غانم عمران المعموري
الحوار المتمدن-العدد: 6860 - 2021 / 4 / 5 - 09:46
المحور:
الادب والفن
ترى من خلال ملاحظة النص وقراءته أن جسداً ملتهباً يُعانق روحاً مفعمةً بالإحساس والمشاعر الثورية فيلتحمان ليُشّكلا نَفَساً واحداً بزفيرٍ حارقٍ للظلم والطغيان لذا كانت غيمة أيلول صرخة حُب ووفاء لصديقٍ ضحى بنفسه من أجل الوطن, فتلمس في مقاطعه الشعرية الموسيقية تراتيل قُدسيّة تتصاعد عِبْرها نغمات موجيّة أثيرية احتفائية تُهيمن على تقطيعات وبُنية النص عند تشكيله ليربط لنا بتقنية معمارية صوتية مؤثراتية بين غيمة أيلول ووقعها الفعال على الذّات الشاعرة وعلاقتهما التبادلية بالعالم الذي يُحيط بهما بكل تجليات فكانت علاقة الغربة والألم والحسرة التي تتمحّور حول الذّات الشاعرة تأتلف وتنسجم وتتشابه وتتوحد في روح واحدة بين المرسل والمرسل إليه أي بين الناص الصلف وبين صديقة الثائر الوطني الشاعر المغترب وسام هاشم مما يجعل تلك الشحنات الكهربائية الروحية بين الطرفين كالبركان يخرج من الذّات الشاعرة تمرداً وثورة على الواقع المُزري الذي كان يُعانيه المرسل إليه وكأنه يتكلم بلسانه ويُعبر بأحاسيسه وينقل أوجاعه وآلامه لذلك ولدت قصيدة " غيمة أيلول " كعنوان زاخر بالمعاني والدلالات متعدد الصور النابعة من وحدة النص البنيوية الفكرية والتأملية وباعتباره جزءاً من موجهات القراءة ويعكس حالة الناص وما تخبّىء في داخلها من معاني ودلالات بالإضافة إلى مزاياه الفنية ..
كانت القصيدة مُهداة إلى الشاعر المغترب وسام هاشم بنصه " إلى وسام هاشم مبدعا ينبض بالحياة "
الإقتراب الحسيّ وتعانق الأرواح وأتلافها أثيريّاً جعل من الكلمات تنسال كحثيث المطر على الأرض الخضراء, بوح لامس الواقع بصدقٍ وعفوية خالية من أي نفاق فالشعر والألحان كطقوس شفافة رَبعت في الذّات المرسلة لتهُّب إلى بَساتيّن وورود الذّات المرسلة إليها كما في نصه:
طرح نفسه كغزال بري فأصطاده الشعر
وحين صار شاعرا كتب قصيدة لابنته
فأقتنصها المغني ورددها العاشقون لحبيباتهم
لا ليلٌ حكيم يغريه بالتخلي عن فلسفة الشوارع
ولا شامات حرب تمنعه من تمحيص القبل
يُساهم الإيقاع الداخلي في تغذية النص بدفعات موسيقية مؤثرة تتجلّى في التوازي والتكرار كما في " لا ليلٌ حكيم يغريه بالتخلي عن فلسفة الشوارع
ولا شامات حرب تمنعه من تمحيص القبل"
يستغل الشاعر مكونات التوازي الصوتي لتشكيل بُنية معمارية داخلية تتضمن الإيقاع الموسيقي المتنامي والمتناغم مع حركة النفس وديناميكية الدلالات النصية التي تتفاعل مع معظم مكونات النص لغرض إنتاج حركة النص الإيقاعية..
وظف الناص أسلوب الإنزياح في نصه كما في :
يطحن قمح الحزن في مجرشة خرساء
ويمسد ضفائر الصباحات بأصابع صفر
يرى جون كوهن " أن الشرط الأساسي والضروري لحدوث الشِّعرية هو حصول الانزياح باعتباره خرقًا للنظام اللُّغوي المعتاد, وممارسة استيطيقية" 1.
حيث جعل للحزن قمح يُطحن بخروجه عن المألوف والمعتاد ليصل إلى أعلى درجات الحزن الذي ينتاب الإنسان كما وصف المجرشة بالخرساء محاولةً منه لإضفاء البُعد الإحساسيّ بالألم وبذلك فإنه تجاوز السائد والمتعارف عليه لإضافة اللمسات الإبداعية والجمالية والتعبيرية على مكونات وبُنية نصه ونقل تجربته الشعورية المليئة بمشاعر الصدق ونقل واقع حقيقي للمتلقي والتأثير فيه ..
