علي ديبة
الحوار المتمدن-العدد: 1633 - 2006 / 8 / 5 - 10:59
المحور:
كتابات ساخرة
حدثٌ عجيبٌ احتارت في أمرِه المؤسساتُ والوزارات ودوائرُ الأمن ، عُقِدت لأجله آلافُ الاجتماعات ، أسفرتْ عن عدد لا يحصى من المقترحات ، لماذا وكيف ؟ ما هي الأسباب ؟ من هو المسؤول ؟ أين هو التقصير ؟
بدايةً لم يكترثْ أحدٌ بالأمر ، هكذا تبدأُ الكوارث ، لا أحد يبالي بها حتى تستفحلَ، حينها تكثر الدراساتُ والتكهناتُ ، التوصياتُ , الظنُّ والاختبارات .. أما هذا الحدث ، فقد ظل لزمنٍ طويلٍ في الأدراج ، طيَّ الكتمان ..
حال طارئ ومستجد لفتَ انتباهَ طبيب مراقب ، وجد نفسَه أمام ستِ إصاباتٍ متماثلة في جناحهِ ، شخّص مرضاه ، تفحّص إصاباتِهِم ، وجدها أكثرَ من متشابهة، النتائجُ في جميع الحالات واحدة ، أما الأسباب فعلمُها عند الله والضالعين في العلم ، جميعُهم مصابون في ركبِهم ، الازرقاقُ عينهُ ، تمزق الغضروف ذاتُه، مستوى التسمم ، الأوجاع ، كلهم يعرجون عرجاً واحداً . صورةٌ واحدة قفزت خارجةً من رأسِهِ ، وقفتْ بين عينيه ، تخيَّلَ فيها أهلَ المدينة ، بل سكانَ البلادِ كلِّها يعرجون في مشيهِم .
جنَّ مديرُ المشفى من كلماتٍ قالها الطبيب المراقب ، صرخ بوجهِه :
- حجِرْ يا منظوم ؟! تصور حالَ الذعر إذا وصل هذا الخبر للناس ؟ بين أيدينا قليلٌ من المصابين ، قد تجد نفسك غداً أمام ألفِ أعرج..!؟
هاجس الخوف من العدوى تمكن من رأس الطبيب ، سارع إلى حُقنٍ ، ظنها تحميهِ من بلاء يجهلُهُ .
أربكت الأسابيعُ التاليةُ وزير الصحة ، شكا إليه مديرو الصحة ارتفاعاً في عدد الإصابات ، ماذا يفعل ؟ كيف يتصرف ؟ إلى متى يتكتمُ على هذا المرض اللعين؟ لماذا لا يطلبُ اجتماعاً للهيئةِ ، ويضع الحكومة أمام واجباتها ، فتنزاح عن كاهلهِ مسؤوليةً قد يتوجّعُ رأسُهُ من وقعِها ؟
في اجتماعٍ موسعٍ للهيئةِ ، بقي وزيرُ الصحةِ صامتاً ، ظل يحركُ كرسيَّهُ يميناً ويساراً ، كلمةٌ واحدةٌ خرجت به عن طورهِ . نهض كأن به مسّأ ، صرخ بالمجتمعين غاضباً :
- حجِرْ ؟! كيف فكرتم على هذا النحو ؟ فكروا بألسنٍ سوف تتهمنا ؟ بتحقيقات لن تنتهي؟ بما ستتناقلُهُ وكالاتُ الأنباء ؟ بسمعةٍ سيئةٍ قد تطالُ الدولةَ ؟ ربما قاطعتنا الدولُ االقريبة ، واستغلت مرضنا الممالكُ البعيدةُ ، مخافةَ انتقالِ العدوى إليها..فكروا يا سادة بما يساعدُنا على فهم هذا المرض واستيعابِهِ ، جندوا قواكُم لمعرفة أسبابهِ ، إنها سمعةُ الوطن ، مصيرُنا جميعاً بين أيديكم..
