|
محمد علي الحامّي في ذكرى وفاته / عِبرٌ واعتبار
الطايع الهراغي
الحوار المتمدن-العدد: 6895 - 2021 / 5 / 11 - 04:23
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
" مـــن لا يعـــرف التّاريـــخ محكــوم عليــه بتكــراره " -- كــــــــارل ماركــــس-- " إنـك تخاطبنـي فـي حـلّ الجامعــة ، وهــي ليسـت ملكـا مـن أملاكـي، لـي حــقّ التّصـرّف فيـه، بـل هـي حـقّ للعملـة مشاع، وهــم أصحاب النّظـر فيـه، ولـي صوت لا أرفعـه ضـدّ الجامعة مـا حييــت ". -- محمد علي الحامّي ، ردّا على مديـر البوليس --. محمد علــي الغفّــاري الحامّي [ 15 أكتوبــر 1890 / 10 مــاي1928 ] أب الحـركة النّقابيّـة التونسية وباعث أوّل بذرة للعمل النّقابيّ في تونس بتأسيسه لــ"جامعـة عمـوم العـملة التّونسيّـة" 1924). يشهد جون بول فينودوري ، ممثّـل الحزب الشّيوعيّ في تونس أنّ محمد علي " ظــلّ الخـادم الوفـيّ والنّزيـه للطّبقـة الشّغيلـة التّونسيّة " ، وقال عنه رفيقه الطـاهـر الحــدّاد " لقد جاءنا لأوّل مرة بأفكــار لا تتّسع لهــا البــلاد التّونسيّـة ". ككلّ فكرة عظيمة لم تتّسع لها البلاد التّونسيّة ، مات الرّجل وهلك دونها، ولكنّ الفكرة لم تمت، تخمّرت في الأذهان حتى باتت قوّة ماديّة وصارت جزءا مفصليّا من التّاريـخ الاجتماعــيّ والوطنــيّ لتونـس زمــن رحلـة البحـث عـن أقوم المسالك وأسرعها وأنجعها. إذا كانت الذّاكرة التي لا تشحذ نفسها تتآكل فإنّ الذّاكرة التي تروم التّصالح مع إرثها وتاريخها مطالبة بأن تنبش في ماضيها أيـّا كانت عظمته بكثير من النّقد والتّمحيص وتنزيل الأحداث في ظرفيّتها والاحتكام إلـى الملابسات التي حكمتها وحفّـت بها لتخلّصه من التّمجيد الأرعن والتّقديس الأسطوريّ لان" الــزّعمــاء " نتاج موضوعيّ لواقع موضوعيّ هو الآخر، هم ليسوا كائنات فوق التّاريخ ولكنّهم طبعوا التّاريخ ،أكبر وفاء لهم يكمن في تنزيلهم في محيطهم وتنزيل تجربتهم في إطار معطيات تاريخيّة ميزتهم أنهم فعلوا فيها . يتعلّق الأمر بنحت مداخل منهجيّة لتناول أشكال التّــأريخ للحركة النّقابيّة في تونس ، ودون ذلك يعسر الإمساك بجملة الخصوصيّات التي طبعت الفعل النّقابيّ التّونسيّ. فهم هذه الخصوصيّات يمكّن من تمثّـل الإرث النّقابيّ والسّياسيّ بالاستفادة من أخطائه بالذّات لا باستنساخه . ............................................................................................................................................................................................................................................ ليس الماضي بالتّأكيد هدفا في ذاته . ذلك ما أدركه مؤرخ الحركة ذلك الثوريّ المنسيّ الطاهــر الحــدّاد الذي يعود إليه الفضل في تمكين الباحثين والمعنيّين بالشّأن العمّاليّ والنّقابيّ من مصدرأساسيّ،كتاب "العمّــال التّونسيّـــون وظهــور الحركــة النّقابيّـة " الذي يضاهي في الحقل الاجتماعيّ والعمّاليّ كتاب عبد العزيز الثّعالبي [1874 /1944 ] "تونــس الشّهيـدة " فــي الحقــل