|
بيتنا القديم والإسفلت
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6873 - 2021 / 4 / 19 - 15:07
المحور:
الادب والفن
بين يوم وآخر جعلنا الإسفلت غرباء عن بيتنا. ما راكمته سنوات من الحياة العائلية المتوارثة كنسه الإسفلت في غمضة عين وألقى عليه سواده. وبفترة وجيزة شاخ بيتنا وتجرأت عليه النباتات البرية وملأت مساحاته، وصار مطابقاً في واقعه لصورة البيت المهجور. ربما كان علي أن أشكر الإسفلت بدلاً من لومه، فقد تأخر في الاستيلاء على البيت وأتاح لي أن أعود إليه بعد غيبتي القسرية الطويلة وأن أعيد تواصلي معه. لا تعني كلمة "الإسفلت" لأهل "كفرية" ما تعنيه لغيرهم. هي لا تعني بالنسبة لهم مجرد حجارة سوداء لينة لها استخدامات معينة، ولا تحيل في أذهانهم إلى صور الشوارع أو شبكات الطرق السريعة، ولا تعني مادة العزل التي تُستخدم على أسطح البيوت وعلى جدران السفن. هذه الكلمة لا تشير بالنسبة لأهل "كفرية" إلى جماد أو إلى شيء، إنها كائن له تاريخ ميلاد ومسار حياة ونهاية، له ملامح ورائحة وفعل، لهم معه ذكريات ومسرّات ومرارات ومواجع. بقي الإسفلت نائماً تحت بيوتنا وأراضينا لزمن طويل قبل أن يأتي الفرنسيون ويوقظوه. وما أن استيقظ حتى بدأ يرسم لنفسه مساراً صاخباً لا يأبه بمسار حياتنا السابق على استيقاظه، يرسم ملامحة بحرية تامة وبحرية تامة راح يقسرنا على تغيير ملامح حياتنا. أعمال حفر وتنقيب، ثم تفجيرات، ثم أعمال جمع الصخور وتكسيرها ونقلها ثم طبخها بالفرن وتجميع الزفت في قوالب ..الخ. مع الأيام صاغ الإسفلت حياتنا على مقاس وإيقاع حركاته هذه، ولكن لم يكن في البال أن بيتنا سيكون في عداد ضحاياه. انبنى بيتنا قبل أن ترشح أفكار الحداثة العمرانية إلى بلادنا، وقبل أن يصبح للبيت باب رئيسي واحد لا يمكنك أن تدخل إلى أي غرفة من البيت قبل المرور منه. بدت لي الغرف في هذه التصاميم الحديثة، قبل أن أعتاد عليها كغيري من الناس، مسجونة داخل البيت طالما أن الغرفة لا تملك مدخلا مستقلاً بها. بنى جدي البيت في الزمن الذي كان يبنى البيت فيه خطوة خطوة، فقد كان زمن البناء لا ينفصل تماماً عن زمن السكن والعيش. يكون لدى الأسرة ميزانية لا تكفي لبناء أكثر من غرفة، تبني الأسرة غرفة ثم تسكن فيها وتبدأ مع الوقت ومع تزايد عدد الأولاد ومع تشكل أسر فرعية جديدة بتوسيع وتحسين البيت من موقع الساكن المقيم. يتوسع البيت ويمتد مع توسع وامتداد الأسرة. في ذلك الزمن كان يأتي تصميم البيت بطريقة ارتجالية تستجيب للحاجات المستجدة وتحترم أيضاً القدرات المادية للعائلة، فلا يمكن أن تتوسع أكثر مما تسمح به ميزانيتك الفقيرة لشراء مواد للبناء وأجور للمعمرجي ومعاونه. لذلك يمكنك أن تجد، في تصميم أحد البيوت، غرفة صغيرة إلى جوار غرفة أكبر بكثير وقد تم بناء الغرفتين المتجاورتين في زمنين مختلفين يفصل بينهما سنوات. ضيق الغرفة يؤشر إلى ضيق الحال حين تم بناؤها، والعكس بالعكس. كان لكل بيت في قريتنا تاريخه الخاص، وهو تاريخ يحمل بصمات تاريخ العائلة نفسه في ضيقها وفرجها. حتى يمكن تشبيه تصاميم البيوت في القرية بالعزف الارتجالي أو بالتقاسيم. القاسم المشترك بين بيوت القرية القديمة هو أن تصميم البيت لا يحرم الغرفة من استقلاليتها. أنت لا تحتاج، لكي تصل إلى غرفة، للمرور عبر باب رئيسي. لكل غرفة بابها المفتوح على الخارج. لكل غرفة استقلاليتها وشخصيتها وعلاقتها المباشرة بالعالم الخارجي. تتجاور الغرف ولكن لا تتخلى الغرفة عن حريتها لصالح البيت، لا تقبل بأن تصبح أسيرة باب رئيسي ليس بابها. على أنها لا ترفض التجاور ولا ترفض فتح علاقة مباشرة مع جاراتها. وكثيراً ما ترى باباً داخلياً يفضي من غرفة إلى غرفة ولكن كتعبير عن التكامل وحسن الجوار وليس عن الهيمنة، وحين يقتضي الأمر يمكن إغلاق هذا الباب الداخلي نهائياً دون أن تتأذى وظيفة أي من الغرفتين. غالباً ما كانت تتواصل الغرف عبر شبابيك أو طاقات وذلك لتمرير المواد توفيراً للجهد والوقت ولتفادي الخروج من الغرفة ولاسيما في الشتاء. وربما جرى التخاطب بين أهل الغرفتين عبر هذه الشبابيك والطاقات التي توحد فضاء البيت وتعطي للحميمية العائلية مجالاً متصلاً. وفي الحالات الطارئة كانت تستخدم هذه الفتحات لتهريب المواد الممنوعة (دخان، سلاح، ..