بشير الوندي
الحوار المتمدن-العدد: 6904 - 2021 / 5 / 20 - 08:33
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
مباحث في الاستخبارات (270)
الاخلاء والتهريب
-----------
مدخل
-----------
العمل الاستخباري عمل سري وخطير ولاسيما في جانبه العملياتي بكل اشكاله في ارض العدو من خلايا الى اوكار الى جواسيس , ويعد الحفاظ على حياة هؤلاء امر جوهري , لاسيما وان مسئلة كشفهم واردة دائماً , ومن ثمّ لابد ان تكون هنالك خطط بديلة لتهريب هؤلاء في اي وقت وتحت اي ظرف حفاظاً على حياتهم وعلى مايحملونه من اسرار, وهو ماسنتناوله في مبحثنا.
---------------------------
الحفاظ على الاسرار
---------------------------
تعتبرعمليات الانقاذ والتملص والتهريب والاخلاء من ابرز مهام عمليات الاستخبارات , وهي عمليات معقدة وخطيرة غير مضمونة النجاح , لكنها من العمليات الاضطرارية التي تلجأ لها الاجهزة الاستخبارية دوماً لتهريب او اخلاء مصدر او ضابط او عنصر امتثال في ارض اخرى او دولة اخرى او منطقة من البلاد قد يتعرض المعني للتهديد فيها.
وتختلف التوصيفات لتلك العمليات , فمنها ماهو اخلاء ومنها ماهو تهريب من السجون , كما انها تختلف بحسب الشخص او الاشخاص المراد تهريبهم , فقد يكون الاشخاص من عناصر الاستخبارات العاملين في الخارج او ان يكونوا من عملاء الاستخبارات من حاملي جنسية بلد العدو او من جنسية ثالثة .
وتختلف الغاية من الاخلاء او التهريب من حالة الى اخرى , ففي كثير من الاحيان تكون الحاجة الى هذا النوع من العمليات هو الحفاظ على حياة المعني بالتهريب من قبيل رجال الاستخبارات العاملين في بلد العدو او الجواسيس المهمين , ويتداخل هنا سبب جوهري آخر هو ان المستهدف بالتهريب قد يكون مفتاحاً للكثير من الاسرار والاسماء فلابد من الحرص على ان لايقع في قبضة العدو , وقد يكون الاشخاص الذين يتم تهريبهم من العناصر الارهابية او اعضاء المافيات المرتبطة بجهاز استخباري اجنبي وتحتاجهم استخبارات العدو في عمليات تصب في مصلحتها .
ومما سبق فإنَّ الهدف من التهريب والانقاذ هو حماية العناصر المهمه لحماية سرية المعلومات , فقد يكون الشخص القيم مصدراً مهماً في جانب العدو , او في مافيا دولية , او في مجموعة مسلحة , او خبير متفجرات , او ضابط استخبارات مخطوف من محطة خارجية , او طيار اوقعت طيارته , او دبلوماسي , او مدير شبكة , او ضابط امتثال , وغير ذلك , فالقيمة هنا تأتي من كونه مفتاح معلومات اي ان اعترافاته ستؤدي الى اضرار خطيرة , وغالبا ما يتم الانكار رسميا لعملية التهريب فيكون تفعيل جهد الانقاذ سراً(انظر مباحث في الاستخبارات 21 حماية المصدر) , وننبه هنا الى ان الاخلاء ليس حلاً يصلح لجميع العناصر , فاحيانا لاتخلي الاستخبارات شخص ما وتكتفي بنفي ارتباطه بها , اما ان كان الشخص ذو قيمة او عنصر قيم, فمثل هكذا اشخاص يتم التخطيط لعمليات انقاذ لهم.
------------------------
اساليب لاحصر لها
------------------------
ان عملية التهريب او التملص تبدأ باخفاء المطلوب وتزويده بوثائق مزورة والاستعانه بالادلاء في الحدود البرية او البحرية او بطائرة مروحية او بنعش ميت واية وسيلة اخرى , ولابد ان تتوافر لضابط الاستخبارات الميداني خطة اخلاء يزود بها سواء بتوجيهه لمقر آمن ومن ثم نقله خارج الحدود , او من خلال توفير مخبأ له للطواريء فيه الاموال وجواز سفر مزور ومؤون للكمون .
