أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نجيب السعد - القصة المايكرو















المزيد.....



القصة المايكرو


محمد نجيب السعد

الحوار المتمدن-العدد: 6870 - 2021 / 4 / 15 - 11:31
المحور: الادب والفن
    


1. تأريخ مختصر للقصة القصيرة جداً
1.1 الآن
كتبت ميشيل روبرتس تقول في مقدمتها المختصرة والموفقة لمجموعة ديبورا ليفيLevy المعنونة " فودكا سوداء " (2013)Black Vodka :"إن القصة القصيرة ، في قصرها وكثافتها ، تناسب عصرنا. إنها تناسب مدى الإهتمام القصير للقاريء المعاصر وتناسب فجوات الوعي الحديث وشرذمته". إذا كان هذا صحيحًا بالنسبة للقصة القصيرة ، فماذا عن القصة القصيرة جدًا ؟ هل أن الشهرة المتزايدة للقصة المايكرو MICROFICTION كجنس أدبي معاصر دليل على إنه حتى القصة القصيرة غير قادرة على نقل سرعة الحياة المعاصرة وفوريتها، وأن الأشكال السردية الأصغر هي فقط القادرة على إيصال الشدة Intensity الكبيرة للحاضر والمستقبل؟ إذا كانت القصة القصيرة هي الجنس الأدبي الغالب اليوم ، فهل يمكن أن تكون القصة القصيرة جدًا – سواء قرأناها في كتاب أو على الأنترنت ، والمناسبة للوسائط المتغيرة وللوتيرة المتسارعة للحاضر - هي الجنس الأدبي الذي سيسود غداً؟
على الرغم من أن قدرة القصة القصيرة جدًا على توصيل فورية الحاضر قد جعلتها حاضرة بقوة في ثنايا النقد الأكاديمي وصناعة النشر ومسابقات الكتابة في السنوات الأخيرة ، إلا أن أنواع السرد القصيرة جداً ليست جديدة بأي حال على المشهد الأدبي. حتى المسح السريع للتاريخ الأدبي يكشف عن ظهور مجموعة كبيرة من الأشكال القصيرة جدًا في فترات وسياقات ثقافية مختلفة ، كل منها يجلب معه مجموعة فريدة من الاهتمامات الجمالية وفي الوقت عينه يمثل التزامًا مشتركًا بالربط بين الحجم الصغير والشدة القصوى، مما يتيح لنا ملاحظة وجود نوع من الوحدة الجنسانية Generic Unity في أنواع محددة من القصة القصيرة جداً.
1.2 الآسماء
لا تظهر الأجناس الأدبية كاملة من الوهلة الأولى- كقوانين لا تتغير أو بنى ثابتة أو مجموعات معتمدة من النصوص - ولكنها تكون نتاج عملية ترابط مستمرة تتميز بعدم الإتفاق حول ما يندرج أو يستبعد من كل واحد منها ،ناهيك عن تراكم أوجه الخلاف والتشابه. ما يحدد عافية أي جنس أدبي في أي وقت من الأوقات هو درجة الخلاف حوله ، ومدى هشاشة حدوده علاوة على إستجابة أعرافه للسياقات المتغيرة ومتطلبات الإنتاج الأدبي والتلقي .ضمن هذا السياق تعتبر القصة القصيرة جدًا ناجحة . إن الجدل المستمر حول أصولها وأسلافها وخصائصها الشكلانية والأسلوبية وطولها الأمثل وإسمها الأنسب وعلاقتها بوسائط النشر والتوزيع المتغيرة ، تزيد الأمور تعقيدًا ، وتحول دون الوصول الى تعريف واحد يعتد به.
بقبولنا أن الأدب يشكل موقعًا لحدث ما - حدث يولد من خلاله شيء جديد في العالم – فمن المفيد التفكير جدياً بما قاله جون كابوتوCaputo " تضم الأسماء بين دفتيها الأحداث وتمنحها نوعًا من المأوى المؤقت ". بعيدًا عن المواقف الخطابية الفارغة ، غالبًا ما يكون للجدل النقدي حول الأسماء والتسمية مضامين تأريخية وأيديولوجية هامة. أن المصطلحات المختلفة المقدمة لوصف الأشكال القصصية القصيرة المعاصرة – مثلاً قصة قصيرة جدًاVery Short Story، قصة قصيرة قصيرة Short-Short Story، وأحياناً فقط Short-Short ،قصة أقصر والأقصرShorter and Shortest Story، قصة ناحلة Skinny Fiction،قصة جافة Curt Fiction، قصة مفاجئة Sudden Fiction،قصة ومضة Flash Fiction، قصة سريعة Quick Fiction،وقصة مايكرو Microfiction - تشكل مجالا مثيراً للجدل ؛ والذي زاد جدلاً بسبب التاريخ الطويل والمعقد لأسلاف الجنس الأدبي المعاصر والتي تشمل مثل/حكمة Aphorism، أمثولة Parable، قطعة Fragment، إستطرادDigression، مفارقة لفظية Paradox ، نادرة Anecdote، طرفة Joke، لغز Riddle،قول (قد يكون شعراً) فطن وساخر Epigram، نموذج تمثيلي أو الحكاية الأخلاقيةExemplum ، شعار رمزي Emblem، أسطورة Myth، خرافة Fable، حكاية Tale، لوحة Tableau، صورة أدبية مختصرةVignette، شخصيةCharacter ، رسم تخطيطي Sketch ، قصيدة نثر Prose Poem، قصة مصغرة Miniature،وطبعاً قصة قصيرة Short Story .سوف نستخدم مصطلح القصة المايكرو( وهو مصطلح وصفي على نحو تكثيريMaximally ومعياري على نحو تقليليMinimally) في الحديث عن كل مايندرج تحت القصة القصيرة جداً، لكننا قد نستخدم بعضاً من تلك الأسماء عند الضرورة، خاصة عند الحديث عن بعض الممارسات التاريخية. تتألف كلمة القصة المايكرو MICROFICTION من مقطعين، يعني mikros باللغة اللاتينية صغير ويعني fictio تشكيل أو شكل ، وهي،أي القصة المايكرو، تعني شكل أدبي قصير ( معاصر أو قديم) وهي مناسبة للحديث عن مجموعة واسعة من الموضوعات مع الاستمرار في الاستجابة للسياقات المتغيرة للإنتاج الأدبي والتلقي . يصبح واضحا في ضوء ذلك ، كيف أن الشكل القصير جدًا ، "رغم كونه معاصرًا ، فهو أيضًا لا يعود الى حقبة زمنية محددة" ، كما قالت الكاتبة الأميركية جويس كارول أوتس Oates " أنه قديم قدم غريزة الإنسان للجمع بين القوة والإيجاز في بناء من الكلمات " ،و "شكل سرد بدائي " ، "متجذر بعمق في النفس البشرية وفي تاريخ المجتمعات البشرية".
1.3 الأسلاف
أنطلاقاً من الفكرة القائلة بأن القصة المايكرو تشكل إحدى الطرق الأساسية العديدة التي يحاول بها الأدب فهم الواقع نفسه، يحاول النقاد المعاصرون في كثير من الأحيان البحث عن جذورتلك القصة في مصادر قديمة. مع وجود إجماع واسع على أن الأشكال الشعبية الشفوية مثل الحكاية Tale والإمثولةParable ،أو حتى ماهو أكثر إيجازاً ، كما في المثل Proverb والنادرة Anecdote، هي اسلاف القصة المايكرو المعاصرة ،هنالك مجموعة من الآراء المتعلقة باللحظة الدقيقة التي يصبح فيها القِصَر السردي المتطرف أسلوبًا يستخدمه بوعي كتابٌ يرومون عن قصد إحداث تأثير معين.يرجع البعض تلك النقطة الى النموذج التمثيلي أو الحكاية الأخلاقية Exemplum والخرافة Fable في العصور الكلاسيكية القديمة، في حين أن البعض الآخر يربطها بأجناس قروسطية مثل إحدوثة ماجنة Fabliau والنوفيلا Nouvelle والقطعة الشعرية أو القصصية القصيرة Lai . لقد جلب عصر النهضة بالتأكيد اهتماماً مكثفاً بالمنمنمات، مع التفاصيل الدقيقة بشكل استثنائي لصور نيكولاس هيليارد Hilliard الصغيرة التي تنعكس في النثر المحكم لكتاب توماس أوفربيريOverbury (1614) المعنون "شخصيات"والعوالم الصغيرة التعليمية في كتاب فرانسيس كوارلزQuarles "الشعارات"(1635). أن الشهرة المتقطعة لمجموعة متنوعة من الأشكال القصيرة جدًا في سياقات متنوعة ،على سبيل المثال القطع الأثينيةAthenaeum للرومانسيين الاوائلJena Romantics (1798-1800) والمقالات القصيرة لتشيخوفChekhov (1880) والشعر المنثور لشتاينStein في "أزرار رقيقة"(1914)Tender Buttons والقصص التقليلية من كارفرCarver في مجموعة" هلا لزمت الصمت رجاء؟"(1976)Will You Please Be Quiet - يؤكد أن شبكة الأنساب المعقدة التي تعتمد عليها القصة المايكرو المعاصرة هي عابرة للتاريخ والثقافات على حد سواء . ترتبط النقطة التي يصبح عندها الإيجاز مهمًا في حد ذاته وليس مجرد سمة لعمل معين بإدراج هذه الأشكال المصغرة المتنوعة تحت راية القصة القصيرة. برزت القصة القصيرة بين نهاية القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر ، وعلى الرغم من أنها جنس أدبي متميز - وهي نقطة ناقشها براندر ماثيوز Matthews ونورمان فريدمانFriedman وتشارلز باكستر Baxter- فإنها تصبح ثانوية، وإلى هذا الحد "جنساً أدبياً مضاداً" للرواية. على الرغم من أنه قد لا تكون هناك "ضرورة منطقية أو تجريبية" بالنسبة لهيمنة الرواية على القصة القصيرة ، فإنها مع ذلك "حقيقة تاريخية" يمكن تفسيرها جزئيًا بالشيوع الأيديولوجي للرواية كتعبير عن "التوسعية وبناء الإمبراطورية" وتشكيل "الفرد البطولي". وهكذا ،على الرغم من أن القصة القصيرة كانت شائعة في معظم القرن التاسع عشر ، إلا أنها لا تزال "فنًا تم التقليل من شأنه إلى حد كبير" ، وتدخل القرن العشرين كجنس أدبي تابع إلى حد كبير للإحساس الجمالي الموسع للحداثة.
