صفوان داؤد
الحوار المتمدن-العدد: 6881 - 2021 / 4 / 27 - 02:58
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
ظاهرة الارتزاق قديمة ربما بقدم الحروب نفسها, وهناك وثائق عديدة تشير الى استخدام الامبراطوريات البائدة المرتزقة في حروبهم التوسعية, كجنود من الدرجة السفلى في الترتيب العسكري، يتميّزون بمهاراتهم القتالية والقيادية على حد سواء, والإمكانيات الهامة في تقديم المشورة للقوات النظامية، وصولاً الى الالتحاق بأطقم الحراسات الخاصة للزعماء(1). وها هو التاريخ يعيد نفسه مع أول توثيق عن المرتزقة استخدمتهم الإمبراطورية الفارسية لغزو إسبرطة في العام 492 ق.م, والآن في القرن الحادي والعشرين تستخدم الجمهورية الايرانية الاسلامية المرتزقة تحت غطاء ايديولوجي ديني في غزوها لسوريا. يعرّف المرتزق بأنه "كل شخص ليس من رعايا طرف في النزاع ولا متوطناً ضمت إقليم يسيطر عليه أحد أطراف النزاع, وأن لايكون موفداً في مهمة رسمية من قبل دولة ليست طرفاً في النزاع بوصفه عضواً في قواتها المسلحة"(2).
خلال القرون الماضية تقلصت ظاهرة المرتزقة حتى كادت أن تنعدم، مع ظهـور النزعة الوطنية وانتشار الايديولوجيات القومية ومن ثم الشمولية، وخُلِقَ الجنـدي النظـامي، وأصبح التجنيد الزامياً على مواطني الدولة فقط من مبدأ حق المواطنة واهتياج النزعة القومية. مع نهاية الستينات وبداية السبعينات عادت ونمت هذه الظاهرة من جديد وراحت تجتذب العسكريين والامنيين واًصحاب السوابق وراء المكسب المادي (3). يمكن القول أن عام 1975 هو عام الظهور الفعلي والممنهج لهذه الظاهرة مع ارسال شركة «سيكيورتي أدفايزوري سرفيسز» البريطانية، مئات المرتزقة إلى حربَي أنجولا وروديسيا، خلال الحرب الاهلية المشتعلة بين كل من «الحركة الشعبية لتحرير أنجولا»، و«الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا». بعد هذا التاريخ أخـذَ الإرتزاق بالانتشار بشكل واسع، وغدا إشهار شركات عالمية للمرتزقة مألوفاً تحت مسمى شركات حماية أمنيـة و/أو عـسكرية في مختلف أنحاء العالم (4). في الثلث الأخير من القرن العشرين تفشَّ الإرتزاق بشكل كبير، وبرز كظاهرة فرضت نفـسها على واقع الكثير من الصراعات المحلية، وأصبح حالياً مهنة احترافية تجتذب آلاف الساعين الى الكسب المادي.
يظهر تحليل الأزمات العسكرية أن للإرتزاق دور فاعل في النتائج الميدانية للصراعات, لكن لصالح الطرف الأقوى, حيث يتمتع المُرتَزق عادة بتأهيل قتالي عالي وأخلاقي منخفض, لذلك عادة مايميل بعرض خدماته الى الطرف المتمتع بموارد أعلى. وبحسب العديد من المختصين في مجال الأمن؛ إن المنعكس الفعلي للمرتزقة هو تحويل القوة الاقتصادية والمالية للدولة المستخدِمة لها الى قوة عسكرية بهدف الهيمنة, وهذا نراه فعلياً في محاولة الايرانيون وأيضاً الاتراك في استخدام فائض القوة لديهم في الهيمنة على الجغرافية السورية.
