|
الموروثُ الشعبيّ العِراقيّ* في ثُلاثيّة (محطات) للروائي حميد الحريزي بقلم :- عبدالله الميّالي
حميد الحريزي
اديب
(Hameed Alhorazy)
الحوار المتمدن-العدد: 6889 - 2021 / 5 / 5 - 12:35
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
الفصل الأول المعتقدات والمعارف الشخصية المعتقدات الشعبية: هي المعتقدات التي يؤمن بها الشعب فيما يتعلق بالعالم الخارجي والعالم فوق الطبيعي، وليس ذات أهمية أن تكون هذه المعتقدات قد نبعت من نفوس أبناء الشعب عن طريق الكشف أو الرؤية أو الإلهام، أو أنها كانت أصلا معتقدات دينية ثم تحولت في صدور الناس إلى أشكال أخرى جديدة بفعل التراث القديم الكامن على مدى الأجيال، فلم تعد بذلك معتقدات دينية رسمية بالمعنى الصحيح. 1 والمعتقدات الشعبية، هي تلك الموروثات التي احتلت عقول الناس، وشغلت حياتهم وشغفت بها نفوسهم وملكت قلوبهم، فصارت معتقدات وأضحى التسليم بها والخضوع لحكمها من المسلمات والبديهيات التي لا يمكن أن يرقى إليها الشك، وأخذت هذه المعتقدات سبيلها إلى قلوب الناس مع تعاقب الأجيال وتداول الأزمنة، حتى رسخت في الوعي وأصبحت جزءاً هاماً من الوجدان الشعبي. وسبق أنْ ذكرنا الفروع المتعلقة بقسم المعتقدات والمعارف الشعبية في المدخل من دراستنا هذه، فيرجى المراجعة. الأولياء يرى المعتقدُ الشعبيُّ – كما تصوره المأثورات الأدبية – بأنّ الأولياء هم الواسطة بين الإنسان وخالقة، وتلك الفكرة يصورونها بحيث تماثل تماماً فكرة الوساطة والوسطاء القائمة فعلاً في المجتمع التصاعدي، بل وليس من المغـالاة القول بـأنّ المعتقد الشعبـي يؤدي إلـى الاعتراف للأولـياء بسلطان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – د. محمد الجوهري، مصدر سابق: ص42
فعلي خارق لا يدانيه سلطان، لا تغرب عن قدرتهم معضلة، ولا يشذ عن حولهم في الحياة أو الطبيعة. ويرى المعتقد الشعبيّ، أنّ خلوص البعض للخالق، يجعلهم قادرين على أن يعودوا لذاته، فيكشف عنهم الغطاء، ويعرفوا الغيب والماضي. 1 وقد جاء ذكر الأولياء في القرآن الكريم في أكثر من مورد، منها قوله تعالى: {ألا إنّ أولياءَ اللهِ لا خوفَ عليهم ولا هُم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتّقون، لهُمْ البشرى في الحياةِ الدُنيا وفي الآخرة، لا تبديلَ لكلماتِ الله ذلكَ هو الفوزُ العظيم}. 2 وأصبح للأولياء الصالحين عند الجماهير هالة من التقديس والتعظيم كونهم (رجال مقربون إلى الله، لهم إمكانيات الاتصال به أكثر من غيرهم، ولهم مقدرة عجيبة على الأفعال الخارقة والمعجزات، وتظل لهم نفس المقدرة بعد وفاتهم، ويظل الضريح رمزاً لهذه القدرة على الفعل.) 3 وأهم الأمور المرتبطة بالأولياء حسب الموروث الشعبي العراقي، كما هي موجودة أيضاً في بقية البلدان العربية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبي، ص142 ، مكتبة النهضة المصرية، ط3 ، القاهرة – 1971) 2 – سورة يونس: 62 . 64 3 – عبدالحميد بورايو، القصص الشعبي، ص22 ، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر – 1986) (الزيارة / الدعاء / طلب الحوائج / النذر / تقديم الهدايا / بناء الضريح / تقديم الأكل / الاحتفال بمولدهم أو وفاتهم / الألقاب والصفات التي تُطلق عليهم / القسم بهم ... الخ) وقد حفلت ثلاثية "محطات" بالإشارة إلى المعتقدات الشعبية المتوارثة حول الأولياء، والذين تكثر مراقدهم وأضرحتهم كثيراً في العراق، ولا سيما أئمة أهل البيت وأبنائهم وأحفادهم، فلا تكاد تخلو مدينة من وجود ضريح أو قبر أو أثر لهؤلاء، دون أن نغفل وجود قبور وهمية هنا أو هناك، أصبحت بمرور الوقت حقيقة بالغة الأهمية في ضمير الوجدان الشعبي، خصوصاً مع الترويج لكرامات صاحب القبر. الإمام علي بن أبي طالب عندما يشعر الفرد في الوسط الشعبي بالقهر والظلم والانكسار، يلجأ ليلوذ بضريح الولي، ليشكو له همه وما أصابه، وليستمد من أجواء ضريح الولي الروحانية شحنة من طاقة معنوية تكون له سنداً في مواجهة أزماته. ونجد في ثلاثية (محطات) ، كيف أنّ الكاتب يصف حالة "مظلوم" بطل الرواية، وهو يستنجد بالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في أكثر من موقف: (توجّه نحو الصحن الحيدري الشريف لزيارة الإمام علي عليه السلام، فهو إمام الفقراء ونصير الفقراء وإليه يلجأ المقهورون) 1 (أمسك شباك ضريح الإمام علي باكياً متأوهاً وهو يقول: وينك يا بالحسن يا حامي الجار، مو احنه إجينه بحماك، مو راح يكتلنه الجوع، وأنت تدري احنه ما نحمل الذل ولا نـﮔدر نجدّي لو نموت!) 2 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – ثلاثية محطات (العربانة) ص116 2 – المصدر نفسه: ص87
