اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 6912 - 2021 / 5 / 29 - 18:42
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثر الحديث مؤخراً على مواقع وقنوات البروباغاندا الداعشية كقناة الجزيرة وغيرها من القنوات والمواقع المستفيدة من بث الجهل والانحطاط العقلي والفكري في عقول شعوب بول البعير , فكرة أو كذبة تم الترويج لها بشكل ضخم في محاولة لتلميع صورة الدولة العثمانية والخلافة الداعشية الساقطة , وهذه الكذبة تتعلّق بمجاعة أيرلندا 1845 – 1852 , والتي راح ضحيتها حوالي المليون شخص تقريباً بسبب إصابة المحصول الزراعي من البطاطا بمرض نباتي يسمى باللفحة المتأخرة (late blight) , حيث أفسد هذا الفيروس أو المرض مئات المحاصيل الزراعية في أيرلندا والتي كان يعتمد شعبها بشكل رئيسي على البطاطا ومحصولها من حيث الغذاء والتجارة , وللأسطورة الداعشية المنتشرة اليوم المتعلقة بالسلطان العثماني عبد المجيد الأول 3 أكاذيب كبيرة سنفضحها في هذا المقال , فأولها هو أن السلطان أراد ارسال مبلغ 10000 جنيه لكنه تراجع عن ذلك لأن الملكة فكتوريا أرسلت فقط 2000 وإرسال مبلغ أعلى منها يعتبر اهانة دبلوماسية , وثانيها هي أن بريطانيا قامت بمنع المساعدات من الدخول لأيرلندا وأغلقت الجزيرة ببحريتها , وثالثها أن السلطان "الحنون" أرسل 3 سفن اخترقت الحصار وأوصلت المساعدات من الطعام لمدن أيرلندا وأهمها مدينة دروغيدا أو (Drogheda) والتي جعلت شعارها هلالاً ونجمة لتمجيد ذلك العمل , وأن هذه المساعدات أنقذت أيرلندا من المجاعة والموت المؤكّد بفضل حنّية وروعة السلطان والخليفة الدعدوش اللطيف !!!
ولكن هل هذه هي الحقيقة ؟ طبعاً لا وألف لا , فالحقيقة وراء هذه الأسطورة مختفية وراء بروباغاندا داعشية ضخمة من جهات عربية وتركية , وحتى أيرلندية والتي تحاول تشويه صورة بريطانيا في مناورات سياسية سخيفة يمكن تفنيدها بساعات قليلة من البحث والتدقيق ,حيث تم طرح القصة لأول مرة من قبل القوميين الأيرلنديين عام 1851 وبعد ذلك تطورت قليلاً لتصبح أن السلطان التركي أرسل المساعدة عندما لم تفعل الحكومة البريطانية ذلك ,واستقرت على هذا الحال حتى قام بارنيل , زعيم الحزب البرلماني الأيرلندي , بجولة لجمع التبرعات في الولايات المتحدة في عام 1880 بتطوير القصّة وطرح الأكاذيب الثلاث المذكورة آنفاً في محاولة لشيطنة بريطانيا ووضعها في موضع أسوأ من التركي الذي عُرف عنه الاجرام والمجازر في تلك الفترة , فهي في الواقع شيطنة لبريطانيا أكثر منها تمجيد لإنسانية مصطنعة للعثمانيين.
⚫ولنبدأ بالكذبة الأولى , وهي أن الدعدوش عبد المجيد أراد ارسال 10000 جنيه ولكنه تراجع وأرسل 1000 فقط لكي لا يهين الملكة فكتوريا التي أرسلت 2000...
وهي أيضاً كذبة ممتدة من أقاويل بارنيل بشأن تبرع الملكة فيكتوريا حيث ادعى أنها تبرعت بمبلغ 5 جنيهات إسترلينية فقط وهو نفس المبلغ الذي قدمته لكلابها. ولكن في الواقع , كانت الملكة أكبر متبرع فردي بمبلغ 2000 جنيه إسترليني بينما أعطى زوجها 500 جنيه إسترليني وقدم العديد من الأقارب ما بين 500 و 1000 جنيه إسترليني لكل منهم والتي تعادل مبالغ بالملايين اليوم , وكذبة الـ 5 جنيهات إسترلينية كانت ولا تزال شائعة على نطاق واسع في أيرلندا , لذا من الناحية السياسية فهي تساوي الملايين لأي قومجي أيرلندي اليوم , فالحقيقة في ذلك الوقت أن الملكة تبرّعت من مالها الخاص , إضافة الى ذلك فقد أمرت بجمع تبرعات ضخمة من جميع أنحاء المملكة المتحدة وخارجها. حيث تم جمع مئات الآلاف من المساعدات من جميع أنحاء إنجلترا. وأرسلت مدينة كلكتا وحدها في أحد السجلّات 14000 جنيه إسترليني , إضافة الى إرسال العديد من الأجانب المساعدة أيضًا , بدعوة من الملكة ونشر لأخبار المجاعة في أوربا , ومن جملة المتبرعين كان السلطان عبد المجيد , فهو فعلياً تبرّع ب1000 جنيه , وهذا كان أقل مبلغ عليه القيمة يمكن إرساله كحركة تضامنية ودبلوماسية قام بها وأكثر العديد من الحكّام في ذلك الوقت ولم تكن خارجة عن المألوف أو العرف الدولي.