ادت الحرب السورية, وزيادة نفوذ الميليشيات العسكرية الموازية لجيش النظام السوري الى انهيار الدولة أو قاب قوسين من ذلك, والى تعمق الأزمات وتضرر كبير في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع السوري. وانعكس ذلك على ارتفاع احباط الناس وانغلاق فرص الحياة الكريمة امامهم والهروب الى الخيارات الأقصوية العدمية. وقد فتح العنف وانتشار الفقر الواسع، المجال للقوى المُحتَلة لسوريا إضافة للنظام السوري, أن يستثمر في الانسان السوري المقهور وتحويله الى آلة للقتل, أو بتعبير أكثر لطافة الى "مُرتزَق". وإن كانت الحركات الاصولية الإسلامية التي انفجرت كالقنبلة العنقودية على كامل ارجاء الجغرافيا سوريا تعبيراً ايديولوجياً نكوصياً عن عقود خلت من التهميش والظلم, فإن عسكرة النظام للأزمة السورية كانت الأكثر تأثيراً ومسؤولية عن إغراق المجتمع السوري في الهمجية. وكانت ممارساتها في التوحش للحفاظ على السلطة كفيلةً بأن تحول البلاد إلى أكبر منجم للمرتزقة في العالم. منجم يحقق عائدات اقتصادية وأمنية لحلفاء النظام وخصومه على حد سواء.
لقد ارتبطت الذهنية المتخلفة بديمومة القهر والتسلط كما يقول حجازي في كتابه "الانسان المقهور", وعلى ذلك نستطيع أن نفهم أن هناك إرادة سياسية واضحة لرأس النظام في الضعط على الشرائح الأوسع من المجتمع السوري كي لاتجتاز خطوط الفقر والتخلف المرسومة لها. إن كل أوليات الرضوخ والقمع والتسلط التي مارسها النظام بأساليبه الترغيبية والترهيبية قد زادت من حدة التوتر والعدوانية الناشئة عن القهر. لايوجد انسان على وجه الأرض يمكنه احتمال الاضطهاد والتبخيس والمهانة بشكل مستمر كما كان ومايزال حاصلاً في سوريا. وعندما تصل العدوانية الى مرحلة الاضطهاد فإنها تتحول إما ضد الذات وهذا يُفسِّر ازدياد حالات الانتحار في سوريا, أو يتم اسقاطها على الآخرين, وهنا ينشأ الدافع الذرائعي لتصفية الآخر, ويشكل الارتزاق أحد مخارجه؛ يصبح حاجة نفسية مُلِحّة لمجابهة الخواء أو العجز الوجودي الذي خلقه القمع والتسلط طويل الأمد. وخلال وضعية الارتزاق, يتحول المرتزق الى شخص فاقداً للإنسانية, لأنه بكل بساطة لايرى من يحاربهم بشر وإنما اشياء يجب القضاء عليها. إن فقدان الانسانية لدى المرتزق يجعلنا نفهم السهولة المُلفِتة التي يقبل فيها قتل الآخرين لابل واحياناً التشفي بها (5).
خلال السنوات الماضية تطورت ظاهرة استخدام المرتزقة في حروب الشرق الاوسط, ووجدنا مقاتلين سوريين بمهنة مرتزق تحت الطلب يتطوعون في قاعدة حميميم الروسية, أو كمقاتلين مُنتدبين الى مجموعات يقودها ضباط ايرانيون يُطلق عليهم اصطلاحاً أسم (الحجّة). أو -وهذا هو النمط السائد- كعقود دائمة أو مؤقتة لصالح الفرقة الرابعة, وهي جيش داخل جيش النظام السوري. في ليبيا وعلى طرفي الصراع وجدنا مرتزقة سوريين مجندين من قبل أنقرة دعموا حكومة الوفاق الوطنية, قاتلوا ضد مرتزقة سوريين مجندين من قبل موسكو دعمت قوات خليفة حفتر. تكرر المشهد في الصراع الأذري الأرمني؛ المرتزقة السوريين قاتلوا بعضهم على طرفي خط النار, أي حضيض هذا الذي وصل اليه السوري. بدأ كل هذا نهاية عام 2011 عندما اختار النظام السوري عسكرة الثورة السورية بدلاً من انتهاج الحل السياسي. لقد انجرفت سوريا في اتون الحرب, ولم يتردد اي طرف من الأطراف استخدام كل وسائل العنف المتاحة لديه, ولم يكن استخدام السلاح الكيميائي أشدها قسوة, بل كان استخدام القمع والاذلال وتهميش الشباب السوري. لقد خلقت الرمزيات الجمعية والخطاب السياسي والاعلامي وحتى التربوي للسلطة المركزية في دمشق علّية عنفية قهرية شكّلت مايمكن تسميته "ثقافة العنف" تحكم حتى مستويات الحياة اليومية للمواطنين .
