الدياليكتيك ليس خيالا ولا تصوفا، ولكنه علم أشكال تفكيرنا في حدود أبعد لأنه ليس مقتصرا على المشاكل اليومية للحياة و لكنه يحاول الوصول إلى فهم عمليات أكثر بعدا وتعقيدا. الدياليكتيك والمنطق الصوري يشكلان علاقة كتلك التي بين الرياضيات العالية والبسيطة.
سأحاول هاهنا أن أرسم جوهر المشكلة بشكل شديد الإختصار. المنطق الأرسطي الخاص بالقياس المنطقي البسيط يبدأ من الإفتراض بأن " أ " تساوي" أ ". هذه المسلمة تقبل كبديهية للعديد من الفعاليات الإنسانية العملية و التعميمات البسيطة.
لكن في الواقع " أ " لا تساوي " أ ". هذا سهل الإثبات لو أننا لاحظنا هذين الحرفين من خلال عدسة إنهما مختلفان عن بعضهما البعض. لكن هناك من يقر بأن حجم و شكل الحرفين ليس هو المسألة ماداما مجرد رمزان لكميات متساوية.على سبيل المثال رطل من السكر.الإعتراض هنا خارج القصد، في الواقع رطل من السكر لا يساوي رطلا من السكر. مقياس أكثردقة يكشف عن فرق.
مرة أخرى ربما يعترض أحدكم " و لكن رطل السكر يساوي نفسه". و لا هذه حقيقة أيضا. فكل الأجسام تتغير بلا إنقطاع في الحجم و الوزن و اللون..إلخ . ليست مساوية لنفسها أبدا. سيرد السفسطائي قائلا"أن رطل السكر مساو لنفسه في لحظة محددة من الزمن".
بعيدا عن القيمة العملية المشكوك فيها بشدة لهذه "البديهية" فإنها لا تستطيع الصمود أمام النقد النظري أيضا. اذ كيف يمكن أن نتقبل حقيقة كلمة " لحظة " ؟ إذا كانت هي فاصلة متناهية الصغر من الزمن إذا فرطل السكر سيتعرض خلال سير اللحظة إلى تغيرات حتمية. أم أن "اللحظة " هي فقط تجريد رياضي خالص، اي صفر من الزمن ؟ ، و لكن كل شيء يوجد في الزمن . و الوجود ذاته هوعملية غير متقطعة من التحول . فالزمن بالتالي عنصر أساسي للوجود. و لهذا فالبديهية " أ " تساوي " أ "تشير إلى أن الشيء يساوي نفسه إذا لم يتغير، و هذا في حالة عدم وجوده .
للوهلة الأولى قد يبدو أن تلك الأشياء الدقيقة عديمة الفائدة. في الواقع هي ذات أهمية بالغة. البديهية " أ " تساوي " أ " تبدو من جهة نقطة إنطلاق لكل معارفنا. ومن جهة أخرى كنقطة إنطلاق لكل الأخطاء في معارفنا. لكي نحقق إستفادة من البديهية "أ " تساوي " أ " بدون الوقوع في الخطأ سيكون هذا ممكنا فقط داخل حدود معينة. عندما تكون التغيرات الكمية في " أ " من الممكن إهمالها بالنسبة للمهمة المؤداة عندئذ يكون من الممكن التسليم إفتراضيا بأن " أ " تساوي" أ " ،هذه على سبيل المثال هي الطريقة التي يأخذ بها كل من البائع و المشتري رطل من السكر بعين الإعتبار. نحن ندرس حرارة الشمس بشكل مماثل، و حتى نتوصل إلى دراسة القوة الشرائية للدولار بنفس الطريقة . لكن التغيرات الكمية لما بعد حدود معينة تتحول إلى تغيرات كيفية (نوعية). فرطل من السكرمعرض لفعل الكيروسين ينتهي وجوده كرطل من السكر(يتوقف عن كونه رطل من السكر). و دولار في قبضة رئيس يتوقف عن كونه دولارا. إن تحديد النقطة الحرجة التي يتغير عندها الكم إلى كيف في اللحظة الصحية هي واحدة من اهم و أصعب المهام في كل حقول المعرفة بما فيها علم الإجتماع.
كل عامل يعرف أنه من المستحيل صناعة شيئين متماثلين و متساويين تماما. في عملية تفصيل النحاس كمحاميل مخروطية، يسمح بإنحراف معين للمخاريط و الذي مع ذلك لا يجب أن يتعدى حدودا معينة(هذا يسمىالسماحية). و عن طريق ملاحظة نماذج السماحية، تعدالقوالب متساوية ("أ" تساوي "أ")، وعندما تزادالسماحية يتحول الكم إلى كيف ، بكلمات أخرى تصبح المحاميل المخروطية رديئة وعديمة القيمة .
تفكيرنا العلمي هو فقط جزء من ممارستنا العامة بما فيها التقنيات. بالنسبة للمفاهيم هناك (التحمل) الذي لم يؤسس تبعا للمنطق الصوري للبديهية ("أ" تساوي "أ")، و لكن عن طريق المنطق الدياليكتيكي المنبثق من بديهية أن كل شيء يتغير. "المنطق المشترك" يوصف بحقيقة أنه بتلقائية يتعدى "السماحية "الدياليكتيكية.
يتعامل الفكر الدارج مع مفاهيم مثل الرأسمالية ،الأخلاق،الحرية ، دولة العمال، إلخ..،على أنها تعميمات ثابتة، مسلمين بأن الرأسمالية تساوي الراسمالية ،الأخلاق تساوي الأخلاق،إلخ. ان التفكيرالدياليكتيكي يحلل كل الأشياء و الظواهر في تغيرها المستمر، بينما يحدد في الظروف المادية لتلك التغيرات ذلك الحد الحرج حيث "أ" تتوقف عن كونها "أ". و لا تكون دولة العمال هي دولة العمال.