لذا يشير قاموس جون ديبوا أن الانزياح " ذو قيمة جمالية يصدر عن قرار للذّات المتكلِّمة بفعل كلامي يبدو خارقاً لإحدى قواعد الاستعمال التي تسمى معيارًا يتحدد بالاستعمال العام للغة مشتركة بين مجموع المتخاطبين بها " 2.
وضع الناص عنوان نص الشاعر المغترب وسام هاشم " أين أنتِ " من ضمن نصه كم في :
لكنه ومثل أي ديك لا ينام يصيح في كل فجر
( أين أنت )*
انتقل بنا بأسلوب وتقنية فنية لبث صور شعرية متشظاة من الصورة الأصل لحياة الشاعر المغترب كما في نصه :
مرَّ سريعاً كغيمة أيلول
ولم يعرف أن مروره السريع هذا سيتحول
إلى حنين بذاكرة طويلة عن الحرب والأمهات
والمقاهي
وعن الشمس العتيقة في باحة الدار
مرَّ سريعاً كدمعة قط !
ليبدأ هذا المقطع بتكرارالجملة " مرَّ سريعاً " ويُّلْحقها بكاف التشبيه " كغيمة أيلول "
أستخدم الشاعر كاف التشبيه بين المرور السريع وبين غيمة أيلول لعقد مقارنات حافلة بالخيال بهدف التوضيح ومنح الصيغة رونقًّا بلاغيًّا مُثيرًا للمتلقي بالإضافة إلى قيمته الشعرية في النص ويعطي القدرة على التشكيل الصوري بشكل ملموس كما أنه ينقل إحساس الشاعر النفسي وانفعالاته بصورة واضحة للمتلقي, حتى يجعل من أسلوب التكرار في المقطع الثاني كما في نصه :
مرَّ سريعاً كدمعة قط !
يكرر الشاعر جزءاً من جملة " مرَّ سريعاً " تكراراً فنياً جمالياً ابداعياً لما لهذا التكرار من صدى واسع له أثره النفسي المؤثر في المتلقي عن طريق إيقاع موسيقي يتناغم وينسجم من روحه الذواقه بحيث يترك أثر جمالي على الجزء المكرر من الجملة مما ينعكس بدوره على الجزء المتغير في الجملة فيحقق بذلك دلالات جديدة وصور شعرية نتاج التفاعل والاقتران بين المكرر والمتغير في ذات الجملة..
استثمر الناص كاف التشبيه لأن " التشبيه فَنُّ جميل من فنون القول، وهو يدلُّ على دقَّة مُلاحظة الأشباه والنظائر في الأشياء، سواءٌ أكانت مادّيات تدرك بالحواس الظاهرة، أو معنويات، حتى الفكريات المحض، إذْ ينتزع منها لمَّاحُو عناصر التشابه بين الأشياء التي تدخُل في حدود ما يُعْلَم ولو لم يكن له وجودٌ خارج الأذهان، فيجدوا بينها أجزاء يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّروا عمّا يلاحظوه من تشابُهٍ يشبه بعضها بعضاً، على سبيل التطابق أو التقارب، فيُعبّرون عمّا يلاحظونه من تشابُهٍ بعبارات التشبيه، ويَحْسُن في ذوقهم الأدبيّ أنْ يُشَبّهوا ذا الصفة الخفيّة بذي الصفة الجليّة، نظراً إلى وجود جنس هذه الصفة أو نوعها فيهما، وأن يشبّهوا ذا الصفة الجليَّة بذي الصفة الأجلى، وأن يشبهّوا ذا الصفة الأقل أو الأضعف أو الأدنى، بذي الصفة الأكثر، أو الأَقْوَى، أو الأعلى، نظراً إلى التشابه في عين هذه الصفة أو نوعها أو جنسها فيهما.
ويُقْصَد التشبيه لتحقيق غرض بيانيٍّ فكريّ أو جمالي، أو فكري وجماليٍّ معاً "3. كما في نصه :
كقبلة قروية في صيف أحمر
لم يعرف أنه حين يصاحب ( ادغار آلن بو )
ستندلق شلالات العزاء على خده
ويترك كل شيء
ليتزلج على النهر
انه يغفو الآن... يغفو ..
بإنتظار أن تصله الرسائل
فقيهُ هجرة
وسادن لهاث
وعراف خبز أسمر
شبه الناص القبلة التي تُطبع على خد القروية في الريف لما تمتاز من الخجل بالحرارة في فصل الصيف عندما تلفح الوجوه البيضاء فتصبح حمراء بفعل الحرارة لما يمنحه التشبيه من تدفق الصور الشعرية من مُبدع يشعر بلذة الخلق والابتكار و تُعْطِي المعبّر البليغ مجالاً واسعاً لانتقاء ما يراه أكثر تأثيراً فيمن يوجّه له الكلام، أو أكثر إبداعاً..