1.4 القصة المايكرو الحديثة
ترسم القصة المايكرو بوضوح عمق الصدع بين الأشكال الثقافية "العليا" و"الدنيا" في الجماليات الحداثية. على الرغم من"الأزدهار الملحوظ للقصة القصيرة القصيرة " في مجلات العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي" أو ربما بسببه، فأن الأشكال السردية القصيرة جدًا لا تحظى باهتمام نقدي كبير. ومع ذلك فأن القصة المايكرو، في موقعها المهمش ضمن جنس أدبي مهمش، والمستثناة من معايير السرد الحديث، تمتلك قوة مزعزعة تضعها في كثير من الأحيان عند الأعتاب التجريبية للطليعية. تظهر نماذج القصة المايكرو الحداثوية المشهورة عند مفاصل مهمة من الابتكار السردي: أن الأنماط المتوترة للتكرار المتزايد والتوقف الفظ في عمل جيرترود شتاين المعنون" ثلاث صور لرسامين"Three Portraits of Painters(1912) تفتح مسارات من الزخارف اللفظية التي جاسها تجريبيون مختلفون مثل صاموئيل بيكيتBeckett وجارلس برنشتاين Bernstein وفي النثر الخبري الجاف لقصة كافكا Kafka المعنونة "أمام القانون" (1915)، التي تكشف عن تطور مفاهيمي يؤثر على بعض الكتاب من أمثال خورخي لويس بورخيس Borges إلى جي إم كوتزيCoetzee وفي تداخل المعنى والتأثير والخيال في الرموز اللفظية الصغيرة والكثيفة لفيرجينيا وولف Woolf في عملها (ما بعد التعبيري) المعنون"الأزرق والأخضر"Blue and Green (1921) التي يتردد صداه في أساليب متنوعة كما عند آلان روب جرييه Grillet وجانيت وينترسون Winterson وفي الكتابة القوية والواضحة في "قصة قصيرة جدًا"A Very Short Story لإرنست همنغواي Hemingway (1924) التي تتنبأ بمجموعة من الأعمال بدءًا من تقليلية ريموند كارفر وحتى الواقعية المتطرفة لتاو لين Tao Lin.
1.5 الولادة الجديدة
على الرغم من مصداقية القصة المايكرو كشكل شعبي قديم ومن شيوعها التجريبي الحداثوي ، إلا أنها بالنسبة للخيال الأدبي العام بدأت كجنس أدبي مستقل في أعقاب تجريبية الخمسينيات والستينيات. من بين العديد من الأعمال المتنوعة والرائعة بشكل لافت للنظر من هذه الفترة والتي تنبض بـ"روح التجربة والتلاعب بالألفاظ"،نستطيع أن ندرج القصص المايكرو في مجموعة" قصص" Ficciones لخورخي لويس بورخيس (1956)، والمجموعة القصصية "نصوص من أجل لا شيء"Texts For Nothing لبيكيت(1950-1952) والتي تشكل منعطفًا تقليلياً في أعماله،وفي النماذج الظاهراتية للمجموعة القصصية "لقطات" Snapshots (1962) لروب غرييه، والتناص اللطيف لروبرت كوفر "سبع قصص نموذجية"Seven Exemplary Fictions (1969)، وبعض المقطوعات في رواية جيه جي بالارد Ballard التجريبية "معرض الفظائع " The Atrocity Exhibition(1970).
يمكن القول إن تزايد أشكال القصة المايكروية هو أحد أعراض تحول ثقافي أكثر جوهرية والذي أشار إليه الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار Lyotard في سياق تشظي السرد العظيم،المسّوغ تأريخياً ، للتقدم البشري الى بيانات متعددة ومحلية وعارضة ومتضاربة عن العالم كما هو معروف من الناحية العملية. بنقل هذه الرأي إلى المجال الأدبي ، يشير انتشار الأشكال الجديدة إلى تنوع استراتيجيات السرد المطلوبة للتعامل مع ما يسميه ماكهيل McHale تحولًا في الهيمنة من الجمالية الحداثوية إلى جمالية ما بعد الحداثة. إن ظهور أشكال مستقلة وذاتية لقصة المايكرو في مجال سردي متنوع بشكل متزايد يدل على التحدي المستمر للمنطق التقدمي لـلتشكيلBildung - تشكيل الذات المستقلة ، التي تجد وسيلتها المثالية في الرواية التي تلاحق تطور ونمو البطلBildungsroman. يروج عدد متزايد من المطبوعات المعروفة لأشكال قصيرة جدًا:العدد الخاص بالقصص القصيرة جداً من مجلة TriQuarterly في عام 1976 الذي حرره كوفر Coover يمثل أول محاولة ناجحة لجمع المنمنمات السرديةMiniature معًا ؛ بينما ناصرت النيويوركر New Yorker الكتاب التقليلين الشباب من امثال ريموند كارفر وأيمي هامبلHempel وماري روبيسون Robison وآن بيتيBeattie وتوبياس وولفWolff.
لم يكن هذا الاهتمام المتجدد بأشكال السرد القصيرة في السبعينيات والثمانينيات مقتصراً على الولايات المتحدة بأي حال من الأحوال. إلى جانب التأثير المستمر للأعمال القصيرة للكتاب البريطانيين والأيرلنديين مثل بيكيت وبالارد وموريل سباركSpark نشأ جيل شاب مثير يضم شخصيات مثل إيان ماك إيوان McEwan وكازو إيشيغوروIshiguro وأنجيلا كارتر Carter، التي كتبت أشهر المنمنمات القصية . في الواقع ، نُشرت أعمال مهمة تعكس مجموعة من أنماط السرديات القصيرة في جميع أنحاء العالم الناطق باللغة الإنجليزية من قبل، على سبيل المثال ، الكندية أليس مونرو Munro، النيوزيلندية سي كي ستيد Stead، نادين جورديمر Gordimer من جنوب إفريقيا، والأسترالي ديفيد معلوفMalouf . أن الاهتمام المستمر الذي يكرسه الكتاب والنقاد والمدرسون والناشرون في الولايات المتحدة للأشكال التقليلية ولقصص المايكرو يضعها باستمرار في طليعة تطور هذا الجنس الغامض والمتجدد. بدأت مختارات مهمة من القصص القصيرة جدًا- قصص أدرجت أو أستبعدت بناء على عدد كلماتها فقط - في الظهور في الثمانينيات . مثلا إيرفينغ Irving وإيلانا وينر هاو Howe " قصص قصيرة جداً (1982) Short Shorts حددا الفين و خمسمائة كلمة لهذه القصص وإحتوى الكتاب على مجموعة رائعة من القصص المايكرو. وحدد روبرت شابارد Shapard وجيمس توماس Thomas في المجاميع القصصية التي حرراها تحت عناوين Sudden Fiction (1986)، International Sudden Fiction ( (1989 وNew Sudden Fiction (2007) ،ألف وخمسمائة كلمة، لتصبح سريعاً أعمالًا قياسية في الأدب ومقررات الكتابة الإبداعية. وجاء بعدها مجاميع Flash Fiction (1992) و) Flash Fiction Forward (2005 و) Flash Fiction International (2015 – التي حررت من قبل روبرت شابارد وجيمس ودينيس توماس وتوم هازوكا Hazuka وكريستوفر ميريل Merril – التي جعلت الحد الأقصى عند سبعمائة وخمسين كلمة ، بينما حددت مجموعة القصة المايكرو Micro Fictionالتي حررها جيروم ستيرنStern (1996) ثلاثمائة كلمة فقط أو أقل، ولا يزال كلا العملين مدخلين هامين للقصة المايكرو.
