|
عن الأزمة وتجلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية
مهدي خالد
الحوار المتمدن-العدد: 6882 - 2021 / 4 / 28 - 09:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
تبدو القصة بأن العالم كان يسير وأتى الفيروس لتعطيله، والحقيقة عكس ذلك. العالم مأزوم ومعدلات النمو في تراجع، ومعدلات التضخم في ازدياد، والقدرة الشرائية في انخفاض مستمر، ودول واقتصاديات فاقت الديون قدرتها على السداد، وفي ظل تلك الظروف، أتى الوباء. هذه هي القصة الحقيقية.
في قلب هذه القصة تبزغ الأزمة، التي يُخيّل للكثيرين أنه لابد لها من حل، ولكن النشاط الطبيعي للمديرين والاستشاريين ورجال المال والسلطة في الأزمات هو التربّح، وبدلاً من وضع استراتيجية “لحل الأزمة”، تظهر ميول ربحية واستغلالية باسم “إدارة الأزمة”.
وبصدد تلك الأزمات وإدارتها يُعقب الراحل سمير أمين في كتابه “عن الأزمة” والذي خرج إلى النور عام 2014، تعقيباً ورداً على الأزمات الدورية داخل الرأسمالية، وردود أفعال الغالبية من شعوب الأطراف بحسب تعبيره -من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية- والتي يحركها ما هو اقتصادي، أي ما هو متعلّق بالأزمة ذاتها، حيث مشكلة الاقتصاد وتسييره وأزماته: “نسب الأرباح تنهار -ميل معدل الربح للانخفاض الدائم كما شرحه ماركس-، فحركة مضاعفة من المركزة والتمدد المعولم، فتصادر الاحتكارات الجديدة دخلاً مقتطعاً من الكتلة الأكبر قيمة الناتجة عن الاستغلال، فيسرّعون الغزو الاستعماري لمنطقة طرفية ما، فتسمح هذه التحولات البنيوية بغزو مالي جديد وتدشين لرأس المال يسمح بتحليق جديد في الأرباح، فتفتح مساحة جديدة للحرب أو صراع الطبقات المكشوف، وبالتالي للأزمة وإعادة إنتاجها”.
وعليه فالمجتمعات المأزومة -مثل مجتمعاتنا- ليست التي على وشك أزمة، بل التي اعتادت على العيش في ظل أزمات. أزمات يجري الالتفاف عليها وتغييبها بسياسات تعتمد على إنكار الواقع المعيشي الصعب، وبالتالي أصبح التنصل من المسئولية الاجتماعية منطق يحكم السلطة في الأنظمة العربية، التي اكتفت بحماية وجودها وتدعيمه بعقد تحالفات إقليمية ودولية بطابع أمني بحت وغرضها الأوحد الحفاظ عليها كسلطة وتأبيد الأزمات وتعليقها. وبذلك لم تعُد المشكلات والأزمات في كل قطر تحتفظ بخصوصيتها بقدر ما تتسم بمشاركة الهموم والتطلعات بين جماهير المنطقة، ونظرة لصراع الطبقات المكشوف والانفجارات الشعبية في لبنان والعراق ومن قبلهما السودان، وساحات الحرب في فلسطين واليمن وسورية وليبيا، والبؤر المأزومة والمحتقنة مصر والمغرب على سبيل المثال، كل هذا يحيلنا بالضرورة لتساؤلين مرتبطين وضروريين لفهم مآلات الواقع: لماذا تثور الطبقات الشعبية؟! ولماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟!
يتحدث سلامة كيلة في كراسته الصادرة طبعتها الأولى سنة 2007 ويجيب بأن: “هذه المسافة بين السؤالين ربما تطرح مشكلة الوعي الذي يحكم الحركة السياسية، والماركسية منها خاصة، كما يحكم المثقفين”.