السّياســيّ، عندما ثبّــت في خاتمة كتابه " وضعنـــا هــذا التّــاريخ .. وليــس مــن قصدنـا أن نضعــه مثــالا فــي العمــل العموميّ المقبل وإنّـما غايتي أن أجعلــه مثــالا مــن أمثلــة الحركــات الاجتماعيّــة فــي بلادنـا لنعرف أوجه العمـل القريبـة ونعــدّل مـن طرائق عملنا ما يحتاج لذلـك . وما الماضـي إلاّ درس للمستقبــل ". إنّ دراسة الحركة الوطنيّة والحركة العمّاليّة والنّقابيّة في تونس مسألة على غاية من الدقّـة ، تحفّ بها مخاطر ومخاوف ومنزلقات ما دام الأمر يرتبط بموضوع مثير نظرا لهالة التّـقديس والانبهار التي تحيط بها البلدان المستعمرة تاريخ نضالها ضدّ الاستعمار . فكيف يمكن الاطمئنان إلى الحياد وضمان الموضوعيّة الضروريّة [ موضوعيّة المعرفة والبحث والدّرس السّابقة للأحكام ] في موضوع يشكّـل جوهر وجود هذه البلدان، وبعضها يقتات من الاتّكاء على ذلك الإرث جاعلا منه مبرّر وجوده؟؟ . ويزداد الأمر تعقّــدا عندما يكون المتناولون لذلك التّـاريخ إمّــا مساهمين فيه سلبا وإيجابا أو هم على قيد الحياة ويساهمون بشكل أو بآخر في بناء مصير بلدانهم في سائر الواجهات الفكريّة والسّياسيّة والثقافيّة والبحثيّة . إنّ التّنقيب في التّاريخ قد يبدو للفاعلين السّياسيّين والنّقابيين مدخلا للتّشكيك في إرث تدثّــروا به واحتكروا تمثّــله وصونه ومجّـوا كلّ رأي مخالف وكلّ قراءة بديلة . يجد الباحث في تاريخ الحركة الوطنيّة -- والحركة النقابية كجزء منها -- نفسه متخما بشهادات وحوارات ومذكّرات لا تخلو من كثير من الذّاتيّة . ولعلّ مذكّرات الزّعيم الحبيـــب عاشــور وبدرجة أقلّ النّـــوري البودالــي تكاد تمثّــل نموذجا ، ففيها يطغى الأنا على ما سواه ، وفيها يُـــردّ التّــاريخ إلى فعل ذاتيّ فتهيمن الذات على الموضوعيّ ويُــقـزّم الآخر الذي لا يُــذكر إلاّ ليعلي ذات السّارد . لا تسبح الذات في التّاريخ بل إنّ التاريخ يصغر إزاءها. ولعلّـنا لا نخطئ فــي حـقّ الإرث الوطنيّ عندما نذهب إلى أنّ تخليصه من الأسطوريّ وتأسيس قراءة تاريخيّة سيكون أكبر وفاء لروّاد لا نعتقد أنّ همّهم كان يتمثّــل في إعلاء أنفسهم فوق التّاريخ وفوق الأحداث التي عايشوها وساهموا في صنعها من موقع الفاعل لا من موقع المتفرّج المستهلك والمنفعل . أنّ ضغط الحاضر وتشعّـب الرّهانات وكثرة الإحباطات قد تقود بوعي أو بدونه إلى التّحصّن بالماضي-- البعيد منه والقريب -- ويصبح الماضي رمز المنعة والصّفاء والاكتمال . تجاربه لا تشوبها شائبة ومناضلوه ألمّوا بكلّ شاردة وواردة ، وأقصى ما يمكن الإتيان به هو النّسج على منوالهم باستنساخ تجاربهم . بهذه القراءة – بقطع النّظر عن الوعي بذلك من عدمه-- يصبح الوفاء رديف العرقلة ، والتّقديس صنو الإقرار بالعجز . فليس المستقبل هو القبلة كما نبّه إلى ذلك بشكل تنبّــئيّ الطّـاهــر الحــدّاد الذي قال عنه طه حسين أنّه سبق قومه بقرنين. وليس الماضي محطّـة حفّــت بها ملابسات أملت مسلكيّة وتمشّيـا وأهدافا هي بالتّعريف نتاج لحظتها بل هو الفعل وقد اكتمل وبلغ التّمام ، وما سواه تلاصقه