لا يزال تقليص حجم أشكال السرد القصيرة الى حدود قصوى الشغل الشاغل للعديد من الكتّاب،وتمثل الوسائط الأدبية سريعة التطور تحديات وفرصًا في هذا الصدد. تحدث التكنولوجيا الرقمية بشكل خاص تحولاً جذرياً في كل من بُنى الاتصال وفي السرعة التي يتم بها كتابة المنمنمات الأدبية ونشرها والوصول إليها ومعالجتها. إن التحول المستمر من الورقة الى الشاشة، مع ما يصاحب ذلك من دمج لعمليات القراءة الخطية وغير الخطية، يؤدي إلى إعادة نظر جذرية في الطرق التي يتم بها صياغة المادة اللفظية في شكل أدبي. تستمر مواقع الأنترنت والمدونات وتقنيات الاتصالات المتنقلة المختلفة في توفير أرضية خصبة لتأليف وأرشفة الأعمال المصغرة ، وإن كانت في كثير من الأحيان ذات جودة متغيرة للغاية. يلفت نيكولاس رويال Royle الانتباه إلى أول تطبيق جوال تم تطويره لاستضافة القصص السريعة " التي تهدف إلى "نقلنا إلى لب الأشياء لنكتشف "كتابة عصرنا". ومع ذلك، لا ينبغي أن ننسى أن رواية الهاتف المحمول المتسلسلة- تتكون من فصول محدودة بعدد محدد من الأحرف التي يمكن للقراء الإشتراك فيها والتي يتم توزيعها بشكل أساسي عن طريق الرسائل النصية- كانت تهدف بالفعل إلى تحقيق إحساس مماثل بالفورية وسهولة الوصول. تطور آخر حديث يستخدم منصات وسائل التواصل الاجتماعي والمدونات الصغيرة مثل تويتر لاستكشاف كل من الأشكال المتسلسلة- يعتبر "الصندوق الأسود" Black Box لجنيفر إيجانEgan (2012) و"النوع الصحيح"The Right Sort لديفيد ميتشل Mitchell (2014) أبرز الأمثلة – وكذلك التغريدات الفردية التي تقتصر على مائة وأربعين حرفًا. أن إعتبار تلك الأشكال الصغيرة وعلى نحو متزايد جنساً أدبياً محترفاً- يتم تدريسه على نطاق واسع كجزء من مقررات الكتابة الإبداعية والمهنية، وإعتباره فئة في عدد متزايد من مسابقات الكتابة- أدى أيضًا إلى زيادة سريعة في كل من عدد القصص القصيرة جدًا المكتوبة والمنشورة (غالبًا عبر الإنترنت)، وفي المواد التعليمية التي تتناول كتابة أنواع مختلفة من القصة الفلاش والقصة السريعة والقصة المايكرو. كان كتاب شتيرن المعنون القصة المايكرو Micro Fiction هو أول كتاب مختارات تم تجميعه بالكامل من المسابقات، مع ظهور مختارات أحدث جمعها كالوم كيرKerr وفاليري أوريوردان O’Riordan من اليوم الوطني للقصة الومضة UK National Flash Fiction Day ، والذي بلغ ذروته حتى الآن في نشر مجاميع Jawbreakers (2012) وScraps (2013) وEating My Words (2014). على الرغم من أن نجاحها التجاري الحالي قديتضاءل بمرور الوقت ، إلا أن القصة المايكرو أثبتت أنها جنس أدبي مرن وقابل للتكيف ومن المرجح أن يجد طرقًا معبرة في المستقبل.
2. جماليات القِصَر
2.1 القِصَر
وفقًا لهاو Howe، "هناك شيء واحد يمكننا التأكد منه وهو أن القصة القصيرة جداً هي أقصر من القصة القصيرة." ومع ذلك ، عند الفحص الدقيق ، تصبح هذه الحقيقة البديهية مشكلة: كيف يمكننا تمييز النقطة التي يصبح عندها القصير فقط قصيرًا جدًا؟ تم تناول مسألة القِصَر في مقالين نقديين مهمين ، الأول كتبه نورمان فريدمانFriedman تحت عنوان "ما الذي يجعل القصة القصيرة قصيرة؟" والثاني كتبه وليام نيليز Nelles تحت عنوان "القصة المايكرو : ما الذي يجعل القصة القصيرة جدًا قصيرة جدًا؟" كلاهما يهتم بشكل أساسي بالتقنيات التي يتم من خلالها تحقيق القِصَر، وليس بالمشكلة المفاهيمية للقِصَر نفسه، على الرغم من أن فريدمان يقدم بعض الإفتراضات في هذا الصدد. وبالتالي، ليس من المستغرب تمامًا أنه على الرغم من أن الكتاب والنقاد والناشرين والقراء يختلفون على نطاق واسع حول ما يميز القصير عن القصير جدًا ، فإن الاتجاه في تحرير مختارات القصص القصيرة جدًا كان للتأكيد على المقياس الكمي البحت لعدد الكلمات .
إلى جانب تغير التسمية والتعريف عمد المحررون الى تقليل عدد الكلمات بإستمرار ، من 2500 كلمة عند هاو في عام 1982، إلى 100 كلمة عند كير وأوريوردان في عام 2012.و بتأثير من المنطق الاقتصادي الشامل للرأسمالية المعاصرة ، غالبًا ما تُختزل معايير هذه القصص الى مقاييس كمية ثابتة- عدد الكلمات أو مقدار المساحة التي يشغلها النص أو الوقت المستغرق لقراءته- والتي تركز الانتباه، كما يقول فريدمان، على"أعراض القِصَر لا أسبابه". بينما يدرك فريدمان أن ظروفًا سردية معينة قد تكون مدعاة للقِصَر - بشكل أساسي تمثيل أحداث صغيرة أساساً أو أحداث كبيرة " أُختصر طولها" من خلال تقنيات الاختزال المختلفة - يثبت القِصَر نفسه أنه عنيد وبشكل غريب أمام الوصف المباشر. بالنسبة لفريدمان ، فإن أهم ما يتعلق بالقِصَر هو أنه يتضمن مبدأ الأقتصاد، وبالتالي إقتصاد لا يمكن قياسه بالقيمة المطلقة: يجب ألا "تتجاوز القصة القصيرة إحتياجات تأثيرها "، بل تحتوي فقط على العناصر التي تحتاجها القصة لتوصيل فرادتها Singularity.
2.2 المقياس Scale
في القصة القصيرة، وحتى في القصة القصيرة جدًا، يصبح الكم هو الصفة الأساسية للعمل المعني، ومع ذلك لا يمكن التعبير عنه من خلال مقياس كمي ثابت.يوفر مفهوم المقياس أكثر الوسائل إقناعًا لفهم الكمية بإعتبارها جزء من عملية مستمرة للتقدير الكمي، وإعادة استثمار الديناميكية في المواقف السردية التي غالباً ما تفهم خطأ على أنها ثابتة. يُعد المقياس أداة قياس نسبية لكل من الكمية المكانية والزمانية، وعلاقة الحجم والمدة التي تنطبق بالتساوي على العمل الأدبي نفسه وعلى سياقات إنتاجه وإستقباله. كما في حالة الفنون البصرية، من المفيد التمييز بين المقياس الداخلي والخارجي. يصف المقياس الداخلي علاقة الأجزاء بالأجزاء الأخرى وعلاقة الأجزاء بـالكل أو بشكل العمل المعني ويتعامل مع نسبة الأجزاء لبعضها البعض. تنطبق مسألة النسبة على الأدب على المستويين الشكلي والتمثيلي: يجب أن توضع الشخصيات والحدث والحبكة بنسب معينة بحيث تشكل سردًا يمكن تصديقه أو مناسبًا للأهداف الجمالية للعمل. يصف المقياس الخارجي علاقة العمل المعني بالأعمال والأشكال الأخرى، العلاقة مع القراء وسياقات القراءة، ومع الجنس الأدبي والواسطة وعلامات الأدب الأخرى كنظام عالمي.