(نسأل الله وأبو حسين أن ينتقم من الظلّام وكل من يساندهم) 1 (ولكم مو إحنه إجينه دخّاله على أبو الفقرة أبو الحسن والحسين، هيجي تسوّون بينه) 2 حتى في أحلام بطل الرواية "مظلوم" تكون شخصية الولي أو الرمز المقدّس حاضرة، خصوصاً إذا كانت هذه الشخصية بمنزلة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فنجد "مظلوم" في رؤياه يخاطب الزعيم عبدالكريم قاسم: (يجب أن يكون لك عِبرة في التاريخ، وأن يكون لك في حُكم الإمام علي عليه السلام، خير عِبرة في كيف يجب أنْ يكون الحاكم) 3 فيرد عليه عبدالكريم قاسم: (ما تقوله ليس غريباً عليّ، فأنا كما قرأته في التاريخ وتشبّعت بسلوك ومبادئ الإمام علي عليه السلام، وأنا أتعلق بعباءة أمي "كيفيّة" وهي تصحبني معها في زيارة الإمام علي في النجف والإمام الحسين وأخيه العباس في كربلاء، كما قرأته في عيون وملامح الكثير من وجوه الكادحين في الشارع، وفي عيون ووجوه الكثير من أقرب الناس إليّ، وحتى في كلام وعيون أفراد أهل بيتي.) 4 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – المصدر نفسه: ص121 2 – المصدر نفسه: ص160 3 – ثلاثية محطات (كفاح) ص100 4 – المصدر نفسه: ص101
ويذكر أحمد أمين عن عادات المصريين في استغاثة الأولياء: (يكثر المصريون من الاستغاثة بالأولياء، وهم يختلفون قوةً وضعفاً، فأهلُ القرى يستغيثون بأوليائهم في قراهم، وأهل المدن بمشايخهم ومنهم من يعتقدون لهم سلطة عامة كالسيد البدوي وسيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة ولهم في ذلك أناشيد ونذور.) 1 العباس بن علي بن أبي طالب شخصية الشهيد العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، من أكثر الشخصيات الدينية التي ارتبطت بالوجدان الشعبي العراقي بمرور الأجيال المتعاقبة، حيث ارتبط اسمه بالبطولة والشهادة والوفاء، حتى حِيكت حوله القصص والأساطير والحكايات، وحتى لقّبوه شعبيّا بـ(أبو راس الحار) .. وارتبط اسم العباس، بالقَسَم (اليمين أو الحِلف) أكثر من غيره من أهل البيت، لما ارتكز في الموروث الشعبي كونه سريع الغضب وسريع (الشارة). جاء على لسان "مطشر" بطل الرواية: (بيناتنه "العباس أبو فاضل" يا بدور، ما أنساج طول عمري، أقسم معاهداً "بدور" على الوفاء) 2 وجاء على لسان "سعيْدة" : ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – أحمد أمين، قاموس العادات الوتقاليد والتعابير المصرية، ص46 ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر – 2013 2 – العربانة: ص65 (أنت هم شفتلك سيّد يعوف شارة أبو فاضل أبو راس الحار، ويدوّر شارة الحكومة) 1 الشهيد زيد بن علي ارتبط اسم الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالثورة على حُكم بني أميّة، ولكن الثورة فشلت، وكان من نتيجة فشلها قتل زيد بن علي، وصلبه إلى جذع نخلة مدة أربع سنوات أو أكثر، حتى قال أحد شعراء بني أمية مفتخراً بذلك: صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة ولم نرَ مهدياً على الجذع يُصلبُ يستذكر الكاتب في روايته (محطات) ، شخصية الشهيد زيد بن علي مقرونة بما ترتكبه السلطات والأنظمة الفاشية من قتل وتعليق المناضلين والثائرين على أعمدة الكهرباء: (هذه الممارسات الفاشية ليست غريبة على تاريخ المُستبدّين في العالم العربي والإسلامي، فتعليق جثة الثائر "زيد بن علي" أحد شواهد هذه الممارسات الوحشية.) 2 الإمام موسى الكاظم وهو الإمام السابع في سلسلة أئمة أهل البيت، وضريحه مع حفيده الإمام محمد الجواد في المنطقة التي حملت اسمه لاحقاً (الكاظمية) غرب بغداد، وقد كانت تُسمّى في العهد العباسي بـ(مقابر قريش) ومن ألقابه (الكاظم، باب الحوائج، راهب بني هاشم، أبو الجوادين) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – ثلاثية محطات (البياض الدامي) : ص132 2 – كفاح: ص175