دوما لعنة النّقص. ولعلّ الإخفاقات والعجز عن الفعل في التّحوّلات الكارثيّة التي تعصف بالعالم ، وبدرجة أفدح ببلداننا ، هي التي أملت هذه العودة إلى أسطرة بعض الحقب التّاريخيّة وبعض الرّموز والشّخصيّات. ولنا في عودة البورقيبيّة بتضخيم " إنجازاتها" والتّهوبن من فظاعاتها - بالنّسبة لجميع الأطراف تقريبا- خير دليل. تاريخ الحركة النّقابيّة لا يمكن أن يُــفهم ولا أن يُدرس خارج إطار تشكّل الحركة الوطنيّة والمنعرجات التي عاشتها منذ الإرهاصات الأولى، من حركة الشّباب التّونسيّ إلى حزب الدّستور والحزب الشّيوعيّ إلى الحزب الدّستوريّ الجديد بقيادة بورقيبة وصالح بن يوسف. تخصيصا على الحركة النّقابيّة وجب التّأكيد على أنّ العمل النّقابيّ مفهوما وممارسة فعل دخيل وافد مع الاستعمار. فبالانخراط في النّقابات الفرنسيّة الــ(س ج ت) أساسا تعلّم العمّال التّونسيّون أبجديّات الفعل النّقابيّ وجدواه ، وكثيرة هي المحطات التي تبيّن دور العنصر التّونسيّ في إنجاح إضرابات النّقابات الفرنسيّة ليفاجأ بأنّ نضالاته لم تغيّــر من أوضاعه المادّيّة شيئا . إلاّ أن ذلك لا يعني تجريد الحركة النّقابيّة من خصوصيّاتها . فلقد ولدت منذ البدء صداميّة . لقد فشلت الأحزاب السّياسيّة في فترة النّضال الوطنيّ في تجنيد الطّبقة العاملة التّونسيّة . بل إنّ تمشّي النّقابيّين الأوائل بدا مناقضا لتمشّي سياسة الدّستوريّين الذين كان أقصى مسعاهم تعديل النّظام السّياسيّ ، في حين نجح محمد علي ورفاقه في إطار جامعة عموم العملة التّونسيّة في توحيد جهود العمّال في تنظيم نقابيّ مستقلّ . الانسلاخ عن/ ومن التّنظم النّقابيّ الفرنسيّ هو أوّل بند في العمل النّقابيّ المستقلّ جنح إلى نضالات اجتماعية متعدّدة. ولعلّ ذلك ما يفسّر خيانة حزب الدّستور للجامعة لمّا تعرّضت لأعسرامتحان. فسياسة حزب الدّستور تقوم على الحذر والفعل السّياسيّ المحسوب في إطار القانونية والاعتدال . وهو بحكم طبيعة العناصر المكوّنة له ميّال إلى انتهاج سياسة مرنة ونضال سلبيّ واضعا كلّ ثقته وآماله في نجاح تجمّع اليسار في فرنسا، بل إنّ صالح فرحات -- أحد زعماء الحزب -- لم يجد حرجا في التّصريح بأنّ المطالب التّونسيّة لا تتضارب مع واقع الحماية ولا مع المصالح الفرنسيّة في تونس ، فاعتُبِرت الجامعة خطرا يهدّد سياسة الحزب لأنها تميل إلى العمل التّصادميّ . تمشّي الحزب أفسدته نضالات الجامعة وطبيعة نشاطها وهويّة مؤسّسيها والتصاقهم بهموم العملة التّونسيين فلم يجد مهربا من التّبرّؤ من الجامعة وإدانتها ، كما يكشفه بيان التّنصّل الذي أمضاه سبعة من أعضاء الحزب وأربعة من أعضاء الحزب الإصلاحيّ بتاريخ 21 فيفري 1925، وكما يترجمه محتوى البلاغ المشترك بين الحزب الإصلاحيّ والحزب الحرّ والمجلس الكبير بالحكومة التّونسيّة وجمعيّة اتّحاد النّقابات [ الفرنسيّــة ]، ولم يمض على إيقاف أعضاء الجامعة أكثر من أسبوعين بتهمة التـآمر على أمن الدّولة: " بعد المناقشة وتبادل الآراء قرّر الجمع مع تصريحه أنّه لا يملك سلطة مباشرة على العملة، لكنّه عزم على استعمال