|
بعض صور الزهو الفلسطيني
نهاد ابو غوش
(Nihad Abughosh)
الحوار المتمدن-العدد: 6912 - 2021 / 5 / 29 - 12:40
المحور:
القضية الفلسطينية
بدا المشهد مفارقا إلى حد كبير، شاب ملتح يعتلي كتفي زميل له في مظاهرة، ويهتف بصوت قوي "حط السيف قبال السيف ونحن رجال محمد الضيف" فترد عليه بالهتاف عينه عشرات الحناجر الناعمة لصبايا حاسرات الرأس في الغالب، ويرتدين زيّهن المدرسي،، الذي يشير إلى إحدى المدارس المسيحية الخاصة في مدينة رام الله. ومحمد ضيف هو القائد الأسطوري، السري والغامض، لكتائب الشهيد عز الدين القسام التابعة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خليفة المهندس يحيى عياش في قيادة الفصيل العسكري الأكبر عددا وتسليحا في قطاع غزة. نادرة جدا هي صور الضيف المنشورة، وهذا ليس اسمه الحقيقي بل صفته لكثرة تردده على بيوت رفاقه في تنقلاته ومساعيه للاختفاء. وقد وصفته المصادر الاستخبارية الإسرائيلية بأنه رجل بسبعة أرواح، وهو المطلوب الأول لهذه الأجهزة منذ سنوات بعيدة، نجا من خمس محاولات اغتيال على الأقل، وقد أعادت المواجهات الأخيرة تقديمه بوصفه الشخص صاحب الكلمة الفصل في الموقف الفلسطيني وتحديدا في عمليات إطلاق الصواريخ على الأهداف والتجمعات الإسرائيلية، وهو الذي أشغل إسرائيل ببياناته المقتضبة ومواعيده الدقيقة وتهديداته التي سرعان ما تتحول إلى حقائق. وإلى جانب ضيف المكنى بأبي خالد، برز ايضا الناطق الإعلامي للكتائب "أبو عبيدة" الذي خطف الأضواء هو الآخر بلغته الفصيحة وبياناته اليومية الموجزة حيث قدم نموذجا متميزا في البلاغة والإيجاز، وفي المصداقية كما في تكتيكات الحرب النفسية الحديثة. تزامنت معركة المقاومة في غزة مع معارك في كل ساحات الاشتباط الأخرى، في القدس والضفة والقرى والبلدات والمدن المختلطة في مناطق 1948 ومخيمات اللجوء في الأردن وسوريا ولبنان، وفي بلدان المهجر. مظاهرة رام الله المشار لها آنفا كانت واحدة من عشرات المظاهرات التي جرت في المدينة كغيرها من مدن الضفة وفلسطين بشكل عام، والتي كانت تنتظم بدعوة من فصيل، أو حراك شبابي، أو حتى ارتجالا بمبادرة من تلاميذ المدارس، شكلت تعبيرا عفويا عن حالة فلسطينية غير مسبوقة من الزهو والاعتزاز والثقة بالنفس، فللمرة الأولى منذ النكبة يتحد الفلسطينيون في كل أماكن تواجدهم، ميدانيا وليس وجدانيا فقط، على رفض نتائج النكبة، ويؤكدون من جديد وحدتهم كشعب، ويخرجون من صورة الضحية إلى كونهم ندّا قادرا على التأثير وإيذاء الخصم وإرباكه، على الرغم من الفوارق الهائلة في موازين القوى والإمكانيات. مئات بل آلاف الفعاليات التي انتظمت في جميع أماكن الوجود الفلسطيني مثّلت استفتاء على خيار المقاومة، وليس بالضرورة على اللون السياسي والأيديولوجي للقوى التي تخوضها أو تقودها، بل باعتبار المقاومة خيارا كفاحيا رئيسيا، وقاطرة للحركة الوطنية الفلسطينية وأداة استنهاضها وانتشالها من حالة الشلل والركود كما انتشلت الكرامة الوطنية من الهاوية التي تردّت إليها خلال عقود أوسلو. ربما يرى البعض أن ثمة تسرعا أو مبالغة في الحديث عن "انتصار" ومظاهر الفرح والاحتفالات التي عمّت فلسطين وكثيرا من البلاد العربية، فالاحتلال ما زال جاثما على صدر الفلسطينيين ويتحكم في جميع تفاصيل حياتهم، والإنجاز الميداني بحاجة إلى أدوات سياسية موحدة لاستثماره. ولكن، ورغم كل ذلك، ثمة حالة معنوية لا يمكن إنكارها، إنها أشبه بانتصار الروح، وإعادة شحذ العزائم والهمم للقيام بفعاليات يومية حتى لو كانت رمزية، وسيادة الشعور بالكرامة، وسيطرة مشاعر التضامن والوحدة، واستعادة ألق الهوية الوطنية الجامعة للفلسطينيين التي فشلت كل محاولات التجزئة والتفتيت والتقسيم في طمسها او تذويبها. كثيرة هي مظاهر الفرح الشعبي الغامر، من مظاهرات ليلية رتّبت على عجل، وتوزيع للحلوى، إلى إطلاق المقذوفات النارية، وتكبيرات في المساجد، وتبادل للتهاني على أوسع نطاق ممكن، لكنها جميعا مظاهر فرحة حقيقية وليست مفتعلة ولم تكن بطلب من زعيم او تنظيم. وقبل إعلان التهدئة انتشر على وسائل التواصل مقطع صغير يلخص المشهد: طفل لا يتعدى الثامنة، يمشي واثقا في حواري القدس العتيقة وسط مجموعة من المستوطنين ويقول لهم باعتزاز لا مزيد عليه" قصفناكم!" ساهمت في رسم هذه