مجموعة منبوذين، غير واثقين من الناس في الشارع، من الجيران او على منضدة العمل, ومن المتسوقين في المتاجر. لا داعي للاختباء بعد الآن، مثل رفاقهم في ألمانيا ويوغوسلافيا وبولندا وإيطاليا، بالطريقة التي اختبأوا بها أيضًا، منذ وقت ليس ببعيد؛ لا مزيد من قراءة الكتب في السر، وإخفائها بعناية خلف الأغلفة اللاصقة؛ لا مزيد من التطمينات الممنوحة للسلطات البغيضة في الاعترافات العامة 7. الآن (الصورة. ط.ا.) معلقة على الحائط - أو ربما لم تعد كذلك، لأنهم قد خمّنوا بالفعل بحتمية اعتقالهم الوشيك ويرفضون مرة أخرى، عبثًا هذه المرة، أن ينحنوا - صورة الرفيق العظيم. ربما يقف المرء بعد ظهر أحد الأيام في وقت مبكر من عام 1939، بعد الجلوس لفترة طويلة صامتًا على طاولة المطبخ، ثم ينتقل إلى الصورة المؤطرة الوحيدة في الغرفة ذات الأثاث المبعثر، وينزلها إلى الأسفل. من المحتمل أن يمسكها باليد لفترة وجيزة، كما لو كان يبحث عن شيء ما، كما لو كان يعتقد أن هناك شيئًا يمكنه العثور عليه، ويقلبها ويضعها بعناية بجوار المغسلة. لم يعد لديه القوة لإيماءات الغضب العظيمة. في هذا الوقت تقريبًا، تخترق أشعة الضوء النافذة الضيقة وتسقط بخجل على الخزانة، على خطوط الجدران العارية تمامًا الآن. لا يزال المربع الأبيض مرئيًا على ورق الحائط الملطخ بالسواد بفعل فرن الفحم الرخيص بمداخنه المسدودة إلى الأبد: فراغ زاوي، مساحة خالية على ما يبدو تنتظر شاغلا جديدًا. لا ينبغي لأحد أن يملأها - هذا واضح الآن، بعد فوات الأوان - لا ينبغي أن يكون المربع الأبيض نفسه موجودًا على الإطلاق.
حتى أولئك المخلصين للمرشد الأعلى للحزب، حتى أكثرهم حماسة من الستالينيين، نادرًا ما يكونون في مأمن من الاعتقال. دون محاكمة، يتم إدانة الموقوفين من قبل قاضي التحقيق، وانتزاع اعترافاتهم تحت التعذيب. تتحدث الاتهامات عن "انحراف" فاشي، أو موقف نقدي من سياسة الكومنترن، أو علاقات تآمرية واسعة مع السلطات الاشتراكية الوطنية، أو التجسس (المواد 58، الأقسام 6 ، 9 ، 10 ، 11 من قانون العقوبات في روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفياتية)، التعاطف مع ألمانيا النازية، الدولة التي أعلن جميعهم تقريبًا أنهم مستعدون للقتال ضدها في بداية الحرب، إلى جانب الجيش الأحمر, أو, الأفضل من ذلك كأعضاء في الجيش.
يتبع
-------
المصدران
6. Steinberger, Nathan, and Barbara Broggini. Berlin, Moskau, Kolyma und zurück. Ein biographisches Gesprä--------ch über Stalinismus und Antisemitismus. Berlin, 1996
(شتاينبرغر وناثان وباربرا بروجيني. برلين وموسكو وكوليما والعودة. محادثة عن السيرة الذاتية حول الستالينية ومعاداة السامية. برلين، 1996)
7. Weiss, Peter. Die Ä--------sthetik des Widerstands. Frankfurt, 1977
(فايس، بيتر. جماليات المقاومة. فرانكفورت، 1977)
#طلال_الربيعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