الخلل الأساسي في الفكر الدارج يقع في حقيقة أنه يتمنى أن يقنع نفسه بسمات ساكنة لواقع يتكون من حركة أبدية . التفكير الجدلي يعطي المفاهيم ،عن طريق تقريبات وتصحيحات و أمثلة ملموسة مرونة و ثراء للمحتوى. و قد أقول أيضا نضارة والتي إلى حد ما تجعلها (المفاهيم ) أقرب لظواهر الحياة. ليست الرأسمالية بالتعميم، و لكن رأسمالية معطاة (محددة) في مرحلة معطاة (محددة )من التطور. ليست دولة العمال بالتعميم و لكن دولة عمال معينة في بلد متخلف في محيط إمبريالي،إلخ.
يرتبط التفكير الجدلي بالتفكيرالدارج بنفس الطريقة التي ترتبط بها الصورة المتحركة بالصورة الفوتوغرافية الساكنة. الصورة المتحركة لا تبطل الصور الفوتوغرافية ولكن تكون منها متوالية تبعا لقوانين الحركة. لا ينكر الدياليكتيك القياس المنطقي ، ولكن يعلمنا أن نجمع القياسات المنطقية بطريقة تقرب فهمنا من الواقع الأبدي التغير.و قد أسس هيجل في منطقه متتالية من القوانين :تغير الكم إلى كيف ،التطور من خلال التناقض ، نزاع المحتوى و الشكل ،إعتراض الإستمرارية، تغير الإمكانية إلى حتمية ،إلخ. و التي هي مهمة بالنسبة للفكرالنظري كما المنطق البسيط بالنسبة للمهام الأكثر بساطة.
كتب هيجل قبل داروين و قبل ماركس بفضل الدفع القوي الذي أعطته الثورة الفرنسية للفكر. لقد توقع هيجل الحركة العامة للعلم . و لكن لأنه كان مجرد توقع، رغم عبقريته ، فقد كان هيجل شخصية مثالية. تعامل هيجل مع الظلال الأيديولوجية مثل الواقع المطلق(الأقصى). لقد برهن ماركس على أن حركة هذه الظلال الأيديولوجية لم تعكس شيئا سوى حركة الأجسام المادية.
نحن ندعو دياليكتيكنا مادي طالما أن جذوره ليست في السماء ولا في عمق "إرادتنا الحرة " ، و لكن في الواقع الشيئي ، في الطبيعة . و ينشأ الوعي من اللاوعي ، علم النفس من علم وظائف الأعضاء ،العالم العضوي من العالم غير العضوي ،النظام الشمسي من السديم. على كل درجات هذا السلم من التطور ، تحولت التغيرات الكمية إلى كيفية . وفكرنا بما فيه الفكر الدياليكتيكي هو فقط واحد من أشكال التعبيرعن المادة المتغيرة. هناك مكان داخل هذا النظام لكنه ليس الشيطان و الروح الخالدة و النماذج الأبدية للقوانين والأخلاق. لقد نشأ دياليكتيك التفكير ، من دياليكتيك الطبيعة وهو يكتسب بناء على ذلك شخصية مادية تماما .
لقد كانت الداروينية ، التي فسرت نشوء الأنواع خلال تحولات كمية مرورا بكيفية كانت، أكبر إنتصار للدياليكتيك في حقل المادة العضوية. أنتصار آخر كان إكتشاف جدول الاوزان الذرية للعناصر الكيميائية وأيضا تحول العنصر الى آخر.
بهذه التحولات (الأنواع ، العناصر ،إلخ.) ترتبط بشدة قضية التصنيف ، بنفس الأهمية في العلم الطبيعي كما في الإجتماعي . فنظام - لينو-(القرن ال18) ، الذي يستخدم نقطة إنطلاقه ثبات الأنواع، كان مقصوراعلى توصيف و تصنيف النباتات تبعا لأوصافها الخارجية. إن فترة طفولة علم النبات (فترة نشوءه) تشابه فترة طفولة المنطق ،بما أن أساليب تفكيرنا تتطور كأي شيء حي. فقط الرفض الحاسم لفكرة الأنواع الثابتة ، فقط دراسة التاريخ الخاص بنشوء و تطور النباتات و تركيبها البنيوي ،أعدا الأسس لتصنيف علمي حقيقي.
إكتشف ماركس الذي كان على خلاف داروين دياليكتيكيا واعيا أسس التصنيف العلمي للمجتمعات الإنسانية في تطور قواها الإنتاجية وبنية علاقات الملكية التي تؤلف التركيب البنيوي للمجتمع.
أحلت الماركسية محل التصنيف الوصفي الدارج للمجتمعات والدول ، و الذي مازال حتى الان مزدهرا في الجامعات ، تصنيف دياليكتيكي مادي. فقط من خلال طريقة ماركس من الممكن أن نحدد بدقة كلا من مفهوم دولة العمال و لحظة سقوطها .
لا يحتوي هذا كما نرى على اي شيء "ميتافيزيقي " أو"لاهوتي " كالذي يقر به الجهل المغرور.اذ يعبر المنطق الدياليكتيكي عن قوانين الحركة في فكرعلمي معاصر .و ان الكفاح ضد الدياليكتيك المادي يعبر على العكس عن ماض بعيد, عن البرجوازية المحافظة الضيقة الأفق , عن التصور الخاص لروتينيي الجامعة و ... وشرارة من الأمل للحياة الآخرة.
15 ديسمبر, 1939