قوّة نفوذه بواسطة الصّحافة والعمل على نصح العملة التّونسيّين للانضمام لجامعة اتّحاد النّقابات حتّى يتمّ بذلك المشاركة في ميدان العمل " [الطاهــر الحــدّاد /العمّــال التّونسيّــون ....] . ولقد أقــرّت القيادات الدّستوريّة في ما بعــدُ باستغفال السّلط الاستعماريّة لهم، وحاولوا الإيهام بأنّ بيان التّــبرّؤ لا يلغي خصوصيّة وجهة نظرهم. ما ثبّتناه لا يعني بأيّة حال استنقاصا من الدّور التّاريخي الذي لعبه المؤسّسون الأوائل في مناخ سياسيّ مشحون بغطرسة السّلط الاستعماريّة. ولكنّ التّدقيق ضروريّ لتبيّن ميزة كلّ مرحلة وما يشدّها إلى سابقاتها . فعْــل التّــأسيس يعود إلى محمد علي الحامّي وتسمية التجربة الثانية " جامعة عموم العملة التّونسيّة 2 " تغني عن كلّ جدل وفرحات حشّاد مؤسّس الاّتحاد العامّ التّونسيّ للشّغل شدّد مرارا على أنّ تجربته ليست إلاّ إحياء للتّجربة الأولى. ......................................................................................................................................................................................................................................... قيمة محمد علي وبصمته تكمن في المجهودات التي بذلها لترسيخ فكرة النّقابة المستقلّة . لقد آمن في ظرف حسّاس براهنيّة التّأسيس لقيمة العمل . ذلك التّأسيس الذي يحتّم المغامرة بنحت تجربة مستقلّة على غرار ما أنجزته سائر الأمم . ولعلّ ذلك ما جعله يدرك أنّ تونسة الفعل والتنظّــم النّقابيّ ليس مجرّد ردّ فعل ، بل هو فعل واع يتمثّل في بناء الذّات التّنظيميّة . ألم يقل محمد علي في ردّه على دوريل كاتب النّقابات الفرنسيّة الذي كان يتّهم الحامّي ورفاقه بالتّعصّب الدّينيّ والملّــي " إنّـنــي لا أنظــر إلــى فكـر العملة المنفصليـن عنكـم ولا إلــى الماضـي المؤلـم الذي كـان لهــم ، وإنّمـا أجيبــك عــن مسألـة الانقسـام الذي ثقـل حملـه عليـك أنّــه لا يمنعكم شــيء مـن الانخـراط فـي النّقابـات التونسيّة ....فكلّ أمّـة تشكّــل فـي أرضهــا نظامـا كامـلا ثـمّ ينظــمّ للعالميّة . ولماذا لا تعتبر تونس شعبا من الشّعوب كمـا هـي فـي الواقـع مـا دامت لـم تكـن ترابـا فرنسيّـا ؟؟" [ الطاهر الحدّاد / العمال التّونسّيـون.. ]. لم يكن الانسلاخ من/ وعن النّقابات الفرنسيّة بالأمر الهيّــن لأنّ جلّ المؤسّسين والفاعلين في توجّهات الجامعة تمرّسوا على النّضال النّقابيّ صلب المنظمّات الفرنسيّة وتشبّعوا بالفكرة النّقابيّة في نقابة الس ج ت والكثير منهم كان يشكّ في إمكانيّة تهيّــؤ العمّال التّونسيّين للتّنقّـب المستقلّ .وهو أمر واضح وجليّ لكلّ من له أدنى اطّــلاع على الإرهاصات الأولى والنّقاشات التي تشقّ أعضاء الجامعة كما ثبّــت ذلك مؤرّخ الحركة ومعايشها " إنّ جامعة عموم العملة التّونسيّة لم تكن نتيجة جلسة أو جلستين أو يوم أو يومين بل هي نتيجة للمحاورات الدّائمة بين الأعضاء المؤسّسين في أغلب اجتماعاتهم المتتالية"[الحـــدّاد / العمّــال التّونسيّـون...]