وأمّا فكرة أن السلطان أراد ارسال مبلغ أكبر ولكنه تراجع عن ذلك فهي كذبة ليس لها أي أساس تاريخي , ففي ورقة بحث قيّمة قدمها مايك داش الكاتب والباحث الويلزي يقول "أن مقولة أن السلطان كان ينوي منح 10000 جنيه إسترليني للأيرلنديين المنكوبين بالمجاعة , لكن السفير الإنجليزي , اللورد كاولي (هنري ويليسلي) ردعه , لأن جلالة الملكة التي كانت قد اشتركت بمبلغ 1000 جنيه إسترليني فقط , كانت ستنزعج لو قدّم أجنبي مبلغًا أكبر , هي مقولة غير صحيحة لسببين , أولهما أن الملكة تبرّعت بمبلغ 2000 وكانت تحفّز الجميع للتبرّع بأي مبلغ كان لإغاثة ايرلندا , وثانيهما أن اللورد كاولي (هنري ويليسلي) كان سفير بريطانيا في فرنسا لمدة 15 عامًا من عام 1847 حيث أنه لم يذهب إلى تركيا مطلقًا في حياته" فلم يلتق لا بسلطان ولا هم يحزنون , والادعاء التاريخي هذا باطل , ولا دليل على نيّة السلطان بإرسال 10000 جنيه على الإطلاق.
وهذا رابط الورقة البحثية لمايك داش لمن يريد الاضطلاع...https://mikedashhistory.com/2014/12/29/queen-victorias-5-the-strange-tale-of-turkish-aid-to-ireland-during-the-great-famine/
⚫والآن لننتقل لتفنيد الكذبة الثانية وهي أن بريطانيا قامت بمنع المساعدات من الدخول لأيرلندا وأغلقت الجزيرة ببحريتها , وهذه كذبة واضحة المعالم ولا تتطلّب الكثير لتفنيدها , حيث أن بريطانيا في أثناء المجاعة اتبعت سياسة اقتصادية محافظة على السوق والتجارة , وشجّعت السفن للدخول الى أيرلندا والتجارة في تلك الجزيرة في محاولة من الحكومة البريطانية لإدخال أكبر قدر ممكن من الطعام للجزيرة دون العبث أو تخريب حركة التجارة البريطانية , وهذه السياسة طبعاً كانت سياسة فاشلة وسيئة ولم تُظهر أي نتائج على المدى القصير والمرجو , وهذا ما دفع الحكومة لجمع التبرّعات بشكل واسع , ودخول أو وصلو سفن إغاثة من أي دولة أجنبية كان ليتم تسجيله وتأريخه لو حصل فعلاً من أي جهة كانت حتى لو لم تذكره الجهات البريطانية الرسمية , وهذا التسجيل أو التأريخ لسفن إغاثة تركية أو غير تركية غير موجود على الإطلاق , مع العلم أن المؤرخين والكتّاب في ذلك الوقت سجّلوا أحداثاً أتفه من وصول سفن إغاثة , ولكانوا قد سجّلوا أي شيء مماثل وخلّدوه بشكل لا يترك مجالاً للشك.
⚫وأما الكذبة الثالثة , أن السلطان أرسل 3 سفن تحمل المساعدات من الطعام لمدن أيرلندا وأهمها مدينة دروغيدا , فهي بعيدة كل البعد عن أي حقيقة أو تاريخ , وهي كسابقاتها من أكاذيب مجرد بروباغاندا وهراء , حيث أن الموانئ الأيرلندية كانت في ذلك الوقت تسجّل أي سفينة تدخل وتخرج منها , ولا وجود لأي سفن إغاثة تركية في أي مدينة من تلك المدن الساحلية , ولكن (سنلحق الكذّاب لورى الباب كما نقول في سوريا) والكذبة الأساسية تذكر أن السفن دخلت من ميناء دروغيدا وعبرت النهر موزّعة للطعام للعامّة والجياع رغم الحصار البريطاني الذي فنّدناه آنفاً... ولكن سجلات ميناء دروغيدا فُقدت مع مرور الزمن ودُمِّرَت , لذا لا تتوفر الوثائق الرسمية حول وصول أي سفن أجنبية لذلك الميناء , ولكن السجلات الرسمية ليست هي المصدر الوحيد لأي مؤرّخ محترم , حيث تولى المؤرخ الويلزي مايك داش (المذكور بحثه آنفاً) عناء البحث في صحف دروغيدا خلال سنوات المجاعة.