جاء في ثلاثية (محطات) : (عليك يا بو الجوادين يا باب الحوائج، لنك تسفرهه بوجهي وتأمنّي بوطن.)1 ("مظلوم" يدخل الحضرة الكاظمية، يتأمل هذا الصرح المهيب، يقف خاشعاً ليقول كعادته في زيارة أضرحة الأئمة والرموز الدينية والإنسانية: السلام عليكم يا من كافحتم من أجل الحق والعدل وصيانة كرامة الإنسان، السلام عليكم يا من قاومتم الباطل وأهله، وقارعتم المستبد وحشده.) 2 الإمام المهدي (الحجة المنتظر / الصاحب) وهو الإمام الثاني عشر في سلسلة أئمة أهل البيت، وقد ارتبط اسمه وشخصه بكثير من الموروثات الشعبية المتداولة، ومن المؤكد أنّ بعضها لا يمت إلى الحقيقة بصلة، ومنها علامات ظهوره بآخر الزمان، فعندما يسود الهرج والمرج والقتل وسفك الدماء، يدغدغ مشاعر الناس خروج (المهدي، أو المُصلح، أو المُنقذ) وفي ثلاثية (محطات) ، نجد الإشارة إلى الإمام المهدي في نصين: هذا النص يشير له بأحد ألقابه (الحجّة المنتظر) : (صديقه "المُلّة زيدان" غالباً ما يُردّد على مسامعه تنبؤات آخر الزمان منسوبة للأولياء والأوصياء وأصحاب الكرامات بطريقة "سيأتي زمان على أمتي..." أغلبهـا أخبار تتبرم بقادم الأيام وسوء أخلاق وأحـوال الناس وأنّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – كفاح: ص5 2 – البياض الدامي: ص53
العالم يسير نحو الخراب والدمار ومزيداً من الجوع والفساد، فيحكمنا الصبيان، وتأخذ النساء تطارد الرجال، ويكثر اللواط، ويخون الصديق صديقه، وتخون الزوجة زوجها، حتى ظهور الحجة المنتظر.) 1 وهذا النص يشير له بلقب (الصاحب) (والله يعمّي هاي علامات طلوع الصاحب) 2 سيد يوشع: ولقبه (سبع الهور) ، أحد السادة العلويين، يرجع نسبه إلى الإمام موسى الكاظم عليه السلام، وهو من تُنذر له النذور وتُهدى له الهدايا، يقع ضريحه على ضفاف الهور في ناحية الإصلاح على مسافة 45 كم عن مركز مدينة الناصرية. يذكر الكاتب في روايته (محطات) عن "سعيّدة" أنها: (أعادت تأكيد نذر ديكها الأبيض لسيد "يوشع" إنْ أعاد إليها حبيبها "ناطور" سالماً واجتمعا تحت سقف واحد.) 3 (خالة برد حيلج ديجي منذور لسيد "يوشع" وما يصير عليه كل شيء.) 4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – البياض الدامي: ص83 2 – العربانة: ص104 3 – البياض الدامي: ص113 4 – المصدر نفسه: ص119
(أكدّت "سعيّدة" نذرها للديك الأبيض وهو ملكيتها الوحيدة لسيد "يوشع" .. تدرين "حاشوش" نذر له خروف إذا صرتي من نصيبه.) 1 وفي هذا النص من الرواية يصوّر الكاتب حالة المرأة في زيارتها لضريح الولي: (انعطفت الزوارق صوب قبة السيد "يوشع" التي تتوسط الهور كغيرها من عديد الأضرحة وبنايات السادة والأئمة المنتشرة طول وعرض الهور.. دخلن إلى الداخل، حلّت "سعيّدة" حزامها وهي عادة المرأة الريفية المهضومة والمهمومة عندما تريد أن تشتكي همها وألمها لأحد السادة أو الأولياء لينتصر لها ضد الظالمين، جلست عند شباك السيد مسندة رأسها على الشبك ومطلقة العِنان لدموعها لتنهمر بغزارة وهي تتوسل وتترجى السيد أن يحقّق حلمها ويعيد لها حبيبها سالماً من محرقة الموت على الجبهة، ويخلصها من "حاشوش" وزمرته، وإنها لم تزل عند وعدها في إيفائها بالنذر، فالديك الأبيض لا يمكن أن يكون إلا من حصة سيد "يوشع" وبعد وياه بيرغ أبيض، وكيلو "ملبّس واهليّه" وجيس حِنّه أحنّي به شباجك يسيّد.) 2 ولا يفوتنا أن نذكر ما أشار إليه أحمد أمين عن إحدى عادات التبرك الغريبة في مصر والتي تُسمى "نعل الجلشني": (الجلشني مسجد في القاهرة عند مسجد المؤيد، وهناك نعل صغير يزعم الناس أنه نعل الشيخ الجلشني، والناس يعتقدون في هذا النعل ويتبركون به، ويشربون من مائه غرفاً من بئره، وله يوم مخصوص في الأسبوع هو يوم الأربعاء، يُزار فيه الجلشني ويُتبرك بنعله!) 3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – البياض الدامي: ص120 2 – المصدر نفسه: ص131 3 – أحمد أمين، مصدر سابق: ص377
سيد أحمد أبو رايات وهو السيد أحمد بن أبي علي الحسن بن محمد الحائري ينتهي نسبه بالإمام موسى الكاظم، ولقبه (أبو رايات) ويقع ضريحه في ناحية الفجر بمحافظة ذي قار. وكغيره من المراقد الدينية، يُزار ضريحه، وتُنذر له النذور، كما جاء في هذا النص من ثلاثية (محطات) : (السيد أحمد: صاحب القبة الخضراء التي تطاول ذؤابات القصب والبردي داخل الهور، يقصده الزوّار عن طريق الزوارق من القرى المجاورة، فهو ملاذ المرضى وأنين النساء المضطهدات ومحط أحلام العشّاق والعاشقات وحسراتهن، ينذرن له النذور ويحضرن الحنّاء والبخور كل حسب مقدرته.) 1 طعام الحَمام اعتاد بعض الناس عند زيارتهم للأولياء، تقديم الطعام للحِمام المتواجد بكثرة في زوايا جدران تلك الأضرحة، ولم يغب عن الكاتب وهو يذكر ذلك في روايته: فقد جاء على لسان أم سلام: (داده أم كفاح: أحس براحة وأمان من أزور أضرحة هذوله الأولياء والأئمة، وكل مرة آخذ وياي "جيسين" من حَبّ الحنطة، واحد لحَمام عبدالقادر والثاني لحَمام الكاظم عليه السلام، داده هذا الحَمام يبيّن يفتهم من يخلّي هاي المراقد مكان عيشته وتفريخه.) 2 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – العربانة: ص44 2 – البياض الدامي: ص81