. إنّها فعلا مخاطرة وفعل رياديّ بحقّ تغلّبت فيه إرادة الخلق على هاجس الخوف من الصّعوبات --وما كثرها--. وليس التّخوف الذي سيطر على عديد الأعضاء المؤسّسين غير إحساس بالمسؤوليّة ورغبة منهم في خدمة العمّال من موقع يضمن لنفسه النّجاح والاستمراريّة . فمختــار العيّــاري الذي حُــكِم عليه بالنّفي عشرة أعوام --لمّا حُــلّت الجامعة -- كان شديد التّعصّب للنّضال في النّقابات الفرنسيّة " إنّ انفصالكم عن الاتّحادية يحرمكم من إعانة 25 مليون من العمّال... وما أظنّ أنّ الأمّة التّونسيّة التي تلهجون بذكرها تعرف لعملكم قيمة .. وأرى أنّ الذي يدعوكم لتأسيس نقابة غير منظمّة للاتّحاديّة إنّما يدعوكم للانقسام الذي يهلك قوّة العمل ". وفي ذات الاتّجاه كان يسير أحمد بن ميلاد . لقد تألّبت على الجامعة ثلاثة أطراف أساسيّة :حكومة الباي/ الأحزاب السّياسيّة الممضيّة على البيان والسّلط الاستعماريّة كما تترجمه السّيرة الذاتيّة لمحمد علي كما ثبّتتها الإقامة العامة الفرنسية (موال لتركيا / عميل لبرلين / عدوّ لفرنسا /عميل للأمميّة / إسلاميّ متعصّب / شيوعيّ / دستوريّ...). إنّ هذه الحيثيّات وهذا التّوزّع هو ما يجعل من تأسيس جامعة عموم العملة التّونسيّة كتنظيم نقابيّ مستقلّ حدثا نقابيّا ووطنيّا سيشكل منعرجا ومنارة للقادم من التّجارب [ تجربة بلقــاسم القنــاوي وتجربــة فرحــات حشّــاد ]. تأسّست الجامعة في ظرفيّة على غاية من الدقّة والصّعوبة تداخلت فيها عوامل موضوعيّة وذاتية:حداثة تشكّل الطبقة العاملة التّونسيّة / خصوصيّة تشكّلها في بلد مستعمر / غرابة الفعل النّقابيّ والسّياسيّ في الإيّالة التّونسيّة حيث الباي محدود الصّلاحيّات ومقيّد بقوانين وإملاءات السّلط الاستعماريّة وسلبيّة عديد الأطراف السّياسيّة وتردّدها في تبنّي سياسة واضحة تجاه المستعمر ، يقابل ذلك تلاقح بين جملة من المفكّرين [ الحدّاد / أحمد الدّرعي / محمد علي / مختار العيّاري / أحمد توفيق المدني..] مع وعي عميق من المؤسّسين بأنّهم بصدد خوض تجربة فريدة من نوعها كما يكشفه تنطّع البعض منهم على أحزابهم لمّا أدارت هذه الأحزاب ظهرها للجامعة ولمّا تخلّت عنها في محنتها . لقد حُلّت الجامعة ولم تعمّر غير بضعة أشهر وشُـرِّد زعماؤها ، ولكنّ هذه التّجربة المحدودة في مدّتها ومستوى انتشارها ممتدّة في الزمن . فالتّاريخ يقاس أيضا بجسامة الحدث ونوعيّته. لقد نجح محمد علي ورفاقه في فهم الوضع الاستعماريّ فأدركوا خصوصيّة وعظمة ما هم مقبلون عليه. وكان لهم الفضل في تقديم أجوبة يمليها " الآن " وتتطلّب المجازفة : كيــف نحــوّل التّذمّــر إلــى احتجــاج؟؟ والاحتجــاج إلــى وعــي وفعــل جماعــيّ ؟؟ كيــف نحـوّل العمــل إلــى قيمــة ؟؟ كيـف نحـوّل مطلـب العمّـال الخـاصّ إلـى مطلـب عـامّ يشـدّ " الأمّـة " ؟؟ وهو ما تجسّد في المساندة العامّة لمطالب عمّال الرّصيف صيف سنة 1924 وفي تحوّل إضرابات بنزرت إلى شأن عامّ وقضيّة مجتمعيّة. ................................................................................................................