وعليه فالمشكلة تتمثل في أن السؤال الأول طُرح بعد ثورة هذه الطبقات، ولم يطرح بشكله الاستشرافي والاستكشافي لمعطيات الواقع، فبالتالي لم تتوقف المشكلة على عدم الإجابة عن السؤال فقط، بل تجاوزتها لحالة من التخبط والضبابية وعدم وضوح للرؤى والأولويات الموضوعية والانسياق وراء تحديدات لا تسبقها تحليلات. وعلى الجهة الأخرى، فالسؤال الثاني طُرح ليس للبحث في ممكنات الثورة، بل يطرح من أجل التأكيد علي خمود وانصياع تلك الطبقات وانغماسها وتأبيدها في اللامبالاة من ناحية، ومن ناحية أخري لإثبات قدرة الأنظمة العربية على الثبات والبقاء رغم المعوقات التي تعرقل وجودها، وبالتالي تجاوزت المشكلة نطاق الإجابة للدخول في دوامات العدمية وتسيّد خطابات ساذجة مبنية على عدم جاهزية الجماهير للتغيير وتقبّله، وخطابات استعلائية مثبطة تحتقر الجماهير.
ولكي نتطرق للإشكالية السابقة لابد من وعي حقيقة أن السياسي يفكر وفق تصوّراته، بينما الجماهير تفكر وفق احتياجاتها، وأن السياسي كثيراً ما يهتم بالمتغيّرات وتأثيرها علي تصوره، أما الجماهير دوماً تبحث عن الثوابت لتأمين احتياجاتها، وعلى أثر ذلك فتقاطع تصورات السياسيين مع احتياجات الجماهير هي نقطة انطلاق كل عمل سياسي جماهيري، وهذه هي العلاقة التي تحكم السياسي بالجماهير.
بهذين التساؤلين يناقش سلامة مجريات واقع شعوب المنطقة (مصر 1977، تونس 1978، المغرب 1981، السودان 1983)، حيث تحركات وانفجارات الجماهير المتتالية في الأقطار المنهوبة، التي جاءت رداً علي سيرورة الإلحاق والإدماج في مجال رأسمالي معولم، وإخضاعها للقانون الرأسمالي الأساسي القائم على الحصول علي أقصى ربح من خلال استغلال الشركات الاحتكارية التي تضع يدها على الموارد والثروات المحلية، والبنوك الدولية المنفذة للإقراض وبرامج الإصلاح الاقتصادي التي تمتص قوة العمل المحلية.
فكانت تلك الانتفاضات هي بحق “ثورات الخبز”، وليست بانتفاضة “للحرامية” مثلما دعاها السادات ونظامه حينها، وأيضا موجة انتفاضات ما بعد 2010 بتونس ومصر وسورية وليبيا واليمن والبحرين، ثم الموجة التي نعيشها حاليا التي افتتحتها السودان ثم لبنان والعراق والجزائر، كل هذه الموجات المتعاقبة من انفجارات الطبقات الشعبية المقهورة، التي سقطت تحت خط الفقر بسبب عمليات الإدماج المتفاوتة للفقراء في العمليات الاقتصادية والسياسية على نطاق واسع، وعالمنا العربي خير دليل على ذلك، فينشأ الفقر في عالمنا المقصي كنتيجة لعملية الدمج الإجباري، فيحدث التفاوت نتيجة أن الشعوب تتعارض مصلحتها في طرف ضد الحكومة كوسيط تابع للشركات الكبرى والبنوك الدولية في طرف آخر، فتتسارع الحكومة لتميل في كفّة رأس المال التجاري والاحتكاري، تاركة الشعب للمعونات وحظوظ العناية القدرية.