وضع الناص مقارنة جميلة بين الشاعر المغترب وبين شخصية أدبية أمريكية كما في نصه :
لم يعرف أنه حين يصاحب ( ادغار آلن بو )
المغترب الذي وصفه الشاعر الصلف, شخصية أدبية لها حضورها العراقي والعربي والعالمي
يتمتع شعره بالتمرد على كل مظاهر الفساد المجتمعي والسياسي بلغة شعرية فهو شاعرٌ ومؤلفٌ ومحررٌ وناقدٌ لتكون نصوصه كائناً حيّاً تتجول بين الأزقة وفي الوديان والسهول وتهرب حينما يكون الهروب لابد منه وتقف بوجه الرياح العاتية وكذلك نابع من عمق التجربة ونتاج سياقات خارجية اجتماعية ونفسية أحاطت بالشاعر المغترب منذ نعومة أظافره وهو يشهد فوضى الحياة في ظل حرب طاحنة وحصار قاتل ودكتاتورية مقيتة وتقييد للحرية ورغم كل هذه التحوّلات التي شهدها في بُنية المجتمع العراقي والدول المجاوره استطاع أن يضع بصمة خاصة به لذا فإن الناص يُبين بأن الشاعر المغترب حمل على عاتقه قضية وطن نبت لحمه من خيراته وارتوت شرايينه من مياهه العذبه لذلك ذكر صحبته لشخصية أدبية أمريكية..
" ادغار آ لان بو وهو ناقد أدبي أمريكي مؤلف وشاعر ومحرر ويعتبر جزءاً من الحركة الرومانسية الامريكية اشتهرت حكاياته بالأسرار وأنها مروعة وكان بو واحداً من أقدم الممارسين الأمريكيين لفن القصة القصيرة ويعتبر عموماً مخترع نوع خيال التحري وله الفضل في المساهمة في هذا النوع من الخيال العلمي الناشىء"4.
حول لنا الناص الصورة الشعرية إلى صورة حقيقية ذات موسيقى وإيقاع صوتي داخلي له الأثر النفسي المباشر على المتلقي كما في نصه :
فقيهُ هجرة
وسادن لهاث
وعراف خبز أسمر
اشارت منه بأن المغترب المهاجر تصله كل أوجاع العراقيين وكأنه يعيش بينهم صار الهّم والوجع شعره الذي يواسي نفسه المشتاقه ويخفف عذابات الروح ويُقرب المسافات كان الصلف متأثراً بشخصية الشاعر المغترب فكانت نصوصه البراقه نشيداً واغنيةً بلسانه يتلوها وكأنه يُرّتل مقاطع قُدسيّة كراهب في صومعة النصارى لذلك جاءت نصوص الصلف صادقة وواقعية لأنها نابعة عن قوة تجاذب الأرواح فيما بينها وكأنه يتحسس بحاسته السادسة مايجري للمغترب عن بُعد وهذا ما أضفى على النص جمالية شعرية..
ويستمر الصلف بوصف حالة المغترب في نصه :
لا يترك أثرَ ظهر على طريق أبرص
يدير رأس الذكريات صوب القبرات
يقول للغابات : من أعطاك الحق في الاحتفاظ
بحياتي كيف لي أن أضيق لاتحرر منك!
ويقول للطيور : انت ايضا لاتشبهين سواي انت
معرضة للصيد وترك الحليب الدسم بالعفوية
ويقول للأرض الأجساد الميتة لا تعض!
فعلام تعارضني تماثيل المدينة!
ليصف بأنه كالطائر الحُرّ الذي يرفض القيود ويحب التحرر بالكلمة والقول الصادق ويتمرد على أصحاب العقول العفنة التي عاثت في الأرض الفساد وحولت أراضي العراق الخصبة إلى مستنقعات من المياه الآسنة فأكلت الأخضر واليابس وسرقت حليب الطفل من ضرع أمه كما وصفهم الشاعر الصلف " تماثيل المدينة " ..
حتى ينهي الناص بعض من سيرة الشاعر المغترب المليئة بالحياة والنهضة الشعرية الحديثة بنصه :
هكذا يهرب لمواله العشبي ولقنطرته الآمنة
ثمينٌ مثل اخر محطة .. ثمين مثل اول محطة
يدجن الشعر في دمه ويطلقه في الريح
أو على رأس حبيبته...