وبمناسبة الحديث عن الحَمام والأولياء، لم يغب عن ذهن الروائي حميد الحريزي الإشارة إلى المثل الشعبي المتداول: (مثل حَمام الكاظم .. ياكل بالكاظم ويضرّﮒ بالمعظّم)! ، فلا شكّ أنّ هذا المثل الساخر جاء على خلفية التعصب والصراع المذهبي المتبادل، فلذلك يشير الكاتب إلى سخريته من المثل ورفضه على لسان أم سلام: (داده أم كفاح: خو إنتي ما مصدكة هذا المثل اليـﮔول "مثل حَمام الكاظم .. ياكل بالكاظم ويضرﮒ بالمعظّم" .. برد حيلهم يردون يخلّون الحيوانات تشترك بذنوبهم وجذبهم .. يعني معقولة الكاظم عليه السلام يرضه حماماته يرحن يضرﮔن بالمعظم! .. تبتسم حياة لبساطة وخفّة دم أم سلام، نافية تصديقها لهذه الأمثال، فالكاظم والمعظّم والـﮔيلاني كلهم يستحقون الاحترام والتبجيل وهم من الصالحين.) 1 القسم بالأولياء القَسَم (الحِلف أو اليمين) باسم الولي أو لقبه أو ضريحه، أمر شائع كثيراً في الموروث الشعبي، بمناسبة أو دونها، والقسم وإن كان موجوداً في القرآن الكريم، ولكنه أصبح مثار اختلاف بين فقهاء المسلمين عندما يكون مرتبطاً بأشخاص وأفراد حتى لو كانوا بمنزلة الرمز أو المقدّس، ولكن الموروث الشعبي لا يعبأ بكلام الفقه! في ثلاثية (محطات) جاء القسم على لسان "غنّوده" : (والعباس أبو راس الحار، أخلّي كل واحد منكم تحت نجمة) 2 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – البياض الدامي: ص81 2 – العربانة: ص159 وعادة القسم بالأولياء عند الناس، ليست مقتصرة على العراقيين فقط، فهذا أحمد أمين وهو يُعدّد بعض عادات المصريين: (والنبي الّلي حطيت إيدي على شبّاكه: تعبير يقسم به من حج وزار النبي ووضع يده على ضريحه .. والنبي ما كان ينعز) 1 وما دام الحديث قد جرّنا عن القسم بالأولياء، وعادات المصريين، فلا يفوتنا أن نستذكر مقطع من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة، حيث يصف الكاتب، شخصية كمال بن السيد عبد الجواد بطل الثلاثية: (يعزّ عليه جداً أن يحلف كذباً بالحسين خاصة لولهه به .. يود لو يقتلع الماضي السيئ من جذوره، وأن يبدأ صفحة جديدة نظيفة، وذكرَ الحسين، وموقفه عند أصل مئذنته حيث تتراءى وكأن هامتها تتصل بالسماء، وسأله في ضراعة أن يعفو عن زلته وهو يشعر بفضاضة من اجترأ على حبيب بإساءة لا تغتفر، وغرق في توسلاته مليّا) 2 وعندما نجد شخصاً ما لا يقسم بما تعوّد عليه الناس حسب موروثاتهم الشعبية، نجد أنه مثار دهشة واستغراب من قبل الآخرين، وقد أشار الكاتب إلى ذلك في أحد نصوص روايته: (لـ"سويدان" حكاية خاصة ستبقى معشعشة مع أسئلتها في مخيلتي فترة عيشنا في الريف دون أن أعثر على جواب يفسر لي تفرده في سلوكه وتصرفاته عن بقية رجال القرية، منها أن كان لا يقسم بالله أو الرسول أو أحد الأولـياء مطلقـاً ومهمـا كان الحدث أو موجبات أداء اليمين، بل كـان ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – أحمد أمين، مصدر سابق: ص392 2 - نجيب محفوظ، رواية بين القصرين، ص51 ، دار الكتاب العربي، مصر - 1956
يحلف "وراسك" و "الشجرة" وحق هذه "المكينة" .. أي بأي شيء آلة أو نبات قريباً منه ومن محدثه.) 1 ولا يقتصر الموروث الشعبي على القسم بالأولياء ومن يتعلق بهم من أشخاص، بل يتعدّى ذلك بأحداث زمانية ومكانية لها علاقة بهؤلاء الأولياء، كما يرد ذلك في هذا النص من الرواية: (ربي بجاه هاي المغربية ومصيبة كربلاء وهضيمة الفقرة والمساكين، أريدك ما تخلّي للظالم ضجر!) 2 العزاء اعتاد العراقيون في الوسط والجنوب إقامة مجالس عزاء بمناسبة وفاة أو شهادة أحد أئمة أهل البيت عليهم السلام، كجزء بما يُسمّى عندهم (الشعائر الحُسينية) ، ولعل أهم هذه المجالس هي تلك التي تتعلق بذكرى عاشوراء وما صاحبها من مأساة مؤلمة ضربت بالصميم أعماق المسلمين جميعاً. وفي ثلاثية (محطات) لا يغيب عن الكاتب أن يشير لذكر مجلس العزاء وهو يصف حالة بطل الرواية "مظلوم" : (كان يجد متنفساً لتفريغ همومه نحيباً مسموعاً تحت منبر قارئ الحسين المقامة في المدينة أو عند أحد الجيران، فيشعر بعدها بالراحة .. وينسى نفسه وهو يردد: "أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء" فينبهه الحاضرون أنّ مجلس العزاء قد انتهى، فما باله وكأنه في عالم آخر.) 3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – العربانة: ص85 2 – المصدر نفسه: ص68 3 – المصدر نفسه: ص94