هذه المنطقة -الشرق الأوسط وشمال أفريقيا- المُحاصَرة بحكومات التبعية المالية والوجود الصهيوني ومصاصي أقوات الشعوب ترفض كل استقرار زائف، تُهزَم ثورة، وتخطو أخرى، تُقمع ثورة بالرشاشات والصواريخ والطائرات والاقتتال الأهلي، وتندلع أخرى، فشبح الثورة الذي ينتاب عالمنا العربي، وبرغم كونه مازال شبح غير مُنظّم، إلا أنه يثبت ما اتفق الجميع على نفيه: أن شعوب هذه المنطقة ما زالت حاضرة، وأن الشعوب والجماهير تبني وعيها من خلال وجودها الجمعي، وأن أزمة هذه المنطقة الكبرى لن تُبعد وتُنحّي الثورة.
فالشعب اللبناني على سبيل المثال في انفجاره هو مُجسّد للحظاتنا المكبوتة، هو كاشف للأزمة البنيوية الاقتصادية-الاجتماعية التي تخضع شعوب منطقتنا لها، حيث مجموعة من العوائل والأغنياء تستولي على مقدرات شعب منهوب يجابه طبقة نهب حاكمة بالية تعتمد في بقائها على إرث رجعي وشبكة تبعية مالية واتصال عضوي بالكيان الصهيوني، في ضوء ذلك تتشكّل الطغم الحاكمة العربية، الطغم الجاثمة على طموحات وتطلّعات الشعوب في التغيير والثروة والحقوق والديمقراطية، وفي ضوء ذلك تأتي الإجابة على التساؤلين المُلحّين، ونرى شعوب انفجرت وأخرى مكبوتة، وشعوب تم إغراقها في الحروب.
فلا يزال استمرار الصراع في سورية والعراق واليمن وليبيا أحد الدوافع الرئيسية لانتشار الفقر إقليمياً، فبعد سنوات من الحرب السورية تشير التقديرات إلي وقوع 80 بالمئة من السوريين في الفقر المدقع، وأن متوسط العمر المتوقع قد انخفض بعشرين عاماً. في العراق وبعد عديد من الصراعات والتقلبّات والانحيازات الطائفية والدينية والتي خلفت موجات من النزوح الجماعي من المناطق والانخفاض في أسعار النفط وازدياد معدلات البطالة، وتزايد معدلات الفقر حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلي وقوع ما يقرب من 30 بالمئة في الفقر. وفي اليمن حيث مأساة صحية بسبب تفشي الوباء وعجز القطاع الصحي والنقص الهائل في الأدوية والغذاء والانتشار المروع للمجاعات. أما ليبيا فهي ساحة الحرب الأكثر سخونة اليوم، والتي تقام عليها التحالفات من كل حدبٍ وصوب.
في مصر والتي تعد أكبر دولة في العالم العربي من حيث السكان، كانت للاضطرابات السياسية تبعات كارثية على الحياة الاقتصادية والمعيشية، فقد زادت البطالة وانخفاض عدد السياح الوافدين وانخفضت احتياطات العملة الأجنبية وأصبح الجنيه المصري أضعف بكثير، وأصبح الوضع أكثر اختناقاً خصوصاً بعد خطة “الإصلاح الاقتصادي” التي أقرتها الحكومة بإشراف من صندوق النقد، والتي راكمت الديون والفوائد على الطبقات الأفقر، في ظل تنامي معدلات الفقر وضعف القدرة الشرائية والاستهلاك العام. في تونس تشير التقديرات إلي أنه يعيش واحد من كل ستة تونسيين تحت خط الفقر. المغرب هو مثال صارخ أيضاً للشعوب المكبوتة، حيث البطالة المتنامية وتطويق الريف وعزله وتهميشه. في لبنان نشهد تهاوي العملة المستمر أمام الدولار، ووقوع أكثر من نصف عدد السكان في الفقر والجوع.