وقد تستعين الاستخبارات الدولية بالقواعد العسكرية المنتشرة في العالم ويكون هناك تعاون بين الاجهزة المتحالفة بهذا الصدد كثيرا , وفي بعض الاحيان يتم توجيه العنصر القيم باللجوء الى السفارة او القنصلية , وهي تستخدم اثناء مطاردة شخص او اختطافه او انهيار نظام او حدوث تمرد او محاولة اعتقال شخص او كشف شبكة تجسس وغير ذلك , وعلى العموم , فإنّ عملية الانقاذ والاخلاء تتم بشكل صامت وهادىء , واحياناً تكون صارخة و بتدخل عسكري من خلال مهاجمة مكان الاختطاف او الاعتقال بعنف , كحال التعامل مع المافيات في حال اعتقلت مصدر استخباري هام .
يتم الاخلاء والتهريب لشبكة كاملة من العناصر او ان يكون الاخلاء للشخص وعائلته احيانا, فتقوم اجهزة الاستخبارات بتسهيل عمليات هروب جماعي او فردي بشكل غير مباشر من خلال مستخدمين محليين لاطلاق سراح ارهابيبن او زعامات مافيا!! فالامر لا يقتصر على انقاذ المصادر والمتعاونين , وهو ما حصل في اماكن عدة ومنها العملية الكبيرة للهروب الجماعي لعناصر ارهابية قيادية من تنظيم داعش الارهابي من سجني التاجي وابو غريب بمخطط استخباري متقن تقف خلفه اجهزة دولية تمهيدا لاطلاق جهد داعش في المنطقة الغربية , وهو ماتكرر في عدة سجون في العراق بتدخل استخبارات دولية واقليمية .
ويتم في بعض الاحيان تشكيل فريق انقاذ من الاستخبارات والقوة الجوية والقوات الخاصة , كما حدث ايام معارك داعش حيث كان هناك سجن مؤمن تابع لداعش في بيجي , واعتقلت داعش فيه احد قاداتها الميدانيين ونقلته الى السجن بعد ان تأكدت انه كان مصدر معلومات للامريكان , وسرعان ما تم انزال جوي على سجن بيجي مستعينين بالقوات الخاصة لانقاذ الشخص (انظر مباحث في الاستخبارات 203 فريق العمل).
وهنالك حالات يتم فيها تدبير عملية هروب وهمية لهدف مهم لغرض الايقاع به او كشف شبكته او للمراقبة , فيتصور الهارب انه من فعل او نفذ العملية بالرشوة او تعاون شخص من حراس السجن , لكن الواقع انها اعمال مدبرة بدقة من قبل جهة استخبارية تريد تنفيذ مخطط ما من خلال اطلاق الشخص دون ان يعلم الغرض من تسهيل هروبه , فالاستخبارات تنظر الى السجون ككنز للمعلومات عكس ما تراه اجهزة الامن , لذا ترى الاستخبارات ان تهريب شخص من السجن بعلمه او بدون علمه قد يودي الى فائدة كبيرة (انظر مباحث في الاستخبارات 86 السجون).
واحيانا تحتال الاستخبارات على جهاز الشرطة وتقوم بتهريب شخص من مركز توقيف الشرطة لكونه مخبر عندها او تطلب نقل ملفه لها لكي تخلصه من قبضة الشرطة , وفي بعض الحالات يقوم الجيش بحملة عسكرية على منطقه متمردة او فيها عصيان , فتأتي الاستخبارات لانقاذ من يخصها من المعتقلين بأوامر من اعلى السلطات او بدعوى ان الشخص مطلوب عندها في قضية ما بغية انقاذه .
---------------------
عمليات تأريخية
---------------------
إبّان احتلال الالمان لفرنسا , تشكّلَت خلايا في فرنسا , وباقي المناطق التي احتلها الالمان خلال الحرب العالمية الثانية , مهمتها تقديم العون للطياريين وانقاذهم من الالمان , فبرغم ان لكل مصدر مهم او ضابط له ضابط ارتباط او محطة مرتبط بها الا انه يتلقى تدريبات للتأمين والتملص ويسلَّم رقم هاتف طوارىء ليستخدمه في حالات الخطر وفي حال تقطعت به السبل حيث يتصل ويخبر عن وضعه من انه كشف او مطارد او محاصر او انه سوف يقتل او اي متغير امني خطير كي يتحركوا لانقاذه.