في القصة المايكرو يفسر المقياس الداخلي للعمل الطريقة التي تظهر بها العديد من الأعمال القصيرة جدًا "مثل معظم القصص القصيرة العادية،ما عدا إنها أكثر قصراً فقط"، كما يقول هاو،وتختلف في "الدرجة ولكن ليس في النوع"، حسب رأي فريدمان. تقدم قصتا " السيد والسيدة إليوت"Mr. and Mrs. Elliot لهمنغواي وقصة "الواجبات الخاصة"Special Duties لجرين Greene وصفاً مكثفاً للغاية عن العلاقات الزوجية المتوترة ، مع الاحتفاظ بالبُنى والنسب السردية التي تجعلها قابلة للمقارنة مع الأشكال الأطول. وبالمثل ، فإن المقياس الداخلي ، الناجم عن العلاقة بين الأجزاء، هو الذي يجب أن يظل ثابتًا نسبيًا حيث ينكمش طول هذه القصص حتى تتمكن من الحفاظ على تماسك عوالمها – على نماذج "من فعل ماذا ولمن أو مع من ومتى وأين ولماذا وكيف". عندما يتعطل هذا المقياس الداخلي ، يتوقف توافق القصة المايكرو مع قواعد السرد التقليدية: "تبدأ في إظهار الاختلافات النوعية "التي لا تنجم فقط من تجاوز عتبة الكمية ، كما يقول نيليس Nelles، ولكن تجاوز تلك العتبة يدل على التحول من قضايا المقياس الداخلي إلى تلك المتعلقة بالمقياس الخارجي.
عند هذا الحد- بين الأقصر والأشد قصراً- تغدو القصة المايكرو مهتمة بشكل كبير بإيصال الإحساس بالفورية. وكما هو الحال مع الفنون البصرية التقليلية التي تستقصي"العلاقة المعقدة بين الوجود والمقياس"، فإن القصة المايكرو التقليلية تحقق الإحساس بالفورية من خلال التلاعب المتناسق بالمقياس المادي والزماني،بحيث"تتطابق مدة حدث القصة الموصوف بشكل وثيق مع طول الفترة الزمنية اللازمة لمعالجة الحوارات التي يتم فيها تقديم تلك الأحداث ". على سبيل المثال ،تحتاج قصة "Inked " لرين سيمبسون Simpson الى حوالي ثلاثين ثانية لقراءتها - مقياس زمني واقعي لتوقف قصير ومتوتر تصوره القصة في مائة وخمسين كلمة ، لوشامّة(رسامة وشم) تنتظر أستقبال زبونها الأول . وعند ضغطها أكثر ، فإن أقصر قصة مايكرو تقدم نفسها بلغة تفرد عصية على التصنيف السهل ، والتي من خلال حدها الأقصى تشكل أحداثًا بحد ذاتها، وغالبًا ما تستدعي جماليات التسامي .
2.3 التسامي التقليلي
تشير كلمة "التسامي" Sublime إلى نوع من أنواع "المتعة السلبية" التي تنشأ عندما نواجه ظواهر ذات مقياس متطرف. أن قدرة العقل، وهو يعاني شكلاً من أشكال الرعب في مواجهة تهديد وشيك ، على تصور فكرة اللانهائي ، وقدرته على توكيدها أكثر حتى من أكثر التجارب الحسية قوة ، يعيد تأكيد القدرة البشرية والاستقلالية. المتعة مشتقة من السمو "ليس لأنها تثير الخوف بل لأنها تستدعي قوتنا". توفر جماليات التسامي وسيلة غير كاملة لتقديم ما لا يمكن تمثيله - المطلق. بهذا المعنى ، فإن الحدود القصوى للمقياس المرتبطة بجماليات التسامي هي أصفار للمطلق. يبدو أن تأكيد سوزان ستيوارت Stewart بأن "الأشياء الصغيرة يمكن أن تكون متسامية مثلها مثل الظواهر المادية الكبرى للطبيعة وصنع الإنسان" يعتبر محورياً في هذا السياق.
أن التسامي التقليلي– الجانب الأكثر راديكالية من الصغر والقِصَر والإيجاز الناجم عن تأمل الاختفاء والغياب والعدم والفراغ – يؤشر حركة جمالية تجاه اللاتناهي في الصغر والذي له مظاهر أدبية عديدة ومتنوعة: في أحد الجوانب ، تستكشف التجارب المادية للميكروغرافيا Micrographia الحد المتسامي الأقصى للمقياس التقليلي من خلال الكتابة الصغيرة، المكتوبة أو المطبوعة بشكل أساسي في كتب مصغرة تضغط على الحد الفاصل بين المرئي وغير المرئي ؛ على الجانب الآخر ، نجد قصص مايكرو مثل "Fizzle 5" لبيكيت والتي تدرس النقطة الحاسمة التي يهدد عندها المفهوم والخبرة واللغة والمعرفة بالتداعي الواحد بالآخر ، مما يجسد الظروف التي بموجبها تثبت القصة المايكرو أهليتها للمهمة المتسامية المتمثلة في "تقديم ما لا يمكن تمثيله" ، كما يقول ليوتاردLyotard . غالبًا ما تتصارع المقطوعات والأمثال الموجزة لشليغلSchlegel ونيتشهNietzsche وتشيخوف Chekhov مع التسامي التقليلي ، على مستوى الشكل والمحتوى. ومن الأمور المثيرة الأخرى أيضاً في هذا الصدد المنمنمات الأستبطانية والمتكررة مثل "حكاية الإطار"Frame-Tale لجون بارث Barth والتي ، إذا تمت قراءتها بشكل صحيح ، تكرر بشكل لا ينتهي عبارة واحدة ، "يحكي أن هناك قصة بدأت " ،وقصة "مكتبة بابل" لبورخيس ، والتي توضح القدرة المتناقضة للأعمال الصغيرة بشكل فعال في تمثيل اللانهائية إلى جانب اللاتناهي في الصغر ؛ وفي قصة ديف أجيرزEggers المعنونة "هناك بعض الأشياء يجب أن يحتفظ بها لنفسه" ، و التي تنقل بها الصفحات الأربعة الفارغة التهديد المتسامي بالغياب المطلق -الموت - والوعد المتسامي باللانهائي وبالاحتمالية اللانهائية .
إن المقياس التقليلي للكثير من القصص المايكرو قادر على تكثيف جوهر العمل ، مما يشكل نوعًا من الدخول المتسامي إلى واقع يتجاوز العمل حتى عندما يشير إلى جوهر جماليته. في قصة مايكرو ناجحة يعمل المقياس والشدة جنبًا إلى جنب: تزداد الشدة مع انخفاض المقياس ، مما يعكس المنطق الجمالي للقول " الأكثر في القليل "، وفقًا لذلك فأن تفرد العمل التقليلي تكمن تحديداً في قدرته على "تجاوز أي سياق محدود للأصل وفي نفس الوقت احتواء متقن لعالم ذي اهمية محتملة ".
3. نحو نموذج معاصر لقصة المايكرو
3.1 العلاقة
إن السؤال عن كيفية ارتباط القراء بالقصص المايكرو وببعضها البعض ، هو أمر أساسي لفهم تطورها المستمر. أن القصة المايكرو هي جنس إجتماعي. من النادر نسبيًا العثور على قصة قصيرة جدًا تنشر بمعزل عن غيرها. تختلف الأسباب ، بدءًا من رأي جونسون Johnson الساخر ولكن العملي ، حيث " يفضل المحررون القصص المايكرو لأنه يعني أنه يمكننا نشر عدة عناوين في عدد واحد ، وبالتالي خلق وهم التنوع على صفحة المحتويات "، وصولاً الى مثالية باكستر Baxter التي تعتبر القصص المايكرو " قصة تقارب"، قادرة على الادعاء بأن قصصها تكشف عن "شيء ما يتعلق بحجم حياتنا ، لا عن القليل الذي حدث و إنما عن الألفة والتقارب اللتان زادتا". ما هو حاسم في كلتا الحالتين هو الإحساس بأن في قلب مشروع القصة المايكرو تكمن مسألة علاقة: بين الأعمال بعضها ببعض والأعمال مع القراء وأخيراً بين القراء بعضهم البعض ، لأن هذه الأعمال تخاطب بشكل جمعي جمهور القراء كما يقول وارنر Warner، "بحكم التعريف هو جمهور غير محدد وليس دائرة اجتماعية يمكن ترقيمها أو تسميتها " وبالتالي تتميز بآراء متنوعة ومتباينة حول طبيعة هذا الشكل وحدوده ومزاياه وآثاره.
يعني الانتشار السريع للقصة المايكرو كجنس مهني– يُدرس في العديد من مقررات الكتابة الإبداعية ومدرج في العديد من المناهج المدراسية وينشر في المجلات العادية والمجلات الأدبية الرائجة ،وهو موضوع في مسابقات ومهرجانات الكتابة الدولية، مثل اليوم الوطني لقصة الفلاش في المملكة المتحدة، والموجود في عدد متزايد من مواقع الإنترنت – أن عدداً من أفضل القصص المايكرو قد كتبت وقد أخذت في الأعتبار مجموعة محددة من العلاقات - أو النظام . كما هو الحال مع كل جنس أدبي ، يأخذ نظام القصة المايكرو الشكل القابل للتغيير لمجموعة من العلاقات الناشئة بين الكتّاب والأعمال والقراء. غالبًا ما تتضمن مثل هذه العلاقات إعادة النظر في الأشكال التاريخية ، كما يتضح من استخدام بورخيس وكارتر للفولكلور والخرافة. وعلى نفس القدر من الأهمية هي العلاقات التناصية التي يشيع استخدامها من قبل كتّاب القصة المايكرو من أجل "زيادة الوظيفة أو المقدرة التفسيرية للقصة". تأمل ، على سبيل المثال، قصص تيجو كول Cole على تويتر" سبع قصص قصيرة عن الطائرات بدون طيار Drone"، وهي سلسلة من التغريدات القصيرة، يبدأ كل منها بسطر إفتتاحي لرواية شهيرة، متبوعاً بعبارة حادة تم وضعها بعناية لنقل العبثية الموجعة لحرب الطائرات بدون طيار.