الان وبعد كل هذا العمر .....كيف له أن يخاف من
الامكنة وحراس المنافي لا يتبعون الشعر !.
تتجسد وحدة القصيدة من خلال الارتباط الوجداني العميق بين الذّات والموضوع حيث أن فضاءها الدلالي يتجاوز حدود المألوف والمعتاد لينقل لنا سيّرة عَطِرة للشاعر المغترب وسام هاشم الذي جعل من اللغة واحة خضراء يقطف منها مايشتهي دون أن تمنعه فهو ينشد نحو حياة كريمة لرفضه ذلك العالم الغامض بكل تناقضاته والذي سلبه حريته وله قصيدة جميلة بعنوان " اللامرئي " يقول فيها :
يطرق باباً
لا صوتَ يجيب
ينقر في نافذة
لا همسَ يردّ
يخطو في الأرض
لا توصله قدماه
هذا الرجل
كيف سيعرف
أن القبضة من ريح
وأصابعه محض هواء
والأقدام خرافة.
اقترب الناص الصلف في طريقة شعره وتمرده على الواقع المُظلم من شخصية الشاعر المغترب وسام هاشم فكلاهما يرفضان ذلك الوجود البائس وسط غابة وفوضوية عارمة وانعدام الحرية لذلك كانت قصائده تتضمن بُنيات لغوية داخل النص وكل بُنية تُمثل انعكاساً للواقع الاجتماعي والنفسي الخاص بالذّات الشاعرة وعام يتعلق بالمجتمع الذي يحيط به..
وَأُنَوِهُ للشاعر الصلف أن يُقلل قدر الإمكان من استخدام (واو العطف ) لأن ذلك يُثقل القصيدة ويُضعف من قوتها البلاغية ويصيبها بالرتابة والملل ولو حاول الناص إعادة كتابتها دون ( واو العطف ) إلا للضرورة سوف يتلمس جماليتها وقوتها ومدى تأثيرها على المتلقي ..
ولكم قصيدة الشاعرعمار الصلف
غيمة ايلول
إلى وسام هاشم مبدعا ينبض بالحياة
طرح نفسه كغزال بري فأصطاده الشعر
وحين صار شاعرا كتب قصيدة لابنته
فأقتنصها المغني ورددها العاشقون لحبيباتهم
لا ليلٌ حكيم يغريه بالتخلي عن فلسفة الشوارع
والا شامات حرب تمنعه من تمحيص القبل
يطحن قمح الحزن في مجرشة خرساء
ويمسد ضفائر الصباحات بأصابع صفر
لكنه ومثل أي ديك لا ينام يصيح في كل فجر
( أين أنت )*
مرَّ سريعاً كغيمة أيلول
ولم يعرف أن مروره السريع هذا سيتحول
إلى حنين بذاكرة طويلة عن الحرب والأمهات
والمقاهي
وعن الشمس العتيقة في باحة الدار
مرَّ سريعاً كدمعة قط !
كقبلة قروية في صيف أحمر
لم يعرف أنه حين يصاحب ( ادغار آلن بو )
ستندلق شلالات العزاء على خده
ويترك كل شيء
ليتزلج على النهر
انه يغفو الآن... يغفو ..
بإنتظار أن تصله الرسائل
فقيهُ هجرة
وسادن لهاث
وعراف خبز أسمر
لا يترك أثرَ ظهر على طريق أبرص
يدير رأس الذكريات صوب القبرات
يقول للغابات : من أعطاك الحق في الاحتفاظ
بحياتي كيف لي أن أضيق لاتحرر منك!
ويقول للطيور : انت ايضا لاتشبهين سواي انت
معرضة للصيد وترك الحليب الدسم بالعفوية
ويقول للأرض الأجساد الميتة لا تعض!
فعلام تعارضني تماثيل المدينة!
هكذا يهرب لمواله العشبي ولقنطرته الآمنة
ثمينٌ مثل اخر محطة .. ثمين مثل اول محطة
يدجن الشعر في دمه ويطلقه في الريح
أو على رأس حبيبته...
الان وبعد كل هذا العمر .....كيف له أن يخاف من
الامكنة وحراس المنافي لا يتبعون الشعر !.
المصادر
1-إسماعيل شكري, نقد مفهوم الانزياح, مجلة فكر ونقد, العدد 23, نونبر 1999.
2-سامية محصول, مجلة دراسات أدبية, الدار العربية للكتاب 2010.
3-عبد الرحمن الميداني, البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها, ج 62, ص 588.
4-موسوعة ويكيبيديا .
#غانم_عمران_المعموري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