الخ) من غرفة إلى غرفة للتمويه على الشرطة وغيرهم من "أبناء الحكومة". وكان بيتنا، الذي حرمنا منه "الإسفلت"، يشترك مع بيوت القرية في عدم احتوائها على تواليت. يجافي الحس السليم أن يتم قضاء الحاجة في مكان داخل البيت، حتى لو كان هذا المكان مخصصاً لقضاء الحاجة. كان يفضل القروي، قبل أن تسحق الحضارة تفضيلاته، أن يتدبر أمر قضاء حاجته أينما كان بعيداً عن البيت. حتى إذا بنى القروي مكاناً مخصصاً لقضاء الحاجة (تواليت) فإنه يبنيه في مكان بعيد عن البيت. هذا ما كان يتسبب في إحراج النساء من أهل البيت، ذلك أن ذهابها على الملأ باتجاه التواليت كان بمثابة إعلان عام عن نيتها في تلبية نداء الطبيعة، وهو أمر محرج بذاته. كانت غرف بيتنا تتراصف على نسق واحد، سوى أن الغرفتين الأخيرتين كانتا تتقدمان قليلاً عن مستوى النسق احتراماً لشجرة اللوز الكبيرة التي كانت ستُقطع فيما لو جرى الإصرار على سلامة النسق. كانت كل غرفة في بيتنا تتنفس العالم الخارجي من رئتين: باب وشباك. وكان ظهر الغرف جميعاً يستند إلى السفح الذي يحتضن البيت كله، فلا يوجد نوافذ خلفية للغرف. وأمام الغرف كانت تمتد فسحة طولانية اعتدنا أن نسميها "الدار". على يمين الدار كانت تنتصب شجرة حور كبيرة تعربش عليها دالية عنب تتغلغل فيها حتى تبدو عناقيد العنب في الصيف وكأنها من ثمار "الحورة". هكذا كنا نسمي شجرة الحور تلك. وكان في الدار أيضاً ثلاث شجرات توت كبيرة إحداها شامية كما كان يقول أبي، حيث كانت ثمارها سوداء فاحمة. كل تفصيل في الدار يرتبط بتفصيل من حياتنا، بذكرى سعيدة أو حزينة. مع السنين لم يعد الدار مجرد مكان أصم، صار حيزاً مشحوناً ومولداً للانطباعات. هنا قريباً من التوتة الشامية وقف رئيس مفرزة الأمن مهدداً أبي كي يرغمه على تسليم "أخي" الهارب من وجه الاعتقال السياسي، وفي تلك الزاوية الحزينة جلس أبي محبطاً إلى حد الانهاك حين علم أن أختي الفتية مصابة بذاك المرض المرعب، وفي هذا الدار احتفلت العائلة بالطبول والمزامير فرحاً بعودة ابن عمي من مستشفى المواساة في دمشق معافى بعد مرض كاد يطفئ شمعته، وفي هذه الدار كانت عائلتنا مجتمعة على نشرة أخبار البي بي سي حين سمعنا خبر اغتيال أنور السادات وفرحنا .. كل ذلك لا يعني شيئاً أمام زحف "الإسفلت". كان نصيب بيتنا أنه قريب من المكان الذي اختاره الفرنسيون لاستخراج الاسفلت، وثابر عليه "الوطنيون". بعد سنوات طويلة، صادقنا الإسفلت، اعتدنا على صوت التفجيرات، حفظنا مواعيد التفجير وصرنا نلجأ إلى البيت هرباً من الحجارة المتطايرة في الوقت المناسب ودون حاجة إلى سماع صوت التحذير الذي كان صوتاً بشرياً في البداية ثم تحول إلى صوت آلي يشبه صوت صافرات الإنذار. أحببنا رائحة الإسفلت التي كانت جزءاً أصيلاً من روائح البيئة عندنا. لكن الإسفلت مخلوق تحت أرضي ولا يقدر قيمة ما فوق التراب. وقد جاء اليوم الذي جرف فيه الإسفلت بيتنا دون اعتبار لشيء. يوليو/تموز 2014
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السطو على ضمير المتدينين
-
بين لوحتين
-
تعودت أن أحب كاسترو
-
جنازة لا تحتاج إلى موتى
-
ستيف جوبس وألان الكوردي
-
المعارضون السوريون بين الداخل والخارج
-
عن ذبح -غير الأبرياء-
-
في القسوة
-
عن استمرار الثورة السورية وحواجز الخوف
-
قناع السلطة
-
قناعات سورية مستترة
-
أرض الظنون الشائكة
-
بلا أسماء
-
تونس، الانتقال الديموقراطي في خطر؟
-
مهجع الصور
-
عقد على اندلاع الثورة السورية، ماذا نستفيد؟
-
كلام لا يقي من البرد
-
سجين حاقد يقلع عين الرئيس
-
التحالفات الديموقراطية السورية، سطور في رمال
-
إلى روح علي البدري (ممدوح عبد العليم)
المزيد.....
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|