من العمليات الدقيقة خلال الحرب العالمية الثانية هي غارة "غران ساسو" وهي عملية نوعيه كبيرة تحسب الى الاستخبارات الالمانية وخلاصتها ان المجمع الايطالي الفاشستي كان قد اطاح بموسيليني عام 1943 في اوج الحرب العالمية واعتقل في جزيرة ايطالية بسرية بالغة , فعمد هتلر الى انقاذه من معتقله واعادته للحكم في عملية استخبارية ومعونة القوات الخاصة الالمانية واعيد الى الحكم .
ومن امثلة الانقاذ التي باءت بالفشل ما حصل في العملية الشهيرة بعملية مخلب النسر لانقاذ الرهائن الامريكان في طهران الذين تم اعتقالهم في السفارة الامريكية بعد الثورة الايرانية عام 1979, فبعد فشل محاولات الولايات المتحدة للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن , قامت بعملية عسكرية لإنقاذهم في 24 إبريل نيسان 1980 ولكنها فشلت وأدت إلى تدمير طائرتين ومقتل ثمانية جنود أمريكيين وإيراني مدني واحد عند الهبوط في صحراء طبس.
وفي الفترة مابين عام 1990 الى 1992 تم انجاز الكثير من عمليات التهريب والتملص لبقايا جواسيس الحرب الباردة من الاتحاد السوفيتي شملت مجموعة كبيرة من علماء الفيزياء النووية , كما قامت الاستخبارات الامريكية بتنفيذ عمليات اخلاء لمجموعة من مصادرها في نظام صدام عند سقوط النظام عام 2003 ومنهم اخر رئيس جهاز مخابرات للنظام .
--------------------------------
"عروس" التهريب الاكبر!!
--------------------------------
من ابرز عمليات التهريب الاستخبارية هي عملية تهريب يهود الفلاشا من اثيوبيا الى الارض المحتلة عبر السودان على يد الموساد , ويهود الفلاشا او "يهود إثيوبيا" ينتمون لطائفة يطلق عليها "بيت إسرائيل"، أسطورتها بدأت عام 950 قبل الميلاد ، حيث تقول الاسطورة أن ملكة سبأ بلقيس تزوجت من الملك سليمان، وأنجبت ولداَ ثم عادت به إلى أفريقيا، وهؤلاء هم نسل ذاك المولود الصبي .
في السبعينيات شهدت أثيوبيا التي كات يحكمها "مانجستو هايلا ماريام" حرباً أهلية، فنزح الكثير من الاثيوبيين إلى السودان هرباً من المجاعة، وخوفاً من الاضطهاد، وكانت إسرائيل قد بدأت عمليات محدودة لتهريب يهود إثيوبيا تم فيها إخراج بعض الإثيوبيين بهويات مزيفة إلى بعض الدول الأوروبية، ومنها لإسرائيل , ولكن تبين أنهم انفقوا العديد من الأموال في مقابل تهريب العشرات فقط ؛ مما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي "مناحم بيجن" للتفكير في خدعة لتهريب أعداد كبيرة دفعة واحدة , وحانت الفرصة عام 1982.
فقد كان مستثمرون إيطاليون قد اقاموا في السودان منتجعاً على البحر الاحمر عام 1972 اسمه "عروس" ثم توقفوا لعدم وجود كهرباء ومياه أو حتى طريق للوصول للقرية , فقام عدد من عملاء الموساد عام 1982بالتظاهر بأنهم ممثلون لشركة سويسرية وهمية هي واجهة للموساد , وأقنعوا السلطات السودانية بأنهم يريدون الاستثمار في موقع القرية السياحية الايطالية المهجورة , وبالفعل استأجروها لمدة ثلاث سنوات مقابل 250 ألف دولار, يقول "جاد شيمرون" قائد العملية في كتابه "Mossad Exodus""اكتشفنا مجموعة رائعة من 15 فيلا خالية على الشاطئ، مع مطبخ وغرفة طعام بناها رجال الأعمال الإيطاليون قبل عقد من الزمان ".
اعادت الموساد بناء المنتجع ، وتم تزويده بمكيفات الهواء والمعدات الحديثة الخاصة بالرياضة المائية، وعندما أصبح المنتجع جاهز للعمل بدأوا في توزيع منشورسياحي للمنتجع: "عروس قرية سياحية على البحر الأحمر، منطقة رائعة لممارسة رياضة الغطس، ومركز للترفيه الصحراوي في السودان" , وكان المنشور مطبوعا بالآلاف وموزعا على الوكلاء السياحيين بأوروبا. وكانت الحجوزات تتم من خلال مكتب في جنيف وبمرور الوقت تدفق مئات الزوار على المنتجع. وكانت هيئة السياحة في السودان سعيدة بوجود المستثمرين الأوروبيين الذين عملوا بدورهم على جذب السياح الأجانب.
