|
جرسيف ذاكرة قصبة..
عبد السلام انويكًة
باحث
الحوار المتمدن-العدد: 6875 - 2021 / 4 / 21 - 20:57
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ما بدأ منذ أزل يكاد يكون بأول مجهول هو تراث، وكل فعلِ انسان وتفاعلٍ في مكان ما وزمن ما حتى الآن هو أيضاً. علما أن في كل فترة من الفترات هناك بقايا ومعالم مادية ولامادية ومن ثمة تراث، بقدر ما يحتويه من هوية بقدر ما يقتضي من بحث ودراسة وحماية ووعي وتحسيس واستثمار، إغناءً لعيشِ وتعايشِ وحاضرِ انسان ومستقبل. وكم هو مفيد ما يُعقد حول التراث من لقاء علمي هنا وهناك لترتيب ما هو بحاجة لإلتفات وانصات، ومِن لقاءات التطارح هذه مَن تتوجه بعناية واعتبار لمواقع تراثية ضاربة في القدم، لابراز خصوصيتها وموارد زمنها وتثمينها وتحديد ما من شأنه جعل تراثها داعماً لتنمية محلية عبر ما يحضر من رأي ومقترح. في علاقة بما يتقاسمه شرق المغرب من تراث واسع ومتباين، كانت منطقة جرسيف وعاءَ تفاعلٍ بشري عبر فترات تاريخ البلاد، لِما هناك من حفريات ومعالم أزمنة غابرة وآثار لا تزال بحاجة لعمل علمي من أجل الكشف عنها وابراز مكامنها واستثمار رمزيتها. ولاشك أن الماء بالمنطقة كان ولا يزال مكوناً بيئياً معبراً وعنصراً فاعلاً موجهاً، جعل تراث جرسيف ومحيطها بخاصيةٍ بيئيةٍ وتفرد موضع من خلال التقاء مجريين مائيين شهيرين فيها ضمن مشهد مورفولوجي طبغرافي ملفت للنظر، ومن ثمة ما طبع المنطقة من هوية مجالية منذ القدم فكانت بأثر فيما هي عليه من تراث غني متعدد في أوجهه وتجلياته. علماً أن جرسيف "أجرسيف"، ربما اسم بجدلِ بنيةِ بيئةٍ وعلاقة بطبيعةِ موقعٍ ونقطة تلاقي وادين "ملوية" و"مللو".. وإذا كانت منطقة جرسيف بمثابة وعاء لإرثٍ انساني واسع يجمع بين شاهدِ عُمران ورمزية زمن، فلا شك أنه بوجدان وتمَثل واعتقاد ورواية وشأن وامتداد في الذاكرة المحلية كأثاث أصيل في شموليته. وبقدر ما يطبع المنطقة من تراث لامادي يجمع بين نمط عيش وتقاليد وعمارة وتعمير ولباس وغذاء وخبرات واحتفالية وفرجةٍ وتعبير، تقول اليونسكو أنه كل ممارسة و تصوّر وتعبير ومعارف ومهارات، كذا ما يرتبط بهذا وذاك من نِتاجِ حرفٍ وأمكنةٍ ثقافيّة وغيرها، وأن ما هو متوارث رمزي من جيل لجيل هو ما يبدعه الانسان فرداً وجماعة معاً من جديد بشكل مستمر ووفق ما ينسجم مع بيئة ما وزمن ما، بقدر ما تزخر بتراث مادي على قدرٍ عالٍ من القيمة التاريخية الانسانية لِما كانت عليه المنطقة من أدوار ووقعٍْ في زمن البلاد والعباد. ولعل جرسيف بقدر ما هي بموقع فسيح متميز واستقرار بشري قديم ارتبط بالماء أساساً ووادَيْ "ملوية" و"مللو" خاصة، بقدر ما عُرف في زمن المغرب الوسيط بالقصبة التي اختارها بنو مرين استراتيجياً كما في علم المهتمين والباحثين لتخزين وتأمين موارد عيشهم، قبل أن تتحول جرسيف القصبة الى دار إمارة على عهد السلطان أبي عنان المريني أواسط القرن الثامن الهجري. وكان من تَميُّز المنطقة خلال هذه الفترة من تاريخ البلاد في علاقة بمياه الوادين، انتشار بساتين أشجار مثمرة عدة لدرجة تذكر المصادر أنها كانت تبدو كأنها جنة آدم لِما يحيط بها من جفاف. ضمن هذا الغنى الذي يطبع جرسيف ومحيطها تراثياً، ارتأينا بمختصر مفيد اطلالة حول ما هو رمزي في علاقة بالماء ومن ثمة حديث عن مكونين مجالين أساسيين وادَيْ"ملوية" و"مللو". علماً أن ما هو رمزي تراثي محلي مُرتبط بأشرطة مياه تتقاسم المجال وتحكُمه منذ القدم حتى الآن، هو إرث انساني وذاكرة وكيان وهوية حاملة لتميزٍ وثقافة وحضارة معاً. مع أهمية الاشارة الى أن مساحة هامة من معالم تراث المنطقة اندثرت مع مرور الزمن وما تبقى يوجد على ايقاع ضغوط عدة ومتداخلة. وعليه، ما هناك من حاجة ليس فقط لإلتفات وإنصات وانقاذ بل لبحث وتنقيب ودراسة وورش عمل في أفق ما هو إنماء ونماء رافع. وغير خاف أن منطقة جرسيف لا تزال بغير ما هو شاف من أبحاث تراثية علمية ومن ثمة من نصوص أكثر تجاوباً مع زمنِ مكانٍ ومكامنِ تراث منطقةٍ واسع، ومن هنا أهمية تكاثف جهود وفعل وتفاعل الجميع كل من موقعه من أجل ما هو داعم مساهم