التمن وقِيمة وهي أكلة شعبية يتم تناولها في مناسبات العزاء المخصصة لأهل البيت وأكثر ما يتم تناوله منها في شهري محرم وصفر، و(القِيمة) تتكون من هرس اللحم مع الحمص بنفس الكمية، مع إضافة بقية المطيبات الأخرى. في أيام ذكرى عاشوراء من كل عام، اعتادت بعض العوائل العراقية في مناطق الوسط والجنوب، أن تعمل وجبة أكل اسمها (تمن وقِيمة) ، بعضهم يقوم بتوزيعها بشكل خاص للحاضرين في مجالس عزاء الحسين عليه السلام في المساجد والحُسينيات، وبعضهم يقوم بتوزيعها في بيته لعموم الناس. وأحياناً يتخلل توزيع الأكل تدافع بين الناس دون سبب مقنع، لذا نجد الروائي حميد الحريزي يشير بشكل ساخر لذلك في ثلاثيته (محطات) .. وسخرية الكاتب هنا الغرض منها الإصلاح والتهذيب. (لمح جمعاً من الناس صغاراً وكباراً، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، وهم يحاولون اقتحام أحد البيوت. "مظلوم" يسأل: ما تـﮔلي انتم عليمن ملتمين وتدافعون وتريدون تكسرون الباب؟ الجواب: عمّي هذوله عدهم عزيمة "تمن وقيمة" ثواب لأبي عبدالله الحسين، واحنه جايين ناكل ونتبرك. "مظلوم" يسخر منهم مستغرباً ومستهجناً: ولكم هذا يا ثواب؟ هاي هرفله وقلة حياء، ولكم الحسين ضحّه بدمه في سبيل الناس، وأنتم واحد يسحـﮒ إبطن الثاني ويدوس أخوه وأبوه .. كل هذا وتسمّونه ثواب!)1 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – العربانة: ص103 – 104
النذر ورد النذر في القرآن الكريم في عدّة موارد منها قوله تعالى: {فقولي إنّي نذرتُ للرحمنِ صوماً فلن أُكلّمَ اليومَ إنسيّاً} 1 وقوله تعالى: {يُوفُونَ بالنذرِ ويخافُونَ يوماً كان شرُّهُ مُستطيراً} 2 عرف العرب النذر في العهد الجاهلي، ولعل النذر الأشهر هو نذر عبدالمطلب بن هاشم جد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) ، عندما نذر أن يذبح أحد أبنائه أذا رزقه الله بعشرة من الأولاد، ولمّا رزقه الله بما تمنّى وأراد الإيفاء بنذره، كانت القرعة تقع على عبدالله والد النبي المصطفى، وعندها توسطت قريش لديه، ففداه بذبح مائة من الإبل. وقد اختلف فقهاء المسلمين في النذر المُقدّم لأضرحة الأولياء، فهناك من عدّه شركاً لله ولا يُجوّزه، وهناك من عدّه صحيحاً لا يُنافي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى. أشارت ثلاثية (محطات) إلى موضوع النذر في أكثر من مورد، منه ما ذكرناه عند الحديث عن (سيد يوشع) وعن (السيد أحمد)، ومنها أيضاً: (قاصدين زيارة الإمام علي عليه السلام، مصطحبين معهم نذورهم من الخراف السمينة محمولة على "سلّة" السيارة إيفاءً لنذر تعهدوا به، لشفاء مريض أو لتحقيق أمنيّة بدت مستحيلة.) 3 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – سورة مريم: 26 2 – سورة الإنسان: 7 3 – العربانة: ص134
وعادة تقديم النذر للأولياء، تكاد تكون واحدة في معظم البلدان العربية، حيث يشير أحمد أمين عن النذر عند المصريين: (اعتاد كثير من المصريين تقديم النذور إلى المشايخ الكبار، كالسيد البدوي... وهم عادة ينذرون النذر كأن يقولوا: إذا شفي ابني المريض من المرض فللسيد البدوي خروف، وإذا قضيت لي حاجة فللسيد البدوي عشرة جنيهات، وهم يوفون بنذورهم على الأكثر خوفا من السيد البدوي أن ينتقم منهم إذا لم يفوا.) 1 وقبل أن نختتم هذا الفرع من قسم المعتقدات الشعبية، نشير إلى ما ذكره أحد الباحثين عن زيارة قبور الأنبياء في مدينة السلط الأردنية وربطها بموضوع العادات والتقاليد، بينما هي من المعتقدات الشعبية: (ومن تقاليد أهل السلط، زيارتهم لقبور الأنبياء شعيب ويوشع وجاد، وخاصة أيام الربيع والصيف، وأخذ قطعة من القماش الأخضر تسمى "خلعة" من الموجود على الضريح توضع مع الحجاب بطرف العـﮔال أو الحطة.) 2 المعتقدات التي تتعلق بالمكان بحسب مقولة العرب: (شرف المكان بالمكين) ، فقد اكتسبت بعض المدن العربية والإسلامية مكانةً روحية عند المسلمين، مثل (مكة / المدينة / القدس / الكوفة / النجف / كربلاء / الكاظمية / سامراء ..الخ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – أحمد أمين، مصدر سابق: ص374 2 - محمد غازي مبارك، مجلة التراث الشعبي، ص73 ، العدد الثاني لسنة 1965 – بغداد.