وشرع رجال الموساد بنقل اليهود الأثيوبيين على متن شاحنات من مخيمات اللاجئين إلى منطقة مجاورة للمنتجع، حيث كانت تنتظرهم قوارب تابعة للقوات الخاصة الإسرائيلية، ثم يجري نقل هؤلاء إلى سفينة إسرائيلية في عرض البحر , ونفذوا حتى مارس 1982 ثلاث عمليات من هذا النوع جرى فيها تهريب اكثر من ستة آلاف اثيوبي.
ومن وقت لآخر كانت مجموعة من العملاء تغادر القرية مبلغة الطاقم المحلي الذي تم توظيفه بأنهم ذاهبون للخرطوم بينما كانوا في الواقع يذهبون لتنفيذ عملية تهريب مجموعة من اليهود الإثيوبيين من المعسكرات ليقطعوا بهم طريقا طويلا يصل لنحو 900 كيلومتر مروراً حتى يصلون للشاطئ حيث تقوم وحدات من البحرية وأحيانا القوات الجوية الاسرائيلية بنقلهم.ويقول أحد العملاء: "كانت عملية خطرة. فلو تم كشف أي منا لانتهى بنا الأمر بإعدامنا في وسط الخرطوم".وحققت عروس نجاحا كبيراً لدرجة أنها باتت مكتفية اقتصاديا ولا تحتاج إلى الدعم المالي من الموساد وتم استخدام بعض عائدات المشروع في استئجار الشاحنات لتهريب اليهود الإثيوبيين.وكان من بين ضيوف "عروس" وحدة جيش مصرية وقوة بريطانية ودبلوماسيون أجانب من الخرطوم دون ان يشعر احد بانها ليست منتجعاً.
في مارس عام 1982 تم إطلاق النار على السفينة من دورية سودانية كانت تتابعهم في الوقت الذي كان فيه عملاء الموساد يحملون آخر مجموعة من الإثيوبيين على متن قارب مطاط يرسلهم للالتقاء بزورق بحري إسرائيلي ينتظر في المياه الدولية.فتبعتهم وحدة عسكرية سودانية معتقدين أنهم مهربون.
وبينما كانت الطلقات تطير فوق رؤوسهم، بدأ أحد الإسرائيليين يصرخ على الضابط السوداني المسؤول: "ماذا تفعل، أنت مجنون؟ هل فقدت عقلك لتطلق النار على السياح؟".ثم صاح العميل مهدداً ضابط الدورية بأنه سيشكوه إلى رئيس الأركان السوداني الذي ذكره بالاسم، ثم قال "ألا يمكنك أن ترى أننا ننظم الغوص ليلاً هنا للسياح؟ نحن نعمل في وزارة السياحة لجذب السياح من جميع أنحاء العالم لتعريفهم بجمال السودان، وكل ما يمكن أن يفعله الحمقى هو إطلاق النار علينا". ما جرى لاحقاً: نجح التكتيك وتلعثم الضابط وقدم اعتذاراً متلعثماً.
وفي يناير/كانون ثاني 1985 كُشف أمر العملية فتوقفت على الفور، فأصدر رئيس الموساد تعليماته بإخلاء المنتجع على الفور وهو ما تم في اليوم التالي , يقول أحد العملاء: "غادرنا القرية في عربتين إلى الشمال حيث التقطتنا طائرة شحن عسكرية من طراز سي 130 وأعادتنا إلى إسرائيل , لقد كان هناك سياح في القرية , استيقظوا في اليوم التالي ليجدوا أنفسهم لوحدهم في الصحراء"!!!!.
-------------
خلاصة
-------------
العمل الاستخباري عمل مغامر الا ان مغامراته ليست طائشة وانما محكومة بالتخطيط والتحسب للطواريء , وتزداد المخاطر حين يكون العمل في بيئة العدو , ومن ثم تعد الاجهزة الاستخبارية خططها البديلة وتدرب عناصرها وعملائها وجواسيسها الهامين على خطط الهروب عند الحاجة وتهيء لهم مستلزمات ذلك , وهو عمل محفوف بالمخاطر وغير مضمون دوماً الا انه هام جداً فالعاملون مع الاجهزة الاستخبارية هم بالنتيجة اوعية اسرار لابد من الحفاظ على ابوابها مغلقة وبعيدة عن متناول العدو , والله الموفق.
#بشير_الوندي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