وكان الإبلاغ عن تحركات السفن وحمولاتها معلومات استثنائية ومهمّة للتجار المحليين حيث نُشرت على أوسع نطاق نظراً لسياسة تحفيز التجارة المفتوحة التي اتبعتها بريطانيا لحل المجاعة كما ذكرنا , حيث بحث مايك داش في أوراق دروغيدا وأشار إلى أن وصول أي سفينة غير بريطانية كان أمرًا استثنائيًا. وفي الواقع , وخلال فترة المجاعة , تم تسجيل ثلاث سفن أجنبية فقط في ذلك الميناء. من بينها , كانت سفينة بروسية واثنان من مقاطعات كانت آنذاك جزء من الإمبراطورية العثمانية , وكانتا تحملان الطعام والمنتجات الزراعية.
ولكن هذا كل مافي الأمر , والأنكى من ذلك أن السفينتين اللتين جائتا من الأراضي التركية لم تكن توزع شحناتها مجانًا. فعلى العكس تماماً !! كانت هناك انتقادات قوية من الصحف المحلية آنذاك أن الطعام قد تم استيراده كمشروع تجاري , بعبارة أخرى , كان استغلالاً تجارياً لسوق يتضور جوعاً سيدفع أضعاف الأسعار من أجل حفنة قمح أو حبّة بطاطا !!
وفي 2006 وإضافة لهذه المهزلة قامت رئيسة أيرلندا ماري ماكاليز بتبهير القصّة بشكل أكبر أثناء زيارتها لتركيا , حيث روجت للأكاذيب والتخريفات السابقة , لا بل أضافت عليها أن مدينة دروغيدا اتخذت الهلال والنجمة شعاراً لها تيمناً بالموقف العثماني الملفّق أصلاً , ولكن ما أن أنهت رحلتها حتى نسف المؤرخون المحليون تلك الكذبة مشيرين إلى أن الهلال والنجم كانا جزءاً من شعار دروغيدا منذ أن حصلت على ميثاقها من ملك إنجلترا جون في القرن الثالث عشر الميلادي , ولا علاقة لهذا الشعار لا بسفن تركية أسطورية ولا بالمجاعة.
⚫وختاماً يتضح لنا مدى العبث بالتاريخ والهراء والتخريف لخدمة مصالح سياسية معينة سوائاً أكانت مصالح داعشية تركية , أم مصالح أيرلندية قومجية , كلها قامت باختلاق مجموعة من الأكاذيب والتفاهات التي يمكن فضحها ببعض البحث والتمحيص , حيث تم تحويل تبرّع متواضع من سلطان البهائم وخليفة الدواعش الى أسطورة وعمل خيري أنقذ دولة بأكملها من المجاعة !!!
وطبعاً هذا ليس بخساً أو تحقيراً لذلك التبرّع , ولكنه نزع للتمجيد الأعمى والفارغ والذي يخدم مصالح الدواعش البهائم اليوم الذين يسعون بشكل بائس لتلميع صورة دين بول البعير وإعادة استفراغ قذارات الخلافة الداعشية التي يشهد التاريخ ضدها وضد صفحاتها السوداء التي تقطر دماً وإرهاباً , وأتمنى أن تضعوا هذا المقال في وجه أي أحمق يروّج لهذه الأكاذيب والخرافات , حيث لم ولن نسمح بأي تدليس ديني مهما كان مخفياً وبسيطاً بأن يدعم الخرافة والدجل الديني والارهاب الاسلامي بأي طريقة كانت أو على أي صعيد ومستوى.
وأعتذر على طول المقال , ولكنني أردت الإلمام بجميع زوايا هذا الموضوع ودحض هذه الخرافة والأكذوبة المنتشرة , بشكل حاسم والى الأبد.
المصادر : Charity and the Great Hunger in Ireland: The Kindness of Strangers by Christine Kinealy
Empire: How Britain Made the Modern World , by Niall Ferguson.
https://mikedashhistory.com/2014/12/29/queen-victorias-5-the-strange-tale-of-turkish-aid-to-ireland-during-the-great-famine/
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