|
معمودية الدم للبنان الجديد
أدمون صعب
الحوار المتمدن-العدد: 1633 - 2006 / 8 / 5 - 04:08
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
(...) ايتها الساكنة في لبنان، المعششة في الأرز، كم يُشفَقُ عليك عند اتيان المخاض، عليك الوجع كوالدة". (ارميا، الاصحاح الثاني والعشرون)
اغتنم حسين فرصة الهدوء النسبي بعدما امضى مع عائلته اياماً عصيبة في ملجأ حفروه تحت المنزل وغطّوه بلوح من الصفيح، فكدّس اولاده الصغار الخمسة في المقعد الخلفي لسيارة قديمة مهلهلة، بينما جلست زوجته في المقعد الامامي وفي حضنها طفل لم يتجاوز عمره الاشهر الثلاثة. وسارع حسين الى الخروج من القرية تحت تهديد الطائرات الاسرائيلية التي لم تبارح الاجواء منذ اكثر من ثلاثة اسابيع.
وقد ادرك الليل الصغار وهم في السيارة، فاستسلموا للنوم، الا ان هجعتهم كانت قصيرة من شدة الخوف.
استيقظ مروان اولاً، وهو في العاشرة، ليروي لوالديه كابوساً رآه في نومه، وبدا انه مستوحى من اخبار مجزرة قانا التي قضى فيها عدد كبير من الاطفال، ويقول انه "بصر" في نومه الاسرائيليين يدخلون الملجأ ويرمون والديه بالرصاص، ثم ينتزعون اخيه الصغير من حضن امه ويضربونه حتى الموت، ثم يخرجونه هو واخوته الاربعة ويدفنونهم وهم احياء تحت التراب.
وسأل والده: "متى يوقفون اطلاق النار، وقتل الاطفال والشيوخ والنساء؟". فأجابه والده: "ليتني اعرف لاقول لك. فهم يقولون انهم لن يوقفوا القتل قبل القضاء على "حزب الله" الارهابي، وتشليح المقاومة سلاحها وتقديمها الى المحاكمة لانها خطفت، دون استئذان، اثنين من جنود العدو. ولأن المقاومة هي اسلامية شيعية، ونحن جميعاً معها، فربما ينتظرون حتى يفرغوا من قتلنا جميعاً، حتى يوقفوا النار".
فقال الصبي: "اذاً سيصح ما رأيته في منامي يا أبي".
وحتى لا نبعد كثيراً عن القتل والمقتلة، فإننا لا نستطيع ان نتجاهل من هو الذي يقتل. وخصوصاً عندما نرى الجندي الاسرائيلي يركن الى الصلاة ويتلو مقاطع من اسفار العهد القديم في التوراة، قبل القتال، وفيها يحض اله اسرائيل شعبه على غزو اراضي الاعداء وابادة كل حي فيها، بما فيها الحيوانات وسائر المواشي. لذلك ليس مستغرباً كل هذا القتل، وكل هذا الاصرار على عدم وقف القتل قبل تحقيق الرقم المطلوب لوقف النار. هذا من الجانب الاسرائيلي.
اما من الجانب الآخر، اي الجانب الاميركي الذي كان ولا يزال حتى ليل امس يقود معركة رفض وقف النار قبل ان يرتفع من جماجم المجاهدين والاطفال والنساء والشيوخ في الجنوب حائط يفصل ما بين لبنان واسرائيل شبيه بالجدار الذي بناه الاسرائيليون في الضفة الغربية، على ان يكون بحراسة قوة دولية – فهذا الجانب ينطلق في اصراره على استمرار القتل الذي لا يميز بين مقاوم ومواطن ضعيف واعزل، كما في قانا وصريفا وغيرهما من قرى الجنوب الشهيدة، من اعتبار وصفه ظلماً المندوب الاميركي لدى الامم المتحدة السفير جون بولتون بأنه "اخلاقي"، عندما قال انه لا يمكن المساواة "اخلاقياً" بين الاسرائيلي الذي يُقتل على ايدي "الارهابيين" الذين يطلقون الصواريخ من لبنان على شمال اسرائيل، واللبناني الذي يُقتل بنيران الدبابات والمدافع والصواريخ التي تطلقها اسرائيل على الاراضي اللبنانية "دفاعاً عن النفس".
والنظرية عينها تأخذ بها وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس التي لم تجد في مجزرة قانا التي قتلت فيها صواريخ الطائرات الاسرائيلية الأميركية الصنع 63 شخصاً في ملجأ في البلدة اكثر من نصفهم من الاطفال، سبباً لمطالبة اسرائيل بوقف النار فوراً، رغم توسلات الرئيس فؤاد السنيورة لها وقد شاهدته دامع العينين.
وقد اكدت رايس نظرتها التصنيفية للعالم، وهي التي تنتسب في عقيدتها الدينية الى مجموعة "المسيحيين المولودين جديداً" التي ينتمي اليها الرئيس جورج بوش ويصفها المسيحيون الاصيلون بأنها يهودية اكثر مما هي مسيحية، وان ليس فيها من المسيحية سوى الاسم، لذا تعرف بـ"المسيحية المتيهودة" او "المتصهينة". وتبرر هذه الفئة الانجيلية الخارجة على تعاليم المسيحية، الصراع في العالم بأنه ليس بين الحضارات، لان هذه يستحيل ان تتصارع، بل بين الخير والشر، لذلك هي تجيز الحروب لانها ضد الشر والاشرار، وخصوصاً اذا كانت ضد "ارهابيين"، ولا تميز في هذا المجال بين الثوار والمقاومين الذين يقاتلون من اجل استرداد حقوق مغتصبة، وعصابات الاجرام وخاطفي الرهائن وتجار المخدرات.