وأصبحت المدن التي ضمّت بين جنباتها رموز الإسلام وأبطاله محل اهتمام أفراد وجماهير الشعب من خلال زيارتها، إما من باب (البركة) أو لغرض التزود بشحنة روحية وإيمانية إضافية. وهكذا نجد الروائي حميد الحريزي يصف حالة "مظلوم" بطل ثلاثية (محطات) ، وهو يطوف في شوارع مدينة الكاظمية، مثوى ضريح الإمامين، (موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد) : (هذه المدينة المقدسة التي مات رمزها "موسى الكاظم" في سجن الطغاة، إنها رمز من رموز المعارضة للمستبدين والطغاة، أراد "مظلوم" أن يستمد من هذه المدينة شحنة من الصلابة تزيد قوة وإصرارا على التواصل، فـ"باب الحوائج" لا يعني المخلص السحري، والمخلص المنتظر للفقراء والمظلومين تحفزه الدموع والحسرات والأدعية والنذور، التي أصبحت مصدراً لعيش شلّة من الطفيليين والمنتفعين من هموم المُعدمين والبسطاء، بل هو مفتاح ومصباح طريق يدلك على طريق المقاومة والصمود حتى الموت من أجل قضية عادلة.) 1 المعتقدات المتصلة بالحيوان 1 – سمك الجرّي أختلف فقهاء المسلمين في حُرمة أو حِلّية سمك (الجرّي) ، فبينما أجمع فقهاء الإمامية على حُرمته استناداً لقاعدة فقهية عندهم: (جواز أكل ما كان له فَلْس "قشر" وعدم جواز أكل ما لم يكن له فلس من الأسماك) ، بينما ذهبت بقية المذاهب الإسلامية الأخرى إلى حِلّيته، ولا علاقة للإمام الحسين واستشهـاده في هذه الحُرمة، وإنما هو من مختلقات الخيال الشعبي لا غير. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – كفاح: ص190
نجد في ثلاثية (محطات) إشارة لذلك الموروث من خلال هذا النص: (الجرّي لم نكن نتناوله في مناطقنا لأسباب غير معروفة، هل لكونه دون قشور؟ أم كما يُقال بأنه خبط الماء أمام الإمام الحسين، فحرمهُ من شرب الماء؟) 2 – الفختاية على مدار التاريخ، كان الحَمامُ حاضراً في يوميات الشعوب، فصوته للنشوة والطرب تارةً، وللحنين والشجن تارة أخرى، وقد عبّر الشعراء العرب عن لهيب الحب ولوعة الفراق من خلال موضوعة نَوْح الحَمام. كما في هذه الأبيات لأحد الشعراء، التي تربط العلاقة بين نَوْح الحَمام ولهيب الشوق: وقد هاج شوقي أن تغنّتْ حمامةٌ مُطوّقةٌ ورقــاءُ تصدحُ فــي الفجرِ تغنتْ بلحنٍ فاستجابتْ لصوتها نوائحُ بالأصـياف فــي فَنَنِ السّدرِ إذا فترتْ كرّتْ بـلحنٍ شجٍ لهــا يُهَيّجُ للصبّ الحزين جَوى الصدرِ وعلى هذا المنوال، نسج الخيال الشعبي العراقي من عندياته كلاماً على صوت الفاختة أحد أنواع الحَمام، فقد اشتهر في الموروث الشعبي عند سماع هديل الفاختة، أن يتم محاكاتها بترديد: يا قوقتي وين أختي؟ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – العربانة: ص34
بالحلة إشتاكل؟ باﮔـلا إشتشرب؟ ماي الله ولم أعثر على مصدر ذي شأن يُفسّرُ هذه المحاكاة أو التقليد. في ثلاثية (محطات) ، كان هديلُ "الفاختة" حاضراً من خلال مقطعين: (صُوت "ياقوقتي" للفاختة، يبدّد وحشة الصمت في البستان) كفاح ص178 (يستمتع بانتباه شديد لصوت الفاختة، وكان يعد مرات قوقتها "يا قوقتي .. يا قوقتي"، فمرة ثلاثة وأخرى خمسة لكنها لا تتجاوز الثمان مرات، يستغرق كثيراً محاولات فك شفيرة خطابها، خصوصاً حين تبادلها فاختة أخرى القوقتة، يدخل في عالم الاحتمالات حتى يشعر بالعجز مخاطباً نفسه: ما بالك يا مظلوم، هل تريد أن تمتلك قدرة سُليمان في فهم لغة الطيور التي يُقال أنّ عمرها أكثر من 60 مليون سنة؟.) البياض الدامي 62 3 – الغراب جاء في المثل الشعبي: 1 – (الغراب ما يدلِّي إلا على الخراب) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 – كفاح: ص178 2 – البياض الدامي: ص62