بقيت المشافي مشرعة الأبواب ، كلُّ شيءٍ عاديٌ ، ماعدا كماماتٍ التفّتْ أربطتُها حول رؤوس الأطباء والممرضات وسواهُم من الموظفين والعمال . لا أحد يعلمُ كيف تسرّبَ الخبرُ إلى خواص الناس وعوامهِم ، ولا كيف فسروه بشكلٍ مقلوبٍ . منهم من زعَم أن أدويةً أفسدَها التخزين ، كانت وراء ولادةِ جرثومٍ مجهول الهوية والتكوين ، آخرون أشاروا بأصابعهم إلى صفقاتٍ مشبوهةٍ قامت بها وزارةُ الصحة ، وتسابق السياسيون إلى اتهام شركاتٍ لا يهمُّها سوى الربحِ ، بزراعة فيروسٍ ما ، ومن ثم تصديرِه إلى بلادهم ..
تدخلت وسائطُ الإعلام ، حشرتْ أنفَها ، ركض إعلاميوها خلف كلماتٍ قيلت هنا، وعباراتٍ ترددت هناك ، اتفقت الآراءُ في جانبٍ ، واختلفت في جوانب أخرى ، كلٌ صار يغني على ليلاه ، هذا يحللُ ، وذاك يركّبُ ، بعضهم سعى وراءَ الأسباب ، وبعضٌ آخر أمسك بقليلٍ من النتائجِ . كذلك الحكومةُ , هي الأخرى هزّت أكتافَها، عقدت اجتماعاً استثنائياً وطارئاً لدراسةِ موقعِ هذا المرض وأخطاره على الصحة العامة .
توحّد رأيُ المجتمعين ، اتفقوا في خُطَبِهم وكلماتِهم ، أجمعوا على نكران الإصابةِ والتسترِ عليها، حرصاً على سمعةِ البلدِ ، كيف لا و مشافي المدنُ جميعُها لا تخلوا من مصابين في ركبهم ؟! من أين أتى هذا العرَجُ وكيف جاء ؟ أية جرثومةٍ خرقت أمنَ البلادِ ونالت من سكونِها وأمنِها ؟ ماذا يفعلون ؟ كيف يتصرفون للتستر على آفة توضعت في سيقانِ العباد . فكروا بفتح محجَرٍ سري في قفرٍ من صمت البراري ، بل اقترح أحدُهم ملمّحاً إلى إمكانية الخلاص من المصابين بذريعة ما .. وبقي سؤالٌ يتيم يطوف في فضاء حيرتِهم ، كيف يمنعون أولئك العُرج الخلقيين ، الذين ولدوا هكذا ، من التجول في شوارع المدينة ؟ حتى لا يختلطُ الحابلُ بالنابلِ ، وترى فيهِم منظمةُ الصحةِ العالمية إثباتاً ودليلاً على زعمٍ مازال قوامُهُ الشكَّ والظن..
توجهّت الحكومةُ إلى منظمة الصحة العالمية بكتابٍ شديد اللهجةِ ,استنكرتْ فيه اتهامَها بالتستر على ظاهرة غريبة ومبهمة ، ظاهرةٌ تحوِّل في طبيعة الجنس البشري تحولاتٍ مخالفةٍ لعلوم الأحياء , وسواها من نظريات النشوء والتطور والارتقاء..
في زمن لاحقٍ خففت الحكومةُ لهجتَها ، فقد تلقت عروضاً سرِّية من شركات غربية ضخمة لإنتاجِ الدواء ، شركاتٌ مهتمةٌ بالأمراضِ المستعصيةِ ، الساريةِ والمعدية , الظاهرة والخفية الطارئة ، أبدت فيها استعدادَها لدفع مبالغَ طائلةً لقاء خزعٍ وحقنٍ تأخذُها من المرضى المصابين في رُكَبِهم . كما تدفع نسبةً من أرباحِها بعد اكتشافِها هذا المرض ، وتصنيعِها الدواء واللقاحات الخاصة به .
فرحت الحكومةُ بربحٍ جاءها على بارد المستريح ، فرصةٌ غير متوقعة فتحت أمامَها باباً للخلاصِ من عجزٍ كبير في ميزانيتها ، سببهُ خسارةٌ دائمةٌ ، ونزفٌ لا يتوقفُ في مشاريعِها الاستثمارية والإنتاجية والاستهلاكية . خاف مستشاروها من عبث هذه الشركات ،من طمعٍ يسرق نصيب الدولة ، فتخرجُ من هذا المشروع الرابحِ صفرَ اليدين . ألح المسؤولون فيها ، أكثروا من الاستفسار والسؤال : أين هي نتائجُ البحوث ؟ كيف كانت نتائجُ الدراسات ؟ متى تنتهي ؟ نريد سلفةً ماليةً على الحساب ، مرضانا بحاجةٍ إلى مساعداتٍ تقيهُم شرَّ الفقرِ والعوَز ..
