|
طوفان من الحلوى في معبد الجماجم: للفن أيضا ذبائحه
شعيب حباسي
الحوار المتمدن-العدد: 6904 - 2021 / 5 / 20 - 21:21
المحور:
الادب والفن
طوفان من الحلوى في معبد الجماجم ملحمة من السرد للروائية أم الزين بن شيخة نسجتها على شاكلة احتجاج رافض لأوضاع وطن حزين صار على شفا جرف هار تحاصره ثقوب سوداء. وصممتها انتصارا لثورة مذبوحة لازالت تبحث عن رأسها أو هي كما تصفها الكاتبة «ثورة ميتة لا أحد عثر على جثتها بعد». ثورة بلون زهرة ياسمين اجتث التتار بريقها وصادر عبيرها وامتص رحيقها فسقطت مغميا عليها في حقل الذاكرة. تتار ودمار وسراديب من نار حطبها البشر قدت من جهنم. وأركاح لمسارح العبث المعولم حولت كوكب الأرض إلى تيتانيك ممزق ما فتئت عجلاته تزداد سرعة نحو الكارثة، تقوده البارونات والفيروسات والبالوعات وسكاكين القتل المقدس. جنود ورعاة ذبحوا قربانا لإله الموت وتدحرجت رؤوسهم على منحدر الجبل هناك حيث معبد الجماجم. طوفان من الدم ينساب كنهر عظيم بين جبلي مغيلة والشعانبي تحت أنظار أشباح القيامة، وأشجار الصنوبر الحزينة شاهدة على المجازر. عويل في كل مكان مخضب بدماء جرحى السماء، على أحلام الصباح المسروقة، على حقول القمح المحروقة، على جثث الكادحات، على شهداء الجماعات، على ضحايا الفيروسات. هكذا ينسحب المساء وقد جرفه طوفان من المرارة إلى ما وراء السديم وتحلق بومة منيرفا على مدائن الديستوبيا لتنذر بالخراب فتشد رواية أم الزين رحالها في مملكة الكلمات لتعلن أن صورة من صور الحياة قد شاخت وحان وقت انقضائها، وتصعد جبل السرد لتشطب غيوما سوداء تحتل الأفق وتفجر طوفانا من الحلوى. طوفان من الحلوى في معبد الجماجم رواية مركبة تتحاور فيها المتناقضات وتنتظم ذاتيا داخل مدار فوضوي يضم قصتين منفصلتين ومتصلتين في ذات الوقت، وكل قصة تكشف عن أبعاد متعددة. قصة كوشمار التي تروي جنون الإرهاب وقصة ميارى التي تروي جنون الفيروسات. كوشمار شخصية رمزية مركبة تملك تعددية في الهويات وتعددية في الهوايات فاسمه كوشمار وعبد الباقي وعماد وهو مختص في تاريخ الاغتيالات في الثقافة العربية والإسلامية ولكنه انتهى إلى رسام يحول الرؤوس المذبوحة إلى لوحات فنية داخل معبد الجماجم أو معبد الفن التشكيلي هناك حيث تشيد الروائية معبدا للسرد تطرح فيه جدلية الفن والإرهاب. أما ميارى فهي شخصية أدبية عابرة للروايات استعارتها الكاتبة من مسرحية السد لمحود المسعدي لتؤثث بها سدا أدبيا جديدا بنيت معالمه حجارة فوق حجارة ورصفت مقاصده عبارة فوق عبارة. «هي ميارى .. سقطت اعتباطا من سد ما حدث به أبو هريرة» لتحدثنا عن إحداثيات فيروس كورونا وقد انبثق من أفق اللامتوقع ليشن حربا كونية ضد البشر فصار بمثابة شبح أسود يسرق الحياة منهم خلسة ويحولهم إلى كيانات سردية. يقول جورج ويلز: «الرواية كيس يمكنك أن تضع فيه ما تشاء»، هكذا وضعت الكاتبة في روايتها تاريخ الوضع البشري ولخصت مأساة العصر الراهن في صرخات شخوصها وقد نهشتهم دروب العدم كما نهشت كلاب الجحيم لحم ديونزيوس لتقول لنا أننا نحن المنهوشين ونحن المعدومين ونحن من ألقى بهم إلاه النار في قلب الجحيم. جحيم كوشمار الذي نشأ في قرية السلاطنية على مشارف جبل مغيلة ومات أبوه وتركه يفكك لغز موته وحيدا دون أن يظفر بالحقيقة، وأحب ميارى ولكنها تركته يحرق الأرم ويحدق في الفراغ، وذبح الإرهاب إخوته الرعاة فحمل رؤوسهم في قلبه وذاكرته، وعكف إلى أمه تعد له الخبز من بقايا الذكريات ولكنها ماتت دون أن تودعه. وجحيم ميارى التي تخلى عنها زوجها وقتل فيروس كورونا أمها ياسمين فانتبذت مكانا في أطراف الرواية تقص علينا جنون الفيروسات الآدمية على ركح مجتمع متهافت حول الزواج إلى صفقة سياسية والحب إلى مقايضة اقتصادية أو هكذا حدث معها عندما أرغمها أبوها على الزواج من نائب في البرلمان موسوم بالفساد فتعثر الحب على حافة المحرقة وتحول إلى رماد. هي دكتورة مختصة في علم النفس «غير أنها بالرغم من أنها تدربت جيدا على شفاء المرضى وتحريرهم من أزماتهم النفسية، ومن أشكال الكآبة والذهان والعزلة.. فهي لم تستطع منذ أيام النوم.. وصارت تعاني من الوحدة والاكتئاب.. وأخيرا صارت تتألم من شعور غريب». هاهنا تكشف لنا الكاتبة من خلال شخصية ميارى جانب من التعقيد البشري لتقول لنا أن هذا الذي نسميه إنسانا إنما هو جملة من المتناقضات فهو مجد العالم وانحطاطه، مرمم خراب الكون وفي ذات الوقت مسكون بالخراب. ولكن هل يمكن لهذا الخراب أن يدمر ميارى؟ تقول الكاتبة «ميارى ولدت على ضفاف سد منيع يمكنها أن تعبر بسلام هذا الخراب الجميل» وهكذا هرعت ميارى إلى معبد الفن الروائي ترمم خرابها الخاص وتهيئ نفسها لميلاد جديد وطوفان من الحلوى. طوفان من الحلوى في معبد الجماجم هي طوفان من التهكم أيضا يحمل في تدفقه عنف الأدب والفلسفة معا ليخلخل الأصنام القديمة التي انتصبت في اللاوعي الجمعي لمجتمع غارق في سباته اللاهوتي إلى حد الهذيان. يقول جيل دولوز: «إن فلسفة لا تحزن أحدا ولا تضاد أحدا ليست بفلسفة» وهكذا صوبت الكاتبة رماح فلسفتها في قلب ثقافة ذكورية تسللت كالفيروس إلى شرايين المجتمع، ثقافة ارتكاسية عمياء كعماء أوديب تقلل من شأن النساء وتكاد أن تلقي بهن خارج النوع البشري. تقول الكاتبة: «سأبدد لغة الذكور بهذياني البهيج» وهكذا فهي تعلن الحرب ضد هذه الثقافة من خلال شخصية ميارى وبذلك فإن سقوط ميارى من سد المسعدي لم يكن سقوطا اعتباطيا بل كان إسقاطا ممنهجا أرادت به الكاتبة إسقاط فيروس السلف المبشر بالهيمنة الذكورية والذي تحول إلى هذيان منشد يصادر حرية النساء وقد وهبتهن الطبيعة حرية كاملة. فميارى لم تأت منفردة بل هي محملة بشخصيات نسائية أخرى تنام فيها سلفا، كأنما أتت لتخوض حربا جندرية تحرر تاء التأنيث من كل أشكال السطو الذكوري. تقول الكاتبة: «هي كل الربات والكادحات والأمهات.. منوبية وأم الزين الجمالية والكاهنة وزعرة ونجمة والخضراء وكل النساء اللائي عبرن من هنا بآلامهن وبأرواحهن، بضحكاتهن وبكفاحهن وبأطفالهن وبنهودهن وبسحرهن المدمر لهيمنة الذكور» يبدو إذن أن استحضار الكاتبة لهذه الرموز التاريخية النسوية إنما أرادت به أن تقول إن المرأة في هاته الربوع حرة منذ الأزمنة الغابرة في القدم. فاستحضارها للسيدة المنوبية إنما هو استحضار لتمرد قديم متجدد خاضته هذه المرأة في القرن الثالث عشر عندما حطمت زجاجة التقاليد، وتمردت على نواميس القبيلة، وتعلمت حينما كان تعليم المرأة مرفوض، واخترقت مجالس الذكور محاورة ومناقشة وتفوقت عليهمِ. واستحضارها لأم الزين الجمالية ليس لمجرد تشابه في الأسماء بل لما تميزت به هذه المرأة من قوة منقطعة النظير حيث تقول أسطورة القرن الثامن عشر أن الباي حمودة باشا لما بلغ إلى مسامعه شعبية أم الزين الجمالية والتفاف الناس حولها وتبركهم بها بعث في طلبها ولما حضرت عنده أمر برميها إلى الأسود وذهب في اليوم الموالي ليرى أثار دمائها ملطخة على الأرض ولكنه فوجئ حين وجدها تجلس هادئة والأسود جاثمة أمامها. واستحضارها لزعرة إنما هو تكريم وتخليد لروح زعرة السلطاني التي ذبح الإرهاب أبناءها ولكنها ظلت صامدة صمود الجبال حتى خبأها الموت في جوف الأرض ليحجب عنها الكارثة. واستحضارها للكاهنة أو "ديهيا" هو استحضار لامرأة قائدة محاربة تربعت على عرش الماضي وألقت بظلها على الحاضر لتستنهض همم شعب أضاع أمجاده ولم يبق له غير الضجيج. قال عنها ابن خلدون: «ديهيا فارسة الأمازيغ التي لم يأت بمثلها زمان كانت تركب حصانا وتسعى بين القوم من الأوراس إلى طرابلس تحمل السلاح لتدافع عن أرض أجدادها». الكاهنة بسيفين تقاتل والكاتبة بقلمين تجادل، قلم يسكب طوفان الحبر على وشي حاضر عنيد وقلم يطبق مدلولات اللغة على مستقبل سعيد. هاهنا تطرح الكاتبة مفارقة وجودية: كيف نؤسس لوجود حقيقي على أنقاض العدم؟ وحده الفن يأخذنا الى الضفة الأخرى حيث الفرح لازال ممكنا، يقول نيتشه «لنا الفن حتى لا تقتلنا الحقيقة». هكذا تقدم الروائية الفن كسلاح مقاوم يضاهي في قوته خوازيق الأزمنة المعاصرة ومضاد لشطحات العبث المعمم. معركة مع السأم خاضتها ميارى في رفوف الفن الروائي تبحث عن علاج لروحها المكلومة، وقضت وطرها بكتابات ألبرتو مورافيا ودستوفسكي. ومعركة الثأر للرؤوس المذبوحة خاضها الباحث الرسام مع الإرهاب فذبحهم داخل مرسمه بريشة وألوان. وهكذا انبنت الرواية على الذبح والذبح المضاد لتقول لنا أن للفن أيضا ذبائحه. يبدو أن تعددية أسماء الباحث الرسام في هاته الرواية ليست مجرد حذلقة لغوية بل تحمل دلالات ومقاصد، فاسم كوشمار يحيل على الكابوس والكابوس هو الواقع عينه وقد تحول إلى تراجيديا ملطخة بدماء أبرياء «دفنوا أجسادهم ولم تبق غير رؤوسهم معلقة في مرسم بعيد حذو الجبل» أما عماد فيحيل على الأعمدة المتينة التي ينبغي أن يقوم عليها صرح الحضارة الإنسانية لتتحرر من سيوف الذبح وتهاجر إلى مستقبل آمن جدير بالعيش. وعماد الحضارة هو الفن بوصفه مغامرة إنسانية مذهلة تذبح الرؤوس القديمة المحشوة بالقتل وتلهم العقول. وهكذا ألهمت لوحات عماد الفنان الخازوق وهو عنصر إرهابي رغب في أن يتعلم الرسم ولكنه قتل قبل ذلك. ولقد بينت الروائية من خلال شخصية الخازوق أن فن الرسم لا يشكل اللوحات فقط بل يشكل الإنسان أيضا، هامش بسيط حول بول كلي إلى فنان عظيم فلقد أهدته جدته وهو صغير أوراقا للرسم وأقلاما ملونة، وكان يمكن أن يحدث الأمر نفسه مع الخازوق ولكنه أتى متأخرا. أما عبد الباقي فيحيل على أن الفن هو أصل الوجود وسر الخلود فلقد وهب الرسام الرؤوس المقطوعة قوة العودة إلى الحياة عندما حولها إلى لوحات فنية خالدة تعد باستنبات أجسام جديدة، وغمر معبد الجماجم بطوفان من الحب عندما رسم لوحة فتاة الحلوى. طوفان من الحلوى في معبد الجماجم رواية بوجهين كالإله جانوس، وجه للموت ووجه للحياة يتراقصان على إيقاع سمفونية أزلية تنتصر دائما للحياة. قال هيراقليط: «إننا نحيا بواسطة الموت ونموت بواسطة الحياة» فكما تموت الخلايا وتتجدد تموت البشرية وتتجدد وهكذا قتلت الكاتبة كل شخوصها لتولد من موتهم حياة جديدة وأبقت على عبد الباقي ليحاكم القتلة داخل معبد الجماجم ويفجر من طوفان الدم طوفانا من الفرح ويشكل بريشته على جدار المرسم تاريخا جديدا للإنسانية.
#شعيب_حباسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنتدى الثقافي العربي ضيف الفنانة بان الحلي
-
من أساطير اليونان القديمة.. كريستوفر نولان يحضّر لفيلم ملحمي
...
-
“تسمم أفراد قبيلة الكاي“ تـــابـــع المؤسس عثمان الحلقة 176
...
-
وفاة الشاعر المغربي محمد عنيبة الحمري
-
تردد قناة روتانا سينما 2025 على النايل سات “اضبطها الآن“
-
بطلة -العميل- تعود إلى سوريا بعد غياب دام أكثر من 12 عاما (ف
...
-
رحيل المخرج الأسطوري شيام بينيغال تاركاً إرثًا خالدًا في تار
...
-
4 أفلام رسوم متحركة لا تفوتها مع أطفالك بإجازة نهاية العام
-
هيفاء وهبي وناصيف ودانييلا وفنانون يشاركون متابعيهم صورًا جد
...
-
هل أساء راغب علامة لنصر الله في مكالمته مع الفنان الإماراتي
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|