في حماية تراث المنطقة وتثمينه وجعله بدور لفائدة حاضرٍ ومستقبلٍ معاً، فضلاً عما ينبغي من وعي بقيمة إرث حضاري وبسبل دمجه كثراء وثروة في النماء المحلي. ولا شك أن أهل وسَلَف جرسيف عبر تلاقح الأجيال بين وادَيْ "ملوية" و"مللو"، كان بدور في حماية تراث المنطقة عامة الرمزي منه خاصة من ثقافة عيش وتعايش وتقاليد وقيم حياة وتعبير وسبل تدبير بيئة وعلاقات وغيرها. ولولا هذا السلف وحفاظه على ما طبع المنطقة من هوية وتراث لمَا تعرف عليه الخلَف ولمَا ظل حاضراً حياً عابراً للزمن. إن سبل وثقافة وتجليات استغلال مياه وادَيْ "ملوية" و"مللو"، ومن ثمة ما هناك من مياه جارية وضاف ونُظم حياة وطبيعة تنظيم مجالي وسواقي وتدبير وتقاسم ومنظر زراعة وأغراس وغيرها، تشكل بحق خصوصية منطقة وهوية مكان وشواهد انسانية انسان ضاربة في الزمن. من هنا ما ينبغي من تثمين وحماية لفسيفساء تراث المنطقة وتحفها الانسانية المادية واللامادية، من خلال لِما لا متحفٍ خاص برؤى وأرشيف وأثاث محلي ما، من شأنه حضن وتجميع وابراز وتسويق ما هي عليه من هوية بيئة مائية وغنى وتنوع تراث. كذا ما ينبغي الاشتغال عليه أيضاً من أجل لِما لا دليل جامع لمعالم وعلامات تراث جرسيف، فضلاً اطار داعم كما بالنسبة مثلاً لمركز بحث في التراث المحلى، لإثارة ما هو بعلاقة من جهة وجمع ما ينبغي من معطيات ووثائق وأرشيف يخص المجال من جهة ثانية. ناهيك عما يمكن أن يسجل من قيمة مضافة رافعة للتنمية المحلية، من خلال الترافع في أفق تصنيف ضفاف وادَيْ "ملوية" و"مللو" على مستوى مجال جرسيف المدينة وجوارها كتراث وطني ولِما لا انساني. إن تراث جرسيف في مستواه المادي واللامادي معاً، بقدر ما يشكل عنصراً من عناصر تاريخ المنطقة وهويتها واستمراريتها وتطورها وتفاعلها ضمن أزمنةٍ ومكان، بقدر ما هو بمثابة ذاكرة جماعية ونِتاج تلاقح أجيال وسلفٍ عبر قرون من الزمن ومن ثمة سبيلاً لتموضع وتموقع خلفٍ في كل هذا وذاك. ولا شك أن جرسيف حيث وادَيْ"ملوية" و"مللو" هو وعاء تراث بأصول متعددة، لِما كانت عليه المنطقة من علاقات وانفتاح على شرق البلاد وغربها خاصة، من خلال سبل عبور ورحلةٍ وترحالٍ وقوافل تجارة ورعي وثقافةِ مياه. تبقى قصبة جرسيف إرث بيئي انساني أصيل بحاجة لتثمين وحماية واغناء واستثمار، كذا لِما من شأنه ابراز مكامنه وتجلياته وتميزه من خلال ورشٍ رافعٍ بتأثيثٍ وتشاركٍ لمعنيين ومهتمين محلياً جهوياً ووطنياً. وليس رهان جرسيف وتطلعاته الترابية الانمائية على أساس رمزيةِ موضعٍ ملتقى وادين "مللو" و"ملوية" حلماً ولا جدلاً مستحيلاً، فقط ما ينبغي من رؤية وبُعد نظر وإرادة وقناعة وسبل تنسيقٍ وتعاون فضلاً عن ذكاءِ تراب. مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث
#عبد_السلام_انويكًة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقطير ماء الزهر بالمغرب..
-
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين - فاس
-
من أرشيفِ سهرةِ سبتِ إذاعةِ المغربِ الوطنية ..
-
بين وقْعِ انتخاباتٍ بالمغرب وتوقيعِ عزوف..
-
فاس في ذاكرة المغرب
-
محمد كًسوس صاحب مقولة .. خلق جيل من الضباع..
-
المندوبية السامية لقدماء المقاومين واعضاء جيش التحرير..تحتفي
-
من زمن الكفاح الوطني واستقلال المغرب..
-
كيف كان بترول الصحراء الشرقية المغربية وراء تعقيد قضية الحدو
...
-
فاس: كرونا يخطف ألمعَ عازفِ عُودِ طربِ الألة الأندلسية بالمد
...
-
الصحراء المغربية.. بين إرثِ مستعمرٍ ماكرٍ وانزلاق موقفِ جزائ
...
-
المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بفاس.. وتقليد ندوة صفرو
...
-
الصحراء المغربية وخطاب محاميد الغزلان التاريخي..
-
من ذاكرة الشعبين المغربي والجزائري-خاوة خاوة- ..
-
تازة.. من ذاكرة جوار وحضن مدينة لجزائريين زمن الاستعمار..
-
جزيرة الصويرة.. ذاكرة مكان..
-
بوكًليب .. نعت وباء وذاكرة ..
-
تاريخ المغرب .. تاريخ قبائل ..
-
ابن هيدور وأوبئة مغرب العصر الوسيط
-
ليس هناك تاريخ دون تاريخ محلي
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|