تطور الوضع بشكل أكثر خطورة مع قبول النظام السوري خلال الحرب السورية تسليح جماعات (ميليشيات) خارج الجيش النظامي, شكّلت لاحقاً المنهل الاساسي من قبل الاطراف المؤثرة في الصراع السوري لاستثمارها. استثمار فرد مقهور وعنيف وجاهز ليقاتل ويقتِل؛ عَمَلَ النظام في البداية على صناعته, ثم أتى هكذا وبكل بساطة ليشغله الايراني بجانب مرتزقة مذهبيون من باكستان والعراق وأفغانستان, ويشغله الروسي والتركي بجانب مرتزقة من وسط اسيا. غير أن أنقرة في عهد حزب العدالة والتنمية الحاكم كانت الأكثر دينامية وجرأة في استخدام هذا النمط من التجنيد, ونجحت الى حدّ بعيد في استثمار المرتزقة السوريين لأهدافها في المنطقة. لقد ولّد هذا النمط غير الأخلاقي المتنامي في استخدام هؤلاء المقاتلين غير الشرعيين قلقاً دولياً واسعاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يمكن أن تتحملها الدول الراعية لهم وفي مقدمتهم تركيا. وكانت قد ادانت الامم المتحدة سابقاً على لسان مبعوثها الخاص إلى سوريا غير بيدرسون أنقرة, عقب كشف «المرصد السوري» لحقوق الإنسان نقل السلطات التركية لمقاتلين سوريين بينهم أطفالاً قسّراً للقتال في ليبيا. وبحسب «الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم وتدريبهم» في المادة الخامسة منه: "لا يجوز للدول الأطراف تجنيد المرتزقة أو استخدامهم أو تمويلهم أو تدريبهم، وعليها أن تقوم، وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية، بحظر هذه الأنشطة". كما اًصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارات في هذا الشأن؛ المادة 47 من الملحق الأول الاضافي لاتفاقيات جنيف 1949, الاتفاقية الدولية ضد انتداب وتمويل وتدريب المرتزقة عام 1989 ثم تلتها القرارات 49/150 عام 1994 و51/83 عام 1996 و52/112 عام 1997 1467/ 4720 عام 2003 والتي تدين وتجرم تجنيد ونقل واستخدام المرتزقة في الصراعات العسكرية.
تعد ظاهرة الارتزاق مفتاحاً اساسياً لفهم مايحصل في سوريا؛ وأن حضورها كورقة لأطراف أقليمية فاعلة في الحرب السورية، يضيء على النفوذ الاقتصادي والمادي لتلك الأطراف. مع ذلك تبقى الحقيقة, أنه وقبل ادانة كل من روسيا وتركيا وايران على تشغيل المرتزقة السوريين, يجب على المجتمع الدولي إدانة النظام السوري ومعالجة اسباب نشوء هذه الظاهرة في سوريا, وتلك الوفرة في التجنيد غير الشرعي من هذا المكان من العالم. عنف السوري هو منعكس لممارسات سلطة نشأت وبقيت قائمة بقوة العنف. وهذه الظاهرة هي حصيلة خمسون عاماً من حكم البعث في صناعة الانسان المهدور بالقمع والتسلط والجهل. دون أن ننسى إدانة القوى الغربية الكبرى التي صمتت عنه وعن ممارساته طوال عقود خلت.
(1). أنظر:
Civil-Military Relations in the Middle East:A Literature Review, Bård Kårtveit and Maria Gabrielsen Jumbert, 2014
https://www.cmi.no/publications/file/5188-civil-military-relations-in-the-middle-east.pdf
تاريخ الدخول 24 مارس آذار 2021.
(2). كالهوفن فردتس وليزا تبيث, ضوابط تحكم خوض الحرب, اصدارات اللجنة الدولية للصليب الأحمر, القاهرة, 2004, ص33
(3). رائد الحامد, المرتزقة في العراق, مركز بغداد للدراسات والاستشارات, 2011, ص3
(4). نزار العنبكي القانون الدولي الانساني, دار وائل للنشر, عمّان, 2010 ص275
(5): مصطفى حجازي, الانسان المقهور, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, 2005 ص 76
#صفوان_داؤد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