للسلاسل الطويلة المتزايدة والعديدة من المؤلفين المشهورين والقادرة على إثبات الاستمرارية والتنوع أهمية خاصة. تعتبر" مخزن الشيطان The Devil’s Larder للكاتب جيم غريس Grace واحدة من عدة سلاسل ممتازة لقصة المايكرو- ومن السلاسل الأخرى " “Tender Buttonsلشتاين Stein، كتاب الوحوش الخيالية لبورخيس، و The Bloody Chamber لكارتر، و Mean Tales لغراي Gray، و Severance لبتلرButler، و Twentysix لكيمبKemp - التي تنسج معًا منمنمات قصصية متميزة من خلال خيوط مشتركة من الفكرة أو الموضوع أو الأسلوب أو الشكل . في الواقع ، تعتبر سلاسل كيمب جريئة ومبتكرة - فلسفية بلا وجل وحرفية مقلقة وهي أيضًا عميقة وواضحة في سردها لستة وعشرين لقاءً لمثليين ، كل منها يواجه قدرات اللغة وحدودها وهي تحاول التوفيق بين الشدة الماحقة للجسد والتجربة الجنسية . تمثل هذه القصص العديد من أكثر الصفات إلحاحًا في القصة المايكرو المعاصرة.
3.2 الحدث
في قصة كيمب المعنونة "L" ، على سبيل المثال ، يواجه القارئ حدثًا واحدًا يبدأ في منتصف الحبكة ، حيث تروي روبي وهي عاهرة متحولة جنسيًا بشكل فكاهي تجربة الجنس الفموي مع "أحدث زبائنها " إلى جمهور مصغ يبحث عن الجنس في حديقة عامة. إلا أن هذا الحدث الفردي يوضع بعناية في مكان عام ، مما يسمح للأنماط اللفظية البسيطة بالتعبير عن قدر كبير من التفاصيل. أن التأرجح السريع بين تقنيات وأساليب سردية واضحة تمكن كيمب من دمج العديد من الاستعارات النموذجية للمنمنمات. التأملات الفلسفية الذكية التي تبدأ بها القطعة وتنتهي - "يجب أن يكون لدي جسد لأن شيئًا ما غامضًا يعيش بداخلي "، و" ليس بالتالي هي مسألة لغة أو الجسد ، بل اللغة والجسد "- تتناقض بشكل حاد مع مونولوج روبي الذي يتخذ شكل مزحة ، طافحة بالسخرية ، "النذل حتى لم يبلع" ، مما يدل على نزعة في كثير من القصص المايكرو نحو التطورات غير المتوقعة والمفاجآت والإرتدادات . ومع ذلك ، فإن قوة هذا العمل تنبثق من سجل سردي ثالث. من خلال تفاصيل قليلة ولكن موحية ، يوازن كيمب بعناية بين الإحساس بالمعاصرة والحاضر ، وهو أمر أساسي للغاية في القصة المايكرو ، مع تفاصيل "الحياة السابقة" لروبي ، التي كانت تعرف برودي ، وهي الحياة التي قضاها مع "رفاقه المشاغبين في تشيلسي" والتي تضخمت من خلال "الندوب المشحونة رمزيًا حيث تم إزالة وشمي العلم البريطاني وكلب البولدوج ". يسمح هذا التوتر للراوي باستقطاب المؤنث والذكوري ، مع التركيز على اللحظات التي "يظهر فيها رودي ، ويختفي سلوك روبي الأنثوي في بخار من العنف" ، كل ذلك من أجل الاحتفال بالحدث الحاسم - "اللحظة التي مَنْ تُريد فيها روبي أن تكون ومَنْ ستكون يتطابقان بشكل رائع ".
مثل هذه الأحداث هي مصادر للجِدَّة والتغيير الجذريين. إنها تتفجر ضمن نظام قائم بطريقة لا يمكن التنبؤ بها في الأساس ، قوية لأنها عابرة ، وفي تفردها ، تستدعي أن يَشهدها أحد و يجسدها أحد ، حتى عندما تظل عصية على فهم أي نظام أو ترتيب. يحتضن الأدب الأحداث ،حتى تلك التي تمتاز بتفردها - النصوص التي تمتاز "بمقاومتها لأن تُدرج في فئات أو مفاهيم عامة" - طالما إن "التفرد ليس خاصية بل حدثًا" ، كما يقول أتريدج Attridge ، والذي لا يحدث فقط في خلق العمل ولكن في استقباله . تتصارع القصة المايكرو مع تفرد الأحداث بعدة طرق، حيث تتبنى العديد من أفضل القصص المايكرو التحدي الكبير المتمثل في تقديم ما لا يمكن تقديمه . تتمحور قصة الغرفة البيضاءThe White Room (2004) لجانيت وينترسون Wintersonحول فكرة غرفة بيضاء فارغة – صفحة فارغة ستتدفق منها الأحداث المحتملة ، و فيها سنتابع نتائج هذه الأحداث بشكل ضمني وغير مؤكد – وهي ، أي القصة ، تنسج تأملات قصيرة حول تداخل الزمانية والتأثير والذاكرة والتجربة الظاهراتية من أجل تجسيد "اللحظة المنتقاة والتي تنفتح على العمر بأكمله". تعرض قصة الغرفة البيضاء ،التي تعتبر نموذجًا للعديد من التفاصيل الجمالية الدقيقة للقصة المايكرو، الحدث باعتباره عتبة يصبح معه التمييز بين الشعر والنثر والانكماش والتوسع والحتمية والفرصة والهشاشة والمرونة والحنين إلى الماضي والطليعية إشكالية.
و فيما يخص الثيمات تملك الأحداث نفس القدر من الأهمية للقصة المايكرو، والعديد من الأعمال، مثل قصة كيمب المعنونة"L"، تتناول حدثًا استثنائيًا واحدًا أو لحظة حاسمة. وبالمثل فإن قصة Track 12 لبالاد تتشكل حول حادثة واحدة - جريمة قتل – ترتكب فجأة في جو متوتر من العداء المكبوت. شيرينغهام- "أستاذ الكيمياء الحيوية في الجامعة"– يضيّف ماكستيد- "رياضي منهك تحصّل على علامة سيئة"، والذي لديه علاقة غرامية مع زوجة الأستاذ - ويسّمعه سلسلة من التسجيلات فوقصوتية التي قام بها. من خلال هذا الكون الصوتي المصغر، الذي يرمز إلى مبدأ " الكثير في القليل" في تضخيمه لأجزاء من العالم التي لم يسمع بها أو تُخفى عادة، يواجه القارئ إيحاءات بما سيحدث: شيرينغهام يسمم ماكستيد، وبينما هو يحتضر، يطوقه الصوت الغريب لقبلة مسجلة ومضخمة تبادلها مع زوجة شيرينغهام.
غالبًا ما يرتبط تجسيد الأحداث الحدية - وخاصة الموت - بالسعي وراء البراعة الفنية. وفقًا لفرانسيس Francis، "لقد تحدى الكتّاب دائمًا أنفسهم من أجل الاختزال الأقصى أو المخططات الهيكلية . إنها محاولة خطيرة ". في الواقع ، بالنسبة لرويل، فإن تسارع المنمنمات المعاصرة - الأعمال التي يعتبرها قصة سريعة- تشكل نوعًا غريبًا من كتابة الحياة. في السباق الهائل صوب تجربة الموت المستحيلة، تشهد هذه الكتابة المظهر المتناقض للحياة- "قطرة مانحة للحياة ستنشر شدة على الصفحة"– وسط إختفاء حقبة طويلة لزمن السرد التقليدي وهي تصل الى العدم. هذه الظاهرة الغريبة للظهور في الإختفاء تتجلى بشكل واضح في القصة المايكرو البارعة لليديا ديفيز Davis، بينما تتطرق أعمال بلانشوتBlanchot وبيكيت بإستمرار الى شدة الفضاء المتسامية بين الحياة والموت- حدث يستدعي دائمًا تجسيده بعدم قدرته على التجسيد؛ حدس ال"قليل جدًا... لا شيء تقريبًا" في النطق المتعب للكلمات الأخيرة، مثل كلمات منمنمة باتريك وايت White، "البطاطا الصارخة"The Screaming Potato. هنا تؤكد قصة المايكرو تفردها، وهي تستعيد قوة الجِدَّة من الأحداث الماضية من خلال إعطاء تجسيد غير مباشر لشدة لا يمكن توضيحها للحدث القادم.