فشِلت مخابرُ تلك الشركات المهتمة فشلاً ذريعاً ، حار الباحثون فيها بأمر هذا المرض حيرةً ما بعدَها حيرة ، أدركوا حجمَ هزيمتهِم أمام عُصيَّةٍ لا تفسيرَ لفعلها، ولا دليلَ على وجودها، سوى تهتكٍ في غضاريف الرُّكَبِ المصابةِ . فكرت إداراتها بالاستقالةِ بعد خسارةٍ كبيرةٍ لحقت بخزائنِها . اتفق خبراؤها ومستشاروها على طعم جديد يُرمى في حلق هذه الحكومة ، علّهُ يسكتُها ويكسبُهم مزيداً من الوقت.
بسريةٍ تامة ، وسط إجراءاتٍ أمنيةٍ مشددة ، بعيداً عن الإعلام وفضائحِه ،عقدت الحكومة اجتماعاً طارئاً ، لِمَ لا وكشوفُ تلك الشركات وردت حاملة على صفحاتِها الغريبَ والعجيب ؟
وقف وزيرُ الصحةِ ، زرع نظراتِهِ في وجوهٍ تتطلعُ إليه ، قال بصوتٍ رصينٍ جادٍ:
- تلك الشركات تطالبُنا بحر بٍ نشنُها على الفجل ، إنها ترى فيه وسيطَاً وحاملاً وناقلاً لهذا الفيروس اللعين..
اتخذت الحكومةُ بالإجماعِ قراراً صارماً يمنعُ زراعةَ الفجل وبيعَهُ ، كما طلبت من أجهزتها الإدارية ، ومؤسساتِها الفاعلة ، تنظيم حملاتِ توعيةٍ ، تحذر الناسَ من تناولهِ سرأ ، أو حتى الاقتراب منه ..
سعى أولئك المديرون العاملون في أمرتِها إلى إثبات وجودهِم ، عمموا كتباً على فروعِهم ، والفروع استصدرت مذكراتٍ وأوامرَ إدارية ، انتهت بمسيراتٍ حاشدةٍ تحذرُ الشعبَ من الفجل ، العدو اللدود..
رغم كل هذا وذاك ، ورغم الإعلانات القماشية والجدارية ، واللوحات الخشبية والبلاستيكية واليافطات ، التي كلّفت الحكومة الملايين من عملتِها ، زاد الإقبالُ على الفجل ، صار سعرُ الفجلة الواحدة يساوي ثمنَ غرام من الذهب على السعر الحالي ، وليتَ الأمر اقتصر على ذلك ، أو توقفَ عند هذا الحد ، فقد احتل الفجلُ مقامَ السمك الفريدي والسلطاني وكبش العويس ، وتلاشت أمامَهُ صناديق الشمبانيا والويسكي والفودكا ، حتى صار من يمتلك ربطةَ فجلٍ كاملةٍ يمكنُهُ إدارةَ مؤسسةٍ وتوظيفَ من يشاء من عباد الله وخلقِهِ ، أو حتى نقلَ ابنهِ من الجبهاتِ البعيدةِ إلى حضنِ أمهِ ، وربما استطاعَ فكَّ الحبلِ من عنق المذنبِ وتعليقَ عنقِ البريء به..
وجدت تلك الشركات ، التي دسّت أنفها ، وأخذت على عاتقها الكشف عن أسباب هذا المرض ، بفوضى الحرب على الفجل فرصةً سانحةً . دفعت بعملائها وجواسيسِها وسياسيِّها، وسواهُم من الأطباء والباحثين والعلماء إلى داخل البلاد ، تمكنوا بما حملوه معهم من الفجل الطازج ، والفجل المحفوظٌ ، والمعلب ، من الدخول إلى ذلك المشفى، ومقابلةِ المرضى المصابين في رُكبهم .. لم يتركوا شاردةً تغيبُ عنهُم ، أو واردةً لا يعرفون من أمرها شيئاً ، استجوبوهم ، هددوهم بموتٍ يسكنُ مفاصلَ أجسادِهِم ، إن هم عادوا إلى بلادهم ، من غير حقيقة تفيد عرجَهُم الغريب.