هذه المأساة العابرة للحدود المصطنعة والخصوصيات والتي تتشاركها شعوب المنطقة، تضعنا أمام تساؤل آخر لا يقل أهمية وراهنية عن السؤالين السابقين، سؤال يتعلق بطبيعة وبنية السلطة في أنظمة المنطقة. الطبيعة التي يغلب عليها الطابع الأمني بدلاً من السياسي، وعليه فتصبح قيادة وتنظيم السلطة في أيدي الأجهزة الأمنية والعسكرية والاستخباراتية، والتي تعمل على تشكيل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي، في ضوء تحالفات إقليمية ودولية تهدف بالأساس لضمان سيطرة هذه الطبقات الحاكمة على شعوبها وإبقاءها في إطار الشروط والعلاقات السائدة، ومن خلال هذه الطبيعة تتمثل ثلاثة مستويات لفهم كيفية عمل هذه السلطة ومآلات الواقع وأولوية التحالفات.
أولًا: يلعب مفهوم “الأمن والأمان” دوراً أكبر بكثير من مفاهيم أهم كالتقدم الصناعي والتخطيط الاقتصادي والديمقراطية وحق العمل والطعام والسكن والعلاج، وعلي مفهوم الأمن تقوم كامل السلطة، وعليه يتم تحويل دفّة الإنفاق الحكومي، والانحراف بالموارد والمقدرات من الإنفاق على الصحة والتعليم والخدمات المعيشية والغذاء والسكن إلي المراقبة والإرشاد والتجسس والسجون والقضاء والبوليس والأسلحة وأجهزة المراقبة الحديثة والمعدات الحربية ووسائل الإعلام الموالية.
ثانيًا: اعتادت تلك السلطة عندما توضع في مآزق اجتماعية وأزمات اقتصادية أن تستدعي خطاب مبتذل بحجة أن وضعية الأزمة لم تتسبب السلطة في خلقها، وإنما فُرضت على السلطة ليس أكثر، وعلى إثرها يتم التحجج والاستفادة في نفس الوقت من الأزمات بكونها تعرقل سير الدولة وخدمة مواطنيها من ناحية، ومن ناحية أخري تعزز وضع وبقاء السلطة وتمرير سياساتها من قروض وديون وتقليل الإنفاق الخدمي والتقشف وقوانين الطوارئ والتنكيل بالمواطنين أمنياً وابتزازهم، وبالتالي بقدر ما تظهر السلطة قوية ومتماسكة بكونها لا تتيح أي ثغرة تنفذ منها المعارضة، بقدر ما تكون هشة بسبب عدم قدرتها على المناورة السياسية لاستنفاذها واستهلاكها لنفس الادعاءات، وإنهاك قدراتها ومؤسساتها وفقدان عناصرها للثقة والمصداقية في كل مرحلة.
ثالثاً: وفي ضوء النقطتين السابقتين لابد أن نرى ما وصلت إليه الأنظمة السلطوية في المنطقة من فشل لا يدع مجال للشك في تحقيق توافقات داخلية، لا من خلال مشاريع اجتماعية ولا أدنى حقوق وممارسات سياسية، ولا حتى رشوة اجتماعية لقطاعات تدعمها، بل ما زالت متمسكة بعدم التنازل لشعوبها، وبالتالي لا يوجد أمامها غير التنازل للقوى المالية العالمية كصندوق النقد، والقوى الإقليمية كإسرائيل، ومن هنا نفهم علام تقوم التحالفات الإقليمية التي تعكس طبيعة وبنية السلطة في أنظمة المنطقة، واتفاقيات تطبيع العلاقات مع الدولة الصهيونية التي تتناوب عليها سلطة تلو سلطة، لنصل بالنهاية إلى حلف صهيوني-عربي تتزعمه إسرائيل لحفظ الاستقرار والأمن بالشرق الأوسط، أو بمعنى أدق، استقرار وأمن أنظمة المنطقة كافة.
#مهدي_خالد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياسات الإنكار : محاولات يائسة للإلتفاف علي الواقع
-
لماذا تثور الطبقات الشعبية؟ ولماذا لا تثور الطبقات الشعبية؟
-
عن السيسي والفاشية التي يريدها
-
الإختيار : الإرهاب كطريقة لعمل السلطة
-
لا أدعم جيش بلدي
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|