المنمنمة Miniature
إذا كانت ، كما تقترح سوزان ستيوارت ، "المنمنمات هي تدوين اللحظة ونتائجها" ، فسيبدو مصيرها الجمالي مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمصير الحدث. ومع ذلك ، عندما يشكل الحدث نقطة ديناميكية مكثفة ، فإن المنمنمات تسعى إلى الركود - "عالم من الزمن المأسور... لخلق توتر أو جدلية بين الداخل والخارج ،بين الخاص والعام... وبين فضاء الفرد وفضاء الجماعة ". من خلال تجريد الأساسي وطرح ما هو غير ضروري ، تكثف المنمنمة القدرة التمثيلية للأدب من خلال تصغير المقياس، الذي يحسب المسافة بين شكلها المتقلص والرؤية السردية الموسعة التي أُستخلصت منها . ربما تظل المنمنمات أكثر أنواع القصة المايكرو انتشارًا. ترتبط تقنياتها إرتباطًا وثيقًا بظهور الحكاية الفنية وتطورها في القرنين التاسع عشر والعشرين بشكل مغاير عن رفيقاتها ، وترتبط أيضًا بمجموعة من التجارب عبر التاريخ مع الأشكال الدقيقة للكتابة الصغيرة.
تميل المنمنمات التي تنطوي على تناقص في مقياسها الخارجي إلى أخذ شكل ملموس، يعرض من خلال إنتاج كتابات دقيقة مادية Micrographia – مثل كتب مصغرة وكتابات صغيرة - التي تعتبر "رمزًا للحرفة والانضباط" ، وحُمّلت إلى هذا الحد بقوة رمزية ودلالة طقسية تذكر بالارتباط الديني القديم للنقوش والقوة. هذه القوة تحول العمل الدقيق إلى عالم مصغر - عالم في صورة مصغرة - حيث "الوقت اللانهائي...للعالم يتقهقر داخل أدنى حد من الفضاء المادي." ترتبط شدة الصورة المصغرة ارتباطًا وثيقًا بالوسط الذي تتشكل من خلاله . وسّعت الدقة المتزايدة لتقنيات الطباعة "حدود المهارة الجسدية في الكتابة" بشكل كبير ، وتلك التقنيات تطورت بشكل جذري مع ظهور التكنولوجيا الرقمية. هنا يكون التمييز المادي بين النصوص القصيرة والطويلة ضئيلًا ، وكلاهما يُنقلان بشكل معتاد إلى العالم الافتراضي للفضاء الإلكتروني الذي يطمس أي تمييز واضح بين العالم الكبير والعالم الصغير ، اللانهائي والمتناهى الصغر. ومع ذلك ، تزدهر التجريبية الدقيقة في هذه الوسيلة . أن عمل كريستين ويلكسWilks المعنونUnderbelly (2010 ) على سبيل المثال ، عبارة عن مختارات متعددة الوسائط قائمة بذاتها لمقطوعات قصصية مايكروية تستكشف التاريخ غير المروي للنسوة العاملات في المناجم ، وتجذب القارئ بشكل تفاعلي عبر العالم المصغر تحت الأرض لمنجم فحم في يوركشاير في القرن التاسع عشر.
أن المنمنمات التي تنطوي على تصغير في مقياسها الداخلي تشبه الأشكال السردية الأطول فيما يتعلق بأجزائها ونسبها ، معتمدة على الحذف الدقيق والإختصار والتكثيف لنقل قدر كبير من المعلومات الضمنية. تبرهن المنمنمات على أن "التقليلي هو الوسيلة وليست الغاية". بالاعتماد على الرواد البارزين مثل تشيخوف وهمنغواي ،تجد المنمنمات خير كتّابها من التقليلين وما بعد التقليلين - ريموند كارفر Carver، ماري روبيسونRobison ، آمي همبل Hempel، آن بيتي Beattie، دونالد بارثيلمي Barthelme، توبياس وولف Wolff، ريتشارد فوردFord ، بوبي آن ماسون Mason، ليديا ديفيسDavis ، جين آن فيليبسPhilips ، بريت إيستون إليسEllis وديف آغرز Eggers، من بين كثيرين آخرين - والذين يبنون "حاويات رائعة من المعاني المضغوطة" . وبينما تعتمد أشكال السرد الأطول على إنشاء أنماط معقدة ومفصلة لتوصيل معانيها ، فإن المنمنمات توظف "مجالًا من الإشارات المألوفة" - الشخصيات والمواقف العامة والأحداث أو الأشياء المحددة تاريخيًا وثقافيًا - والتي تعمل بمثابة شفرات لكميات كبيرة من المعلومات الضمنية الذي تم تكثيفها بعناية.
تعتمد العديد من قصص غريس في The Devil’s Larder على ارتباط حنيني بالصور المألوفة والحكمة العملية ، مما يعيد إحياء الأنماط المألوفة من الحكاية الشعبية والأمثولة والنادرة . تتناول هذه السلسلة الطعام بجميع مظاهره المادية ، إلى جانب المجالات المرتبطة به من الجوع والشغف والشبع والإفراط ، ومجموعة من عادات الطهي وعاداته وطقوسه ، ودورها كحامل للذاكرة الفردية والاجتماعية والثقافية. في وصف لاذع إلى حد ما للبدع الصحية المعاصرة ، تتحدث قصة " "37 لغريس عن عادات الأكل لرجل "منظم جيدًا وموثوق به" يركز نظامه الغذائي على مجموعة متنوعة من "الأطعمة لتوديع الموت" ، وهي طقوس مشبعة بالمفارقات طالما أنه يتبع هذا النظام الغذائي "دون انقطاع ، حتى يوم وفاته". ومن ثم فإن المقياس الصغير لقصة المايكرو بارع في تمثيل كل من الحياة اليومية العادية ولحظات التجلي ، وكلاهما قادر على العمل كـ "شعار للعالمي "وإلى هذا الحد يوضحان أن" ما يمكن اعتباره اتجاهًا كونيًا صغيرًا هو عالم كبير أيضًا. " لا تستغني القصص المنمنمة عن التفاصيل ، بل تستبدلها ، والواقع الذي تصوره موجود بكثافة مساوية أو أكبر لتلك الموجودة في الأشكال الأطول ، مما يكرر بشكل غير مباشر وجهة نظر فريدمان القائلة بأنه جودة المنمنمة القصصية تتحدد من قبل كفاية قِصَرها للتأثير الذي تحدثه.
تقدم قصة "Roma" لديبورا ليفي Levy وسيلة فعالة مماثلة يمكن من خلالها فحص المنمنمات المعاصرة. تبدأ القصة بأول سلسلة من الأحلام التي تدور أحداثها في روما حيث تواجه بطلة القصة التي لا تحمل إسماً "زوجها الذي سيخونها". يكمن العالم المصغر للحلم في الصورة المصغرة للقصة، والتي تتتبع الأحداث العادية للغاية لعطلة قصيرة للزوجين وعودتهما إلى المملكة المتحدة المتجمدة من أجل عيد الميلاد. يتم تقديم كلا العالمين المصغرين في نثر مشدود وصارم بشكل مثير للإعجاب، وتضخّم الحدة المزعجة لذلك النثر التوتر بين هذين العالمين المصغرين- لوحة الحلم الثابتة والمكتفية ذاتيًا تتخلل الاستمرارية الديناميكية للحياة اليومية وتصيرها مشكلة . من غير الواضح ، أخيرًا ، ما إذا كان الحلم يمثل عالمًا من الرغبة أو الخوف ، وهذا الغموض المُقاس هو الذي يميز العوالم المصغرة للحكايات واللوحات والنقوش القصيرة والرسومات ، مما يتيح لها تحديد "المسافة بين السياق المطروح" والسياق المروى "الذي من خلاله يصبح من الممكن البدء في رسم التطابق بين بنية السرد والواقع.
المقطوعة Fragment
قد ثبت أن المقطوعات النثرية تتعارض بشكل خاص مع مهمة معالجة الطارئية الأساسية للواقع. تقدم المقطوعات بديلاً جذريًا ومقنعًا لمنطق الأنظمة الشامل. عبر التاريخ ، تحتل المقطوعات كشكل أدبي موقعًا آخِيرياً وإبتدائياً ، وكلماتها هي البقايا المتناثرة لوحدات مبعثرة، ونقاط البداية لتشكيلات فكرية جديدة. تعطل المقطوعات أي تمييز مباشر بين الفلسفة والأدب ، وعلى الرغم من كونها دائمًا محدودة المقياس ، إلا أنها تتميز مع ذلك بـنقص جوهري يشير إلى "أنه يجب أن يتصير دائماً وألا يكتمل أبدًا". بهذا المعنى ، فهي شكل " يميل" دائماً– مرة بإتجاه النهائي وأخرى بإتجاه اللانهائي.