تاريخ الحركة النقابيّة في تونس هو جزء من تاريخ الحركة الوطنيّة . لم تولد من عدم بل إنّها من رحم الحركة الوطنيّة انبثقت وبسائر منعرجاتها تأثّرت وفيها أثّرت رغم ما تميّزت به من خصوصيّات طبعتها وخلقت منها إرثا يحــقّ للنقابيّين إعلاؤه والاقتداء به بعيدا عن النّسخ والتّقليد. لقد نشأت الحركــة النقابيّــة منذ البدء صداميّــــة لكأنّهــا أرادت تجـــاوز الفوات التّاريخــــيّ، ما دامت التجربة النقابيّة --وكذلك التّجربة السّياسيّة – دخيلة وافدة مع الاستعمار . ألم يتعلّم العمّال التّونسيّون أبجديّات العمل النّقابيّ في النّقابات الفرنسيّة ؟؟ ألم يخوضوا عديد النّضالات تحت يافطة التّنظيمات النّقابيّة الفرنسيّة ؟؟ ألم يكتووا بويلات الميز العنصريّ والقوميّ والانتصار لمطالب العمّال الفرنسيّين والأجانب والتّنكّــر لجملة مطالبهم ؟؟ .ولكن ألم يتعلّموا معنى التضامن العمّالي وجدوى الاحتجاج وأشكال صياغة المطالب في رحم النقابات الفرنسية ؟؟ . لم يكن تشكيل النقابات غاية ولا هدفا بقدر ما كان تتويجا لموجة إضرابات متسارعة غالبا ما كانت تُــشفع بتكوين لجان لقيادة الاعتصابات وإرشاد العمّال وقيادة التّفاوض باسمهم عندما يتوجّب. كانت النّقابات أداة نضاليّة لتوحيد المطالب والتّنسيق بين العمّال .ولعلّ المتابع لكيفيّة تشكّل جامعة عموم العملة التونسيّة يدرك أنّها كانت تتويجا لمسار رغم صعوبة المغامرة ومحدوديّة المدّة وحداثة التّجرية . لقد اختزلت الحركة النّقابيّة في وقت قياسيّ الهوّة التي تفصلها عن التّجربة العمّالية الأوروبيّة مع فوارق ملحوظة من حيث نضج التّجربة وعراقتها . ولكنّها عوّضت محدوديّة التّجربة وحداثتها بدرجة إخلاص عدد كبير من النّقابيين الذين تشرّبوا الفعل النقابيّ في الكنفدرالية العامّة للشّغل ( الس ج ت ) ووظّـــفوا زادهم المعرفيّ والفكري. كانت تجربة محمد علي تتويجا لسلسلة من الإضرابات بدأت بإضراب عملة الرّصيف بتونس (13 أوت 1924) فإضراب عملة رصيف بنزرت (15 أوت 1924 ) فإضراب عملة معمل الآجر بمنزل جميل (22 أوت 1924 ) فإضراب عملة شركة هارسانت (28 أوت 1924 ) فإضراب عمّال مطار جبل الخرّوبة (6 0 سبتمبر1924) فعمّال النّقل بالعربات بسيدي أحمد (07سبتمبر1924). كلّ التّحرّكات التي أطّرتها الجامعة كانت موجّهة ضدّ الشّركات الفرنسيّة ولم توجّه ضدّ الشّركات المحليّة إطلاقا، وكان محمد علي واعيا بأنّ تونس ليست " ترابــا فرنسيّــا " كما صرّح بذلك أمام ممثّلي السّلطات والقيادات النّقابية الفرنسيّة . في هذا الإطار تحديدا يُفهم تجــذّر البعد النّضاليّ للحركة النّقابيّة التّونسيّة ووعيها بتلازم البعدين الاجتماعيّ والوطنيّ بانخراطها الكلّي في كلّ المعارك الوطنيّة . ..................................................................................................... ................................................................................................................................... إذا كان لا بدّ من اختزال تاريخ الحركة النقابيّة التّونسيّة في عنوان جامع فليكن: هاجس البحث عن الاستقلاليّة . ولكنّ الاستقلاليّة تتلوّن بتلوّن المرحلة. تكاد المخيّلة النّقابيّة تجزم بأنّ الاستقلاليّة عنـت دوما التّبرّم بالانتماء الحزبيّ وحتّى السّياسيّ. التّاريخ " قاضي هذا العالم " وحده يملك الإجابة . ميزة المؤسّسين أنّهم أدركوا ضرورة رسم حدود التّماس بين الانتماء الحزبيّ والالتزام النّقابيّ . فمعلوم الانتماء الشّيوعيّ لكلّ من مختار العيّاري ومحمد قدّور وبشير الجودي والطاهرعجم ، ومعلوم أيضا الانتماء الدّستوريّ لمحمد الغنّوشي وبشير الفالح وأحمد الدّرعي ومحمد الخياري ، ومعروف أنّ الطّاهر الحدّاد انتمى إلى الحزب الحرّ الدّستوريّ . طبع محمد علي الفعل النّقابيّ في تونس وفعل في كلّ المنعرجات التي مرّت بها الجامعة . وكان نفوذه واضحا ومُسلّما به كما يكشفه الجرد الذي ثبّته الحدّاد معايش الحركة ومؤرّخها . ولعلّ ذلك يعود إلى التّجربة الذاتيّة للنّقيب -- كما يحلو لهم تسميته—حيث عايش وعاش عن قرب التّجربة الاشتراكيّة الدّيمقراطيّة التي كانت مهيمنة في ألمانيا معقل النّضال والتّـنظم النّقابيّ والحزبيّ .لعب محمد علي دورا رياديّا في الإقناع براهنيّة الانسلاخ من النّقابات الفرنسيّة ووظف كلّ طاقاته ونفوذه المعنويّ في اتجاه تبنّي الجامعة اعتصاب حمّام الأنف (1925). والمعلومات التي يزوّدنا بها الطاهر الحدّاد عن القيادات النّقابيّة على غاية من الأهمّيّة : البشير الفالح والبشير بودمغة قادا اعتصابات وأسّسا لجان لإدارتها وتأطيرها / محمد الخميري، الطاهر بن سالم، أحمد بن ميلاد ، أحمد توفيق المدني ،المختار العيّاري مثلوا مستشارين للعملة . يقول الحدّاد مشدّدا على أهمّيّة تلاقح تجربة العمّال بالفكر والعمّال بالسّاعد "إنّ عملة الرّصيف بتونس قد اعتصبوا خمسة اعتصابات قبل الأخير[أوت 1924 ] دون أن يجدوا من يساعدهم أو يمدّهم بإعانة ما من غيرهم ، ولمّا انظمّ إليهم جانب من المفكّرين التّونسيّين في هذا الاعتصاب الأخير لتنظيم سيـْـرهم دون أن يحتاجوا لمساعدة اتّحاد النّقابات الفرنسيّة عظم هذا على ذلك الاتّحاد " / أحمد بن ميلاد والمختار العيّاري الموفدان إلى بنزرت لمتابعة الاعتصابات كانا يبثّــان فكرة الاتّحاديّة الفرنسيّة وهما يمثّـلان أنذاك لجنة الدّعاية النّقابيّة" فثارت في ذلك خلافات عظم شأنها بعد انقضاء الاعتصابات، ودائما كان السّيّد العيّاري يقول " إنّ الفكرة النّقابيّة الجديدة مبنيّة على التّعصّب الدّينيّ وقاصرة على حدود المملكة التونسية ". الاستقلاليّة ، بمعنى تونسة العمل النّقابيّ وتأسيس تنظيم نقابيّ تونسيّ لحما ودما ، لم تكن بالأمر الهيّن بقد ما كانت عصارة جدل ونقاشات وحوارات ، ميزتها أنّ الخلفيّة السّياسيّة والحزبيّة والفكريّة لم تكن عوامل عرقلة بل كانت عامل إغناء ، يشهد على ذلك موقف المؤسّسين لمّا انتصروا للجامعة ضدّا لتمشي أحزابهم. ويظلّ الامتياز لمحمد علي في توليف المختلف . ................................................................................................... ........................................................................................................................... الذاكرة التي لا تشحذ نفسها تتآكل، والتّاريخ لا يكرّر نفسه ، لكنّ المؤرخين-- والفاعلين السّياسيّين-- قد يكرّرون بعضهم البعض. ذلك كان هدفنا من تخليد ذكرى محمد علي الحامّي المرتبطة عضويّا بتخليد إنجازه التّاريخيّ وفنائه في تثبيته في المدوّنة النقابيّة: تــونســة العمـــل النّقابــيّ. وهل ثمّة وفاء أكثر نجاعة من إخضاع تجربته لقراءة تعيد الاعتبار للرّجل وتخلّص التّجربة من القراءات الإرادوّية، الإسقاطيّة ، المابعديّة ، الإطلاقيّة ، المقادة بعقليّة التّقزيم حينا والأسطرة أحيانا ؟
#الطايع_الهراغي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من لا أرض له لا بحر له ، ولا منفى
-
محنة الإضراب عن التّفكير// جاحة التّراشق بأطباق التّراسل
-
رسالة مفتوحة الى الرئيس بن علي // - وقف حما رالشيخ في العقبة
...
-
هرطقات تونسية في مقامة قيسيّة
-
تخليدا للمناضلات والمناضلين / نوّال السّعداوي رحلة الخلود ال
...
-
اغتيال الفعل السّياسيّ في تونس / هزلت حتّى سامها كلّ مفلس
-
كورونا الاستهتار بالمفاهيم و الفوضى المنفلتة من عقالها
-
استفحال الأزمة في تونس/ جائحة كورونا وجائحة التّرويكا
-
مشهد ميلودرامي في تونس: تناسل الأزمة // تذرّرالحلول
-
الوفاء كلّ الوفاء للشّهداء /الذكرى السّنويّة الثامنة لاستشها
...
-
المشهد في تونس/ بين توهّج الثورة وتسلّط الدّولة
-
تونس: وحديث عن - الاحتجاجات -
-
الوفاء كلّ الوفاء للمناضلين والشّهداء. الذكرى السّنويّة الأو
...
-
الثورة التّونسية // تعقّد المسلك وتشعّب الألغاز
-
الثورة التونسية وسيل المفارقات
-
الثورة التّونسيّة: عسر المسير والمصير. من اجل نقد جادّ.
-
الذكرى العاشرة لثورة 17 ديسمبر/ 14جانفي.ماذا تبقى من الثورة
...
-
افي ذكرى وفاته الخامسة والثمانين /الطاهر الحداد ذلك الثوري ا
...
-
النّخبة التّونسيّة ولعنة الثّورة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|