2 – (ﮔالوا للغراب ليش تبوﮒ الصابونة، ﮔال طبعي الأذيّة) 3 – (مِثِل غرابِ البَين) : يُضرب لمن يكون شؤماً على الناس. 4 – (مِثِل الغرابْ مضَيِّعِ المَشيِتين) : يُضرب لمن يحمل نفسه على غير ما طبعت عليه من طبيعة، كالغراب الذي أراد أن يُقلد غيره في مشيته، فأضاع مشيته الطبيعية كما أضاع المشية الأخرى التي أراد تقليدها. وإلى ذلك يشير الشاعر العربي: وكم من غرابٍ رام مشية قبجة فأُنسي ممشاهُ ولم يمشِ كالحجلِ وكان للكلدانيين (أي العراقيين) شهرة لا تُبارى في معرفة أساليب التطيّر.. فكانوا يتشاءمون ويتطيّرون من الغراب أو غراب البين، أو الغراب الأسود.. وأجمع العرب والعبريون على اعتبار الغربان والبومة من الحيوانات النجسة المشئومة) 1 الغرابُ رمز للفراق والموت، والغراب مثمن سلبياً في الثقافة العربية بشكل عام ربما لشدة سواده كما يقول عنترة: فيها اثنتان وأربعين حلوبة سوداً كخافية الغراب الأسحم وقد سمّاه العرب القدماء: (غراب البين وفراق المحبين)، تماماً كما سمّوا الموت (هازم اللذات ومفرق الجماعات) وارتبط الغراب بالفضاءات المعتمة التي تقترن بالموت والهلاك وخاصة البئر. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 – شوقي عبد الحكيم، مدخل لدراسة الفولكلور والأساطير العربية، ص102 ، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة – 2012
فالغراب كائن معتم يتهدّد كل وصال بفراق محتمل، فهو نذير شؤم لذلك تشاءمت منه العرب وتطيّرت من صوته وذكرت ذلك في شعرها: ليت الغراب الذي نادى بفرقتنا يُعرّى من الريش لا تحويه أوكار فيما قال الآخر متحدياً ما توارثه العرب من شؤم الغراب: ولا أنا ممن يزجر الطير همّه أصاحَ غُرابٌ أم تعرّض ثعلبُ وهكذا يكون الغراب من خلال لونه الأسود، وصوته الذميم، وارتباطه بالموت وأكل الجيف ودفن الطعام ومشيته الرديئة حاملاً لخوف لاواعي للإنسان –المتطيّر منه– من الفراق والموت . وهكذا ثمّنت الشعوب سلبياً رمز الغراب وأسندوا إليه صفات القبح والموت، وجعلوه مرتبطاً بالموت والفراق والانحدار في جوف مظلم، فلا غرابة إذن إذا كان مؤثثاً في حكاياتنا الشعبية للفضاء المعتم الذي ينعق بالظلمة والفراق والموت .1 وفي ثلاثية (محطات) ، نجد الغراب ونعيبه ورمزيته التي تحمل الشؤم، من خلال عدّة نصوص، أهمها: 1 – (ضحك بملأ منقاره، الغراب الذي كان يحوم فوق سماء داري.. كنت أتشاءم منه خلال شبابي، فقد كنت في هذا منسجماً تماماً مع رأي جدتي وجدي.) كفاح ص113 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 – د. محمد فخرالدين، رمزية الغراب في الحكاية الشعبية، مجلة الموروث الشعبي، العدد العاشر 2016 – البحرين. 2 – كفاح: ص113
2 – (خيّه فضيلة، كلبي لايج وخايفة، مدري من حلم أمس، مدري من نعيب الغراب الميشوم..) 1 3–(زاد كدرهن وتطيّرهن صوت نعيب الغراب يحوم فوق بيوت القرية)2 الطنطل يزدحم الموروث الشعبي العراقي كغيره من شعوب العالم، بحكايات وأساطير مرجعه الخصب ما يتميّز به من خيال شعبي .. ومن هذا الموروث ما يُسمى بـ(الطنطل). فهناك من يقول أنّ "الطنطل" مَلَك غير صالح، مُسخ جزاء مخالفة ارتكبها، وهو وقح السيطرة على من يلاقيه من بني آدم، أو هو جِنّي شرير، أو عابث أو مهرج أو خليع كما يحدث للأنس، وهو لا يظهر عادة إلا في الظلام، ولا يلوح لأكثر من واحد إلا نادراً، ويُقال أنه يتراءى بشكل شراع سفينة أو بشكل عملاق أو على هيأة كرة من شليلة غزل صوفي وهكذا دواليك، ويُقال أنه يتهيّب من اسم الملح، ولذا يُلقب بـ(الماصخ) ، أي عديم الملح، ولعل إلصاق هذا اللقب به مستمد من تصحيف (ممسوخ) . وتكثر الأحاديث عن "الطنطل" في جنوب العراق، وتتركز ضمن مدن البصرة والعمارة والناصرية بوجه خاص. ومهما يكن من أمر، فما لم تقترن أسطورة الطنطل بأسانيد علمية صحيحة، فليس من الميسور التصديق بما تحتويه من خيالات وأوهام، فكل شيء لا يستند على حقيقة علمية ثابتة لا يمكن الاعتداد به. 3 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 – البياض الدامي: ص130 2 – المصدر نفسه: ص134 3 – عبدالحميد الكنين، مجلة التراث الشعبي، العددان التاسع والعاشر، 1964 – بغداد