في هذا الصدد قد نضع القليلية Lessness المجزأة لنوفيلا بيكيت Worstward Ho (1983)، التي فيها الكثير من الجهد التفكيكي، مقابل رواية روبيسون المعنونة Why Did I Ever? (2001) ، و هي رواية كتبت بالكثير من الجهد الترميمي بعد كفاح مرير إستمر لحوالي العقد مع ما يسمى بعقدة الكاتب. في الواقع ، هناك تنوع كبير في الكتابة المتشظية : مثلاً (Blood On The Dining Room Floor (1933/1982 لشتاين وهي رواية حول لغز جريمة قتل ، The Atrocity Exhibition (1970) لبالارد وهو عبارة عن سلسلة من المقطوعات ، بينما I Watched The World Glidelessly (1956) لريتشارد براوتيجان و (Empty Words (1975 لكيج و( Panopticon (1984 تتحدى التصنيف تمامًا. ومع ذلك ، أنها المقطوعات المنعزلة ، التي "مثل عمل فني مصغر، يجب أن تعزل بالكامل عن العالم المحيط وتكون كاملة في حد ذاتها "، التي تجسد على أفضل وجه انتقائية القصة المايكرو عبر التاريخ .
في الواقع ، يرى مارج رُسل March-Russell أن القصة القصيرة تتوافق عمومًا مع منطق التشظية ، "كسر من أو فصل عن الحد المفروض" . ما تكشفه الأشكال القصيرة جدًا هو أن هذه التشظية ليس مجرد علاقة الجزء بالكل ، ولكن أيضًا الجزء ككل. كان هذا بالتأكيد هدف المرحلة الأولى من الرومانسية الألمانية ، التي هدفت مقطوعاتها التأملية إلى الكشف عن قدرة الأعمال الفردية على إنشاء منطق عالمي. إن الأعمال المجزأة والأمثال المتنوعة، على سبيل المثال لفريدريك نيتشه وسورين كيركيغارد Kierkegaard وآرثر شوبنهاور Schopenhauer وأنطون تشيخوف وأغست ستريندبرغ Strindberg وأوسكار وايلد Wilde ووالتر بنجامين Benjamin وموريس بلانشو Blanchot وفرناندو بيسوا Pessoa كلها تعرض مفهومًا أوسع للتشظية قادرًا على تأصيل الأمثولة والحِكم والأقوال (قد تكون شعراً) الفطنة والساخرة والعبارات المقتبسة Epigraph والاستطراد و الحكايات الرمزية Allegory والنادرة والطرفة.
كثيرًا ما استكشف تشيخوف المقطوعات ، بدءًا من الحوارات القصيرة مثل "زيارة غير ناجحة" (1882) ، مرورًا بمنمنمات "مرتفعات" (1883) المأثورة ، إلى الثنائيات الصغيرة من "أسئلة وإجابات "(1883) ، لكنها متسقة إلى حد ما في نبرتها: مسلية دائمًا - أحيانًا لطيفة ، ولكنه في مقطوعات أخرى من خلال السخرية اللاذعة ؛ غالبًا ما يكون تعليميًا - فهو يقدم قدرًا كبيرًا من النصائح ، وهنا تكون كتابته واعية لمعاصريتها. يستكشف العمل المتنوع الملحوظ لليديا ديفيس مجموعة من الأشكال المتشظية ، بما في ذلك شكل الأسئلة والأجوبة لـ "واجب لجنة التحكيم" Jury Duty (2001) ،أو التسلسل الإنتقائي في "ماري كوري ، امرأة شريفة جدًا" Marie Curie,So Honorable Woman (2001) والتأمل الذاتي الذكي في "تكريم الإحتمالية" Honoroing the Subjunctive(2001) ونقرأ فيه ، "إنه يسبق دائمًا ، حتى لو لا يستبدل تمامًا ، تحديد ما هو مرغوب تمامًا وعادل. " ويختتم السادير غراي Gray عمله المعنون " قصص مائلة " Lean Talesبسلسلة ذكية وقصيرة من المقطوعات التي تتوقف عند جوهرة متجددة ذاتياً، "بعد أن سحرت بالقصة حتى لم يبق لي شيء ، لجأت إلى الحقائق التي نفدت هي أيضًا." نشر دون باترسون Patterson ثلاثة مجلدات من الأمثال ، والتي تشمل استفزازات موقوتة - "لقد أنشأت مدونة ... فتى ذكي! التالي: إحمّر خجلاً"- جنبًا إلى تأملات صغيرة ولكنها ذات مغزى حول الحرية والاستقلالية -" كتاب القدر ، ولكن الكتابة المائلة تعود لي ".
في إصرارها على قدرة الأعمال الفردية على نقل الحقائق العالمية ، تنشئ المقطوعات حداً يضيع عنده التمييز الواضح بين الجزء والكل والانغلاق والانفتاح والعالم المصغر والعالم الكبير. في الواقع ، كما أدرك ذلك جيداً رومانسيو جينا ، تظهر المقطوعات عند "نقطة [...] تتأرجح باستمرار بين خلق الذات وتدمير الذات". إن النقطة المتسامية تستشعر الطارئية الجذرية في قلب كل حدث أدبي ؛ القدرة الكبيرة على إعادة التفسير ، والتي تعترف بالبعد الاجتماعي والأخلاقي للمقطوعات : أي "المهم هو أن نعرض في الكتابة ، من خلال المقطوعات ، التعددية التي تكون في كل منا افتراضية ، وفي جميعنا حقيقية".
الوسيلة Medium
يرتبط الأدب بالعالم ، سواء من خلال ما يمثله أو التأثيرات التي ينتجها. ومع ذلك ، يرتبط الأدب أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالوسيلة التي يتم التعبير عنه من خلالها – طبعاً باللغة والكتابة ، ولكن علاوة على ذلك بالوسائل التي يتم من خلالها تنسيق اللغة والكتابة ، والحفاظ عليها ، وجعلها قابلة للنقل ، أو باختصار ، التوسط بينها . ومع ذلك ، سيكون من الخطأ اعتبار الوسيلة الأدبية إما منفصلة عن العمل أو العالم أو متراكبة عليه ، أو في الواقع منفصلة عن دورنا في كليهما. وكما يقول ماكلوهان McLuhan، فإن كل وسيلة هي في الأساس "امتداد لأنفسنا" ، لا تعكس فقط الرغبة بل الوسيلة أن نصبح أكثر حضوراً وعلى الفور في العالم. يقدم كل ابتكار يرتبط بالوسيلة تحولًا في الحجم والشدة اللذين نرتبط من خلالهما مع كل من العمل والعالم.
إن هذا التركيز المشترك على الحجم والشدة هو الذي يجعل تتبع منطق موازي في تطور القصة المايكرو من خلال التغييرات في وسائط التعبير الأدبي عملاً مثمرًا. وغير بعيد عن التحول التكنولوجي ، كان تطور الوسيلة الأدبية تصاعدياً في معظمه ، مع التركيز على قدر أكبر من المتانة وإمكانية الولوج والنقل. بدأت الوسيلة بالنقش على الحجر والخزف ، وتواصلت على الورق ورق المخطوطات ، وتطورت بشكل كبير بعد إختراع الطباعة وبداية عصر الكتاب ، ثم تركزت و تسارعت بشكل جذري مع ظهور التكنولوجيا الرقمية. تميل أشكال القصة المايكروية إلى احتضان الأشكال والوسائط التجريبية من أجل الحصول على ولوج فوري على نحو متزايد إلى العالم ، وكشف شعور لا يمكن استبعاده بالوجود في قلب العمل. يتجلى هذا في التقدم الموازي الواضح ، ولكن غير الملحوظ إلى حد كبير ، لأشكال القصة المايكروية والتقدم التكنولوجي لوسائل الإعلام الأدبية. ولأن الإدراك البصري يسهل ولوجنا الفوري إلى العالم ، فإن هذه الأشكال تميل إلى أخذ مفاتيحها من التقنيات المرئية - من الرسم ، إلى اللقطة ، إلى القصة الفلاش.
إن توازن الانطباع والتعبير الذي تحقق في اسكتشات Sketch الفنانين التشكيليين بهدف التقاط ديناميكية التجربة ، أحيانًا من أجل تلك التجربة وفي أحيان أخرى استعدادًا للمزيد من العمل المتقن ، يقابله فورية الرسومات اللفظية من قبل كتاب أساتذة مثل تشارلز ديكنز ، همنغواي ووولف. "الأزرق والأخضر" الذي كتبته وولف في عام 1921 وتطرقنا له سابقاً – يهدف الى الولوج الفوري إلى تعقيدات التجربة الحسية ، وخلق منطقة حدودية تتداخل فيها الكلمة والعالم مع بعضهما البعض في تذكر وإسقاط لتوليفة إنطباعية من الإحساس والتأثير من خلال اللغة. وفي أسكتش جميل ومغاير تمامًا ، في "استراحة للشاي"Break for Tea لإيان هاميلتون فينلاي Finlay (1952) على الرغم من وصفيته وقِصَره - فهو يصف اثنين من الصيادين يشربان الشاي حول نار صغيرة بينما يتجمع الضباب ويبدأ هطول الأمطار - أيضًا يستدعي الحالة المزاجية التي تسمح لإيان هاميلتون فينلاي باستجواب العلاقة الدقيقة بين الموقع وساكنيه ، لقياس السلوك العرفي مقابل تفرد اللحظة المرسومة.