أ مرٌ واحدٌ وجدوه مشتركاً بين المصابين ، جميعُهم شعروا بوخزةِ الألم الأولى أثناءَ سفرهم ، كلُّ واحدٍ منهم قال : رفعتُ فخذي ، أسندتُ ركبتي إلى ظهر مقعد الراكب الجالس أمامي طلباً لبعض الراحة ، شعرتُ بنصلٍ يخترقُ صابونتَها وينزلقُ داخلاً فيها .
عقدت الحكومة اجتماعاً طارئاً ، قال وزيرُ الصحةِ متشائماً :
- لا أدري ماذا أقولُ لكم عن هذه الشركات ؟ ولا بماذا أصفُها ؟ بالأمس دفعتنا إلى حربٍ على الفجل ، اليوم تطلب منا مراقبة البولمانات وتفتيشها، أنا لا أرى علاقةً تجمع هذا المرض ببولماناتٍ يركبُها آلافُ المسافرين يومياً ؟ ربما يطلبون منا في المستقبل نكشَ قبورِ أسلافِنا ، أو اقتلاعِ الأشجار المثمرة ، بحجة البحث عن فيروس لا يعلمون من أمره شيئاً ، لماذا لا نفكر نحن بمشكلتنا ؟ فلا نعطي لغيرنا هذه الفرصة الثمينة . دعونا نتعامل مع هذه الرُّكب المريضة على نحو ما ، نجري تجاربنا عليها وفق إمكاناتنا ، نحقنها بما هو متوفر لدينا ، لا نستثني حتى عصير البصل ، المهم أن لا نسمح لأحد بالتفكير عنا ..؟
أسئلةٌ صعبةٌ بقيت تدور في فضاء من الشكِ والريبةِ ، وضعتْ الحكومةَ في دوامةٍ من الحيرةِ والقلق . فكر رجالُها بشركات النقل والمنافسات بينها ، بدولٍ تخالفُها ، بأخرى تتفقُ معها ، بمن يفكر بتشويه سمعة الدولة ، دون فائدة ..
سارع رجالُ الأمن إلى حواسيبِ الشركات ، إلى أروماتِ التذاكر، اسمٌ واحدٌ تكرر ذهاباً وإياباً بعدد أيامِ السنةِ . وقف محمود العرجون بين أيديهم ، ارتعد أمام أسئلةٍ خطيرةٍ لم يحسبْ لها حساباً ، أخرج من جيبِ محفظتهِ إبرةً طويلةً ،تشبه المسلّة ، وضعَها أمام المحققين قائلاً : أنا مندوبُ ورْشةٍ لتصنيع الجرابات وتوزيعِها ، يشتعل رأسي غضباً في اليوم الواحد ما يزيد على عشر مرات ، من قليلي الذوق وعديمي الإحساس ، الذين يدفعون ظهر مقعدي بركبهِم ، وأقسم بالله العظيم ، أنني لم أتقصد أذيةً أو عاهةً ألحقُها بأحد ، لعل هذه الإبرة اللعينة ، التي كنت أدفعُ بها في ظهر كل مقعد أجلس عليه نكاية بهؤلاء الناقصين ، تحمل في رأسها ما تبحثون عنه..
أربكت الحقيقة أعصاب الحكومة ، لِمَ لا وقد فقدت مورداً ، كان سينقذها من التزامات كثيرة أخذتها على عاتقها . أعيدت تلك الإبرةَ إلى صاحبها ، أُطلق سراحَهُ ، رُفِعَ حظر التجول عن جميع العرجان المصابين والخلقيين، سُمح لهم بالظهور في طول الشوارع وعرضِها . أوعزت الحكومة لوسائطِها الإعلاميةِ والفضائية بنقلِ مشاهدَ حيةً ، لكل الذين يمشون برجلٍ ونصف ، آملة بعروضٍ تأتيها من شركاتٍ عملاقة تحرص على شكل الجنس البشري وتحافظُ على بقائِه..
#علي_ديبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