الصورة كثير من العوامل أهمها إنجازات المقاومة وحاضنتها الشعبية العريضة، وصمود الناس العاديين وصبرهم وخاصة الضحايا، إلى جانب بطولات فردية لا حصر لها وأبرزها تصدي الشبان المقدسيين للاحتلال وجنوده ولمجموعات المستوطنين المتطرفين المسلحة. كما تفتقت قرائح الفلسطينيين العاديين وأذهانهم عن أشكال إبداعية وخلاقة ساهمت في عرض روايتهم، وإيصال صوتهم وصورهم ومعاناتهم إلى العالم أجمع، من ذلك مثلا الشاب العشريني محمد الكرد الذي يعدّ هو وأسرته من الضحايا المباشرين لعمليات التطهير العرقي في الشيخ جراح، فقد قدّم دفاعا سياسيا وقانونيا مبهرا عن قضيته وبلغة إنجليزية متميزة على شاشة السي.إن.إن، وحظيت المقابلة بمتابعة مئات آلاف المشاهدين وإعجاب الآلاف منهم ما دفع بعضهم إلى المطالبة بتعيينه وزيرا لخارجية فلسطين، كما برزت طفلة من غزة في العاشرة من عمرها تدعى نادين، فقد تحدثت وهي إلى جوار أطلال البنايات المهدمة بلغة إنجليزية لتشرح عجزها عن فعل شيء أمام آلة الدمار والقتل الإسرائيلية، ولكنها في الحقيقة فعلت الكثير إذ أوصلت أصوات الضحايا الفلسطينيين لملايين المتابعين في العالم. المعركة الأخيرة استنفرت طاقات كامنة، وذكّرت ملايين الفلسطينيين في الشتات والمهجر بوطنهم وهويتهم، وأسهم كل فرد بنصيبه في هذا المجهود الوطني والإنساني، من عارضة الأزياء العالمية بيلا حديد إلى شاب يلاحق الجنود في البيرة بمقلاعه، ومن صبية تغني للثورة في ساحات باب العامود، إلى فنانين ومثقفين وأكاديميين يجمعون العرائض في مدن أوروبا واميركا أو رجال أعمال يجمعون التبرعات، أعادت هذه المعركة تقديم عضو الكونغرس الفلسطينية الأصل رشيدة طليب، بصورة مغايرة عما ظهرت عليه خلال السنوات الأربع السابقة، فقد ظهرت رشيدة خلال خطابها في الكونغرس فلسطينية واثقة ومعتزة بأصولها وبالشعب الذي تحدّرت منه، وهي التي قالت من دون تردد "لن نعتذر عن نضالنا ضد الاضطهاد" ثم أكملت وهي تختنق بالدموع مخاطبة جدتها بالعامية الفلسطينية المكسرة" ستي أنا من شانك واكف هان" وجدتها "مفتية" هي كل فلسطيني ما زال متمسكا بأرضه ووطنه. وهكذا اتحدت أصوات المقاتلين في غزة مع أصوات ضحايا الهجمات الإسرائيلية في القدس ومناطق 48 والضفة، مع ممثلي الجاليات وكل الفلسطينيين وأنصارهم، لترسم لوحة زاهية عن وحدة الفلسطينيين وتمسكهم بحقوقهم الوطنية، ولعل المشهد باتساعه وغناه وتنوّعه يعبر عن لحظة تحول فارقة، وانعطاف نوعي، في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، ولعل أَولى أولويات هذا التحول هو جسر الفجوة العريضة بين مستوى الأداء الكفاحي العالي وحجم التضحيات الهائل، وبين مستوى الأداء السياسي الهابط.
#نهاد_ابو_غوش (هاشتاغ)
Nihad_Abughosh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكشف عن مجازر مروعة ارتكبتها العصابات الصهيونية خلال النكبة
-
بعض دروس الحرب الرابعة على غزة
-
معركة فلسطين ما زالت مفتوحة ومستمرة
-
رسائل من السجن
-
الحرب الإسرائيلية الرابعة على غزة وتغيير قواعد الاشتباك
-
عن التحولات العاصفة في فلسطين واستحقاقاتها
-
ثلاثة أطوار للحركة الوطنية الفلسطينية خلال قرن من الصراع
-
القدس بؤرة الصراع
-
هبة القدس وتباشير التجديد للحركة الوطنية الفلسطينية
-
ترشيد المقاومة
-
فصول من معركة القدس المفتوحة
-
حول الإعدامات الميدانية وعمليات القتل خارج نطاق القانون
-
في اليوم العالمي للحرية الصحافة: المجد لنجوم فلسطين الساطعة
-
الشعب يتمسك بالقدس ويريد الانتخابات
-
المسافة بعيدة بين المصالحة وإنهاء الانقسام
-
واقعية خيار حل السلطة
-
القمع مسلحا بالغباء
-
نتنياهو وصعوبة مهمته في تشكيل حكومة
-
إسرائيل وموقفها من الانتخابات الفلسطينية 3
-
إسرائيل وموقفها من الانتخابات الفلسطينية 2
المزيد.....
-
معالجات Qualcomm القادمة تحدث نقلة نوعية في عالم الحواسب
-
ألمانيا تصنع سفن استطلاع عسكرية من جيل جديد
-
المبادئ الغذائية الأساسية للمصابين بأمراض القلب والأوعية الد
...
-
-كلنا أموات بعد 72 دقيقة-.. ضابط متقاعد ينصح بايدن بعدم التر
...
-
نتنياهو يعطل اتفاقا مع حماس إرضاء لبن غفير وسموتريتش
-
التحقيقات بمقتل الحاخام بالإمارات تستبعد تورط إيران
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|