وفي ثلاثية (محطات) ، نجد الروائي حميد الحريزي، قد أشار ساخراً إلى أمر "الطنطل" المرتكز في ذهنية الفرد شعبياً نتيجة التداول في حكايات وقصص الأجداد والجدّات عبر الأجيال: (عندما يعود الناس من الزيارة يكونون محمّلين بأخبار مختلفة تكاد لا تُصدّق يتم تداولها داخل المدن .. ومنها أنّ مجموعة من الطناطل استوطنت الأهوار .. وربما يصل الأمر إلى تجفيفها إن استفحل أمر هذه الطناطل التي أخذت تتكاثر يوم بعد يوم وربما هي مسيّرة من قبل قوى سحرية معادية للحكومة!!.) 1 الجن موضوع الجن موضوع واسع ومتشعب، والخوض فيه سيخرجنا من موضوع الدراسة، ولكني سأشير إلى ما ذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: (ومن مذاهبهم –أي العرب– أنّ الوَرَل والقُنفذ والأرنب والظبيّ واليربوع والنعام مراكبُ الجنّ يمتطونها، ويزعمون أنهم يَرَون الجنّ ويظاهرونهم ويخاطبونهم، ويشاهدون الغول، وربما جامعوها وتزوّجوها.)2 أشارت ثلاثية (محطات) إلى الجنّ الذي تعرض لـ"سعيّدة" : (أختطفها أحد الطناطل، وقد يكون أخذها الجن الذي تزوجها وأفقدها عقلها) 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 – البياض الدامي: ص156 2 – ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، المجلد العاشر ص232 ، دار الكتاب العربي، بغداد – 2007 3 – البياض الدامي: ص158
الرُّقى ربما يعتقد البعض أنّ معتقد الرُّقى والطلاسم والتعاويذ جاء مع الإسلام، والحقيقة هو أقدم من ذلك بكثير، كما يقول هذا الباحث: (الساميّون العرب، أكثروا من استعمال الطلاسم والرُّقى والمعوذات والتعاويذ لدفع الأوبئة.. وهذه المعتقدات في مجملها، أمكن التعرف على منابتها الأولى منذ السومريين اللاساميين – الألف الرابع ق.م – منها الرُّقى والطلاسم والأحجبة.) 1 ولكنّ الإسلام حاول تهذيبها وتشذيبها لاحتمال تداخل الشرك فيها، كما هو المأثور عن النبي محمد صلى الله عليه وآله: "لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيها شرك" 2 ويشير "ابن أبي الحديد" في معرض حديثه عن معتقدات العرب: (فأما مذهبُهم – أي العرب – في الخَرَزات والأحجار والرُّقَى والعزائم فمشهور، ومنها "السُّلوانة" وهي خَرَزة يُسقى العاشق منها فيسلو في زعمهم .. ومن خَرَزاتهم "الهِنّمة" تُجتلب بها الرجالُ وتُعطف بها قلوبهم.) 3 في ثلاثية (محطات) ، إشارة إلى ما تعرضت له "سعيّدة" من لوثة عقلية، فكان علاجها حسب الموروث الشعبي: (ما تم تعليقه في رأسها من الرُقيّ والحروز وشرائط القماش الملونة صارت تشبه لوحة سريالية) 4 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1 – شوقي عبدالحكيم، مصدر سابق: ص104 2 – ابن أبي الحديد، مصدر سابق: ص207 3 – المصدر نفسه: ص242 4 – البياض الدامي: ص135
*الموضوع جزء من كتاب بهذا العنوان ماثل للطباعة .
#حميد_الحريزي (هاشتاغ)
Hameed_Alhorazy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نص شعري
-
رواية (( امبراطورية الثعابين )) للروائي احمد الجنديل
-
عرض موجز لثلاثية محطات الروائية -للاديب حميد الحريزي
-
صدور كتاب جديد للاديب حميد الحريزي (صفحات من تاريخ الفن الرو
...
-
الواقع القائم وخيارات المستقبل
-
دراسة لرواية ((مرحبا ايها الاسفل)) للروائي محسن ضيهود الزبيد
...
-
دراسة لرواية ((شارع الكتروني)) للروائي صالح مهدي
-
من بلاد الثلج الى بلاد النار هاتف بشبوش صوت الجمال والثقا
...
-
من بلاد الثلج الى بلاد النا هاتف بشبوش صوت الجمال والثقافة و
...
-
دراسة ((بائع القلق)) للقاص انمار رحمة الله
-
التصابي- ققصج
-
طبيعة الحراك الاجتماعي ومتغيرات الثقافة العراقية .
-
الوطن المضام ، الفائض عن حاجة الحكام
-
المسخ - قصة قصيرة
-
المجهول _ رواية قصيرة جدا - للاديب حميد الحريزي
-
حقول وطني ليست متاحة لأسراب الجراد
-
دراسة حول رواية (( مالم تمسسه النار )) للروائي القدير عبد ال
...
-
ماذا عبد العبيدي ؟؟؟؟؟
-
الفتاح المطلبي يفتح مغاليق الذات في قصته (( الاقزام ))
-
عصافير الفلوجة - مقالة
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|