لقد كُتب الكثير عن التأثير التخريبي للتصوير الفوتوغرافي على الاقتصادات التقليدية للمحاكاةMimesis : على قدرتها على نقل "الوجود المشترك" المتوتر للمظاهر الخارجية لكل ماهو إجتماعي وعام ، والعلاقة الحميمة بين الخاص والشخصي، كما يظهر في تمييز بارت Barthes بين المنتشر studium والناتيء punctum ؛ في قدرتها المتناقضة على إيصال الفورية الديناميكية للوجود مع تجريد هذا في وقت واحد في نقطة ثابتة ، مما يدل على "الصورة باعتبارها شفرة لتاريخ مكتوب في أشكال وبوصفها واقع منفرج" الذي يقاوم بطريقة ما الإدراك. ومع ذلك ، كما يؤكد ميرلو بونتي Merleau-Ponty ، فإن الولوج إلى العالم يتم دائمًا من خلال عملية ديناميكية للإدراك ، وهذه الديناميكية الإدراكية بالتحديد هي التي يتعامل بها روب غرييه Robbe-Grillet في قصته المبكرة ، لقطات (1962). تعمل القصص المايكروية الثلاث المترابطة "في ممرات مترو الأنفاق" In the Corridors of the Underground على توسيع منطق السكتش بشكل كبير من خلال تركيز الانتباه على أشياء أو أحداث إدراكية - إعلان ضخم على الحائط ورحلة فوق سلم متحرك ، على سبيل المثال - من أجل لفت الانتباه إلى قدرة الوسيلة الأدبية على فهم الركود والحركة في وقت واحد وفوري ، وهي القدرة الدقيقة لللقطة. تعكس شدة هذه الأعمال الصغيرة الحجم دافعًا أدبيًا نحو "واقع لم يعد موجودًا بشكل دائم في أي مكان آخر ، ولكن هنا والآن" ، ويعد جوهر اللقطة مهمًا لعمل مجموعة من الكتّاب بما في ذلك غابرييل يوسيبوفيتشي Josipovici وبيكيت وباتريك وايت وجون بارث وتشارلز بوكوفسكي Bukowski وريموند كارفر.
قصة الفلاش هي لحظة رؤية فورية وولوج جوهري- نقطة ظهور، ولكنها أيضًا نقطة اختفاء. ليست مجرد مسألة وصول مكثف ، ومع ذلك ، فإن قصة الفلاش هي أيضًا نوع من الانتقال . في علم الأنساب لأشكال القصة المايكروية الوسيطة ، تتبع القصة الفلاش الأسكتش واللقطة ، وتتشكل في أعقاب الثورة الرقمية التي بدأت في الخمسينيات من القرن الماضي وتتركز على "ترجمة جميع الوسائط الموجودة إلى بيانات رقمية يمكن الوصول إليها من خلال أجهزة الكمبيوتر". على الرغم من أن العديد من قصص الفلاش ليس لها علاقة موضوعية ولا علاقة مادية بالتكنولوجيا الرقمية ، إلا أنها ومع ذلك ، تعكس التحول التاريخي الذي تميز به ظهور الثقافة الرقمية ، وتظهر ارتباطًا بديهيًا بالتفكير الإعلامي الجديد: "التقارب بين مسارين تاريخيين منفصلين: تقنيات الحوسبة والإعلام" ، يؤدي إلى ظهور "الغرافيك والصور المتحركة والأصوات والأشكال والمساحات والنصوص على الكمبيوتر ".
إذا كان ظهور تقنيات الإعلام الجديدة يوفر فرصًا غير مسبوقة لإضفاء الطابع الديمقراطي على المعرفة ، وفي الواقع على النظام الأدبي بشكل عام ، فإنه يعجل أيضًا بإمكانية التنبؤ بقلق ثقافي كبير بشأن مستقبل الأدب وأشكاله المؤسسية. هذه الأمور هي الأكثر إثارة للإنتباه في الحوارات : يعتقد كار Carr أننا نشهد تآكل القراءة العميقة التي من خلالها تصبح الوظيفة التواصلية للكتابة مرتبطة بزيادة الاهتمام وحتى الفهم المعقد ؛ هايلز Hayles أكثر حذرا ، حتى أنها بينما تقر بأن وسائل الأعلام الرقمية تغير جوانب القراءة والاحتفاظ بالمعلومات ، إلا أنها تجادل بشكل مقنع بأن مثل هذا التغيير لا ينبغي خلطه ببساطة مع التدهور.تتجلى مخاوف مماثلة فيما يتعلق بتحول المجال الأدبي - ليس فقط من خلال انتشار التكنولوجيا الرقمية وظهور الأدب الإلكتروني ، ولكن بشكل خاص من خلال تأثيرات تقنيات الاتصال الرقمي مثل الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة ، إلى جانب طرق الاتصال المرتبطة بمنصات وأدوات الوسائط الاجتماعية مثل الرسائل النصية و twitter و Facebook والمدونات.
أثبتت قصة الفلاش - سواء في شكلها المطبوع أو الرقمي - أنها بارعة بشكل خاص في الاستجابة للحاجة إلى التكثيف والتسريع المتزامنين اللذين يتميز بهما الإعلام الجديد. يقول بيلامي Bellamy، بينما يمتلك القراء "مديات انتباه أقصر من ذي قبل ، إلا إنهم أيضًا مجهزون جيدًا لمعالجة المعلومات بسرعة" ، ويمكن القول إن وسائط القصة المايكرو تتكيف تمامًا مع مهمة إثارة كثافة عالية حيث يكون وولوجنا إلى العمل والعالم متطابقًا . هذه المهمة ليست مباشرة بأي حال من الأحوال ، كما يقول رويال " إذا كنا نعيش في عصر مديات الانتباه القصيرة ، فنحن على نفس المنوال محاصرون بتاريخ أو تواريخ السرعة." مهنة القصة المايكروية لا تقتصر على مطابقة سرعة الحياة اليومية فحسب ، بل في "ما تسميه هيلين سيكسوسCixous [...]" العثور على البطء داخل السرعة ". على الرغم من أن القصة المايكرو هي نوع من أنواع الأدب الانتهازي الذي يتم تأطيره بشكل متزايد من خلال الاهتمامات التجارية والنفعية ، إلا أن هذه المهنة تظل في صميمها بقدر ما تعكس أفضل أعماله التزامًا عميقًا بالاستجابة بشكل استباقي لوتيرة الحالة المعاصرة. تعتمد فعالية هذه الاستجابة في جزء كبير منها على اكتشاف مقياس للتعبير يتناسب مع إحساسنا المعاصر بالحياة ، وهذا هو المقياس الذي تظل القصة المايكرو موجهة اليه . أخيرًا ، "الصفة الأساسية [للقصة المايكرو ] [...] هي الحياة" نفسها ، وفي استكشاف الحد الأدنى ولكن الشدة القصوى لهذه الأعمال ، نكتشف وسيلة "للرؤية السريعة [ولكن] البقاء لفترة طويلة". وبهذا المعنى بالتحديد ، بالعودة إلى الصياغة الافتتاحية لهذا الفصل ، فإن القصة المايكرو "تناسب عصرنا".



#محمد_نجيب_السعد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصص همنغواي القصيرة /3:
- حروف سوداء فوق صفحات بيض: أدب سكان استراليا الأصليون
- التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-5
- قصص همنغواي القصيرة/2
- قصص همنغواي القصيرة /1
- التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-4
- التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-3
- وداعاً للسلاح وعناقيد الغضب : تقليلية همنغواي وتكثيرية شتاين ...
- التقليلية الأدبية في القصة القصيرة الأميركية-1
- هل الأكثر يعني أكثر أم الأقل يعني الأكثر : بين التقليلية و ا ...
- رسائل إليوت الى إميلي هيل تكشف عن لوعة حب كبيرة
- لماذا ما زلنا نقرأ إرنست همنغواي؟
- صور الحرب عند همنغواي
- همنغواي : أسلوب اللاأسلوب
- الشمس تشرق أيضا : قراءة في مسودات رواية همنغواي
- شعر الغاوتشو:رعاة البقر الأرجنتينيين
- شعر الأحراش : شعر رعاة البقر الأستراليون
- قراءة في شعر رعاة البقر الأميركيين 2
- و لرعاة البقر أدبهم : قراءة في شعر رعاة البقر الأميركيين 1


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد نجيب السعد - القصة المايكرو