وفي ضوء تصنيف بولتون "الاخلاقي" الذي طبّقه على الاسرائيليين واللبنانيين، جرى حكم وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس على اعضاء في وفد 14 آذار الذين التقتهم في السفارة الاميركية خلال زيارتها الاخيرة لبيروت، بأن استعملت في وصفها لهم عبارة "قاسية" تستعمل عادة في تصنيف الحيوانات. وفسّر ذلك بأن اعضاء الوفد ربما خيّبوا ظن رايس في الحركة الاستقلالية التي دافع بعض اعضائها عن المقاومة وحقها في تحرير الارض، معترضين على التغطية الاميركية للعدوان الاسرائيلي على لبنان. وامام اللبنانيين امثلة كثيرة في العالم حيث قيمة الانسان تعلو وتهبط استناداً الى اعتبارات ليست كلها اخلاقية، من دارفور في السودان الى كمبوديا وفيتنام وراوندا، وكل افريقيا تقريباً حيث تحصد الامراض، مثل الايدز، وانواع من الحشرات ملايين البشر. وقد استغرب ناشر بريطاني ذات يوم الضجة التي اثارها نشره تحقيقاً مصوّراً لمبارزة دامية بين مجموعة من الكلاب. وقد تلقى طوفاناً من الرسائل يحتج اصحابها على نشر صور لكلاب ينهش بعضها بعضاً. وزاد استغرابه عندما تلقى رسالة في هذا المعنى من الملكة اليزابيت. وقد رد عليها باستغراب مماثل كيف ان ابادة شعوب بكاملها لم تثر ردود فعل لدى القرّاء مقدار ما اثارته مشاهد الكلاب المصبوغة اجسادها بالدماء.
في اختصار: يجب ان نعرف كيف نرفع قيمة الانسان في بلدنا الى ما هو أعلى من قيمته في اسرائيل. وما العمل؟
اولاً. يجب ان نظهر للعالم مدى قدرتنا على الصمود في وجه العدوان. ونؤكد تماسكنا ووقوفنا بجانب المقاومة، بصرف النظر عن موقفنا من الأسباب التي ادت الى الحرب، وسواء أكانت المقاومة على حق في خطف الجنديين الاسرائيليين، ام على خطأ. وسواء كنا مع ابقاء سلاح المقاومة او مع نزعه منها، وسواء كنا مع استمرار المقاومة لضمان عدم حصول اعتداءات اسرائيلية على لبنان في المستقبل، أم اننا نعتقد ان الجيش وحده يجب ان يحتكر استعمال السلاح. وسواء كنا مع محاسبة المقاومة على عملية الخطف والتسبب في الحرب المدمرة للبنان، ام حق المقاومة في القيام بأي عمل، وفي اي وقت، لتحرير الارض المحتلة.
ثانياً. يجب ان نثبت للعالم اننا قادرون على حكم بلدنا بأنفسنا، وان نقاوم كل التدخلات الخارجية، من اي جهة أتت.
ثالثاً، يجب ان نظهر اننا ديموقراطيون أكثر من الاسرائيليين، ومتمسكون بالمؤسسات الدستورية. كأن تذهب الحكومة الى مجلس النواب للحصول على تغطيته لها في المواقف المتصلة بالحرب والسلم، كما في البنود السبعة التي اقرها مجلس الوزراء أخيراً وكان ينبغي عرضها على مجلس النواب، بدل الذهاب بها الى القمة الروحية، مع احترامنا لرجال الدين ودورهم. ذلك ان ارادة الشعب التي تبحث عنها الحكومة يجسدها مجلس النواب، ولا احد سواه.
رابعاً. يجب رفض تقديم لبنان الطاهر نموذجاً للشرق الاوسط الجديد الذي يُبنى على سفك الدماء والدمار، تماماً مثل رفض الديموقراطية المنبثقة من فوهات المدافع، كما في العراق.
خامساً. البحث عن رأس للدولة بديل من الرأس المريض، لان المشاركة المسيحية في القرار امر حيوي وخصوصاً في هذه الظروف الصعبة.
سادساً. التفاف اللبنانيين حول الدولة، وانشاء صندوق وطني لاغاثة المنكوبين يشارك فيه اللبنانيون بمختلف فئاتهم، ويتضامنون في ما بينهم، مسيحيين ومسلمين، بمواجهة المحنة.
سابعاً. الحرص على صمود بالمقاومة لان انتصارها سيكون للدولة القوية والجيش القوي، وللبنان الواحد الموحّد، ومعها سيبنى لبنان الجديد الذي ستجبل ارضه بدماء الشهداء، ونستحقه شبراً شبراً، تماماً كما استحقت الامم العظيمة مكانها تحت الشمس بفضل مقاومتها للاحتلالات والديكتاتوريات.
واننا على ثقة بأن ليس في لبنان مواطن واحد مستعد لان يهدي دمه وحياته الى اي نظام او دولة سوى وطنه لبنان.
